عندما يتبلّد الإحساس

"على هامش الكلمة المشفّرة للرئيس حسني مبارك"

عدنان كنفاني


يصدق المثل القديم عندما قال: (خود جناب مثل الطناب).!
ويصدق أكثر عندما نحاول أن نسقطه على الواقع المعاش، ولا نصدق أنفسنا ونحن نرى ونسمع ونتابع الكلمة المغلقة المشفّرة التي تحدث بها الرئيس المصري حسني مبارك في معرض تفسيره وتحليله لما يجري في غزة.. وكأنه جاء "بالديب من ذيله".
ولو تركنا موضوع غزة لأهلها، نقول وماذا عما يجري في مصر.! وقد خرج إلى الشوارع ربع سكان مصر، في القاهرة، وفي الكثير من محافظات مصر يصرخون غضباً، ويرفعون شعارات ونداءات لا أعتقد أن أحداً غير القابعين في سراديب الخوف لم يقرأها، أو يسمع الحناجر التي رددتها، أو يلتقط من دموع الناس المقهورين مطالبهم من حكومتهم "الرشيدة"، وممن يمثلونهم على المستوى السياسي..
ولكن ما من مجيب.. ولا من يسمع، وكأن هؤلاء الملايين ليس لهم أي قيمة في رأي راعي "الحكمة" في قصر الجمهورية في مصر.
ولأنه لا يسمع ولا يرى، لا يعنيه أي صوت مغاير لما فطرته عليه ساداته، ولا يمتثل لإرادة الناس.. أكثر الناس، الذين يطالبون بأمور لا أتصوّر أنها في خانة المعجزات والمستحيلات، فتح معبر رفح.. وإيقاف تصدير الغاز المصري للكيان الصهيوني، "هذا الوقود الذي يغذي آلة الحرب الصهيونية بأبخس الأثمان"، وطرد السفير الصهيوني الذي لوّث علم دولته المصطنعة فضاء مصر، وشرف مصر، وسخر من بذل وعطاءات آلاف الشهداء المصريين الذين قضوا من أجل حرية أرضهم وكرامة بلدهم وأمتهم.
يقول "الـ مبارك من سادته الأمريكان والصهاينة": إنه وفيّ على تنفيذ معاهدات موقعّة بين الكيان وبين حكومة مصر.. فنقول: وهل هذه المعاهدات أو الاتفاقيات غير قابلة للإلغاء، أو للتهديد بالإلغاء "وهو أضعف الإيمان".؟
ألم ينهي الرئيس الراحل جمال عبد الناصر "رحمه الله رحمة واسعة" اتفاقية ومعاهدة استثمار واستغلال واحتلال قناة السويس.؟
ألم يلغي مهمة قوات الأمم المتحدة بالحدود الفاصلة بين مصر والكيان قبيل حرب 1967.؟
وهذان مثالان من أمثلة لا تعد ولا تحصى كانت كلّ الأمم تعقدها أو تلغيها تبعاً لمصالحها وأمنها وكرامتها وانتمائها.
ثم يا أيها "الـ مبارك من قوى الشر والعمالة"، تقول بالفم الملآن: أنك لن تفتح معبر رفح قبل أن يقف على الطرف الآخر "الفلسطيني" حرس السلطة، والحرس الأوروبي.. وهذا كما نرى نوع من تقديم الولاء للسادة في أمريكا وفي تل أبيب، وإلى من يساير مشروعهما الإحلالي في المنطقة كنوع من التعبير عن تصميم "حكومة مصر" على الوفاء لهم، وطمأنتهم، كأنك تطيّر لهم رسالة علنية مفادها: أن مهما جرى، ومهما تصاعدت الأحداث الشعبية في مصر، ومهما دفع الشعب الفلسطيني من دمه ووجوده وحياته، فستبقى الوفيّ المحافظ على العهد.. والود.
ومن أوحى لك أيها الغارق في أفانين "الحكمة" أن إنقاذ قطاع غزة من الهجمة الصهيونية، أو فتح المعبر لإتاحة فسحة للناس المخنوقين حصاراً ودماراً كي يتنفسوا رياح الإنسانية، ونجدتهم في الشأن الإنساني "الأمان للضعفاء، والطعام للجوعى، والعلاج للمطحونين" سيقطع بين الضفة وغزة، وسيفصل بين فلسطين الموحدة.؟
إنه زمن الغرابة يا رئيس مصر ونحن نعيش في القرن الواحد والعشرين وسط عشرات من الهيئات الدولية، ومؤسسات وهيئات حقوق الإنسان وحقوق الحيوان تعمل على إنصاف البشر والحيوانات على هذه الكرة، تقوم الدنيا ولا تقعد إذا وقع قط في ساقية، أو إذا تعرّض مغتصب صهيوني أغتصب حقوقنا، ويتنفس من هوائنا، وينعم بخيراتنا لطعنة من ثائر غاضب، ثم لا تبالي بقتل وتدمير أمّة كاملة "البشر والشجر والحجر" على الشكل والصورة التي نراها جميعا.. أم أنك لا تستطيب مشاهدة الأشلاء والجثث والدماء فتلتفت إلى مناظر أخرى بعيدة عن خدش مشاعرك.؟
لا أعرف إذا كنت تعتقد أن حماس وفصائل المقاومة في غزّة، وشعب غزّة وافدين من كوكب آخر غريب ومتوحّش وبدائي، ولا أعرف إذا كنت لا تعترف بأن حماس فصيل منتخب من الشعب بشهادة كل من تابع سير الانتخابات، ولا أعرف إذا كنت لم تسمع بعد بهبّة شعب مصر ونداءاتهم التي أصمّت آذان العالم، ولا بهبّة الشعوب العربية والإسلامية والحرّة في العالم أجمع التي أعلنت الغضب مما يجري في غزة، وصرخت تطالب بفتح المعبر.
لتخرج علينا وتعلن بكل الرجفات التي أوغلت تبليداً بمشاعرك وأحاسيسك أن المعبر لن يفتح إلا بالشروط الصهيونية والأمريكية..!
فأي إخلاص هذا.؟
وأي ثمن يا سيادة الرئيس أعماك عن سماع نداءات الملايين من شعب مصر، وشعوب العالم.!؟
نحن لا نعوّل كثيراً أو قليلاً على القمّة العربية المقترحة، ولكن أن يعمل أحد على تأجيلها لأجل محدد.! فهذا مؤشر إلى نوايا مشبوهة وخبيثة، وكلمتك المشفّرة بأسوار من قوات الأمن المركزي المعتاش من عطاياك فضحت كل النوايا، وكل المسيرة العفنة التي شاركت فيها حكومة مصر، وأصوات المأجورين فيها مشاركة كاملة مع العدو، واستماتةً بتقديم الغطاء السياسي والإعلامي ليكملوا هجمتهم على حساب شعب مظلوم..
نحن نعلم إلى أي درك وصلت معاناة شعب مصر على كل المستويات الاجتماعية، ونعلم عن حالة الفساد في مصر التي طالت كل المؤسسات الرسمية، ونعلم أيضاً أن مئات من العائلات المصرية تنام على أرصفة وفي مقابر وخرائب مصر، لا تجد وفراً ولو بالقليل لتأمين عيشها ليس أكثر، ونعلم أن أقسام الشرطة المفترض أن تكون في خدمة الشعب أصبحت أوكاراً لتجار الدعارة والمخدرات، ونعلم عن الاستهانة بالحريات على كل المستويات، ونعلم عن فساد مسيرة التعليم، والاستهانة بالأحكام القضائية، وبالمؤسسات الاجتماعية والنقابية، ونعلم أن شوارع القاهرة مرشوشة بمصفحات الأمن المركزي مع هراواتهم الجاهزة لتأديب وإخراس أي صوت يصدر من هنا أو من هناك ولو كان يطالب بتوفير رغيف العيش، ونعلم أيضاً أن الرغيف أصبح في مصر سلعة نادرة، وأن طبقة الأغنياء المحسوبين على الحكومة تلتهم في كل يوم قوت الناس، ونعلم أن أرض وتراث وتاريخ وخيرات وآثار ومؤسسات مصر تباع في المزادات الأممية، ونعلم أن مصر التي نحب وقد كانت حصن العرب الأمين والحضن الدافئ أصبحت في عهدك "الميمون" تسارع الخطوات نزولاً على كل المستويات لصالح شلّة الفاسدين المتحكمين بمصير مصر، وناس مصر.
نحن نعلم كل هذا.. نحزن ونتألم، وننتظر ساعة خلاص تنفض عن كاهل مصر عبء الذل والعار، وتعيد مصر إلى موقعها الطبيعي في طليعة الأمّة العربية.
لكن ما لا نستطيع أن نتصوّره، كيف تتبلد الأحاسيس إلى هذه الدرجة المهينة، وكيف يجري الاستهتار الأرعن المقصود بمشاعر الناس ومطالبهم وأمنياتهم.
لقد بحّت حناجر المصريين وهم يصرخون لطلب القليل من الكرامة، واستعادة القليل من ماء الوجه الذي أهدر على مدى عهدك "المُشرق".. ولكن كيف يسمع من في القبور.؟!
وكما قال المثل العربي قديماً: (خود جناب مثل الطناب)..
وحسبي الله ونعم الوكيل..

ـ ـ ـ