نحــو الخــلاص

بقلم : محمد سامي البوهي



أصوات نعرفها : مجموعة قصصية


جلس في انتظار الدور القادم من التتابع ، تعددت الملامح المستلقية على المقاعد ، والمشاهد بتسلطها فرضت على الأعين التطلع، طفل صغير يئن ويتشبث بالأحضان ... رجل جمع آلامه ودثرها بجلبابه القروي ... إمرأة تعض على منديلها كي توئد الآهات ،الكثير من المشاهد تباعدت مع الجدران بالحجرات ،ضيق التنفس يحاصره بين الحين والحين ،أراد انتزاع رئته من الداخل كي يستريح ، جهاد بعراك نحو الحياة، صوت السعال يرتفع بتبادل مع الجالسين ، قاهر الإنتظار وراء مكتبه الصغير بحلته البيضاء ، وبشراه التي يزفها بإقتراب الموعد للقاء،ارتفعت الأعناق وتوحدت الأنظار مع القادم الجديد،والخارج الذي يحمل بيديه ورقة الفرج والخلاص ،التتابع يسير بالموكب في النظم الرتيب ، اختلطت صوت الأنفاس المتحشرجة بالأنين ونوبات السعال ، والتدرعات الخافتة تستجلب الآمال ، قامت إمرأة تجر بقطارها طفلاً صغيراً وآلامه التي يزحفها خلف ظهره الغض ، توقفت هناك أمام المكتب الخاشع للوجوم ، تسألت بلغة الأرقام ثم عادت بقطارها ذات الخلف تعد خطوات المسير ، صوبت الأعناق المتباطئة أعينها نحوه بعد تلقي بشرى اللقاء ، الدور قادم بعد الخروج ، زاد الخناق بالتنفس نحو الحياة ، تقلصت الرئة حتى التحمت بالأوجاع ، تمددت حبيبات العرق فطفت على السطح ، خوف مجهول تسلق شراينه المتشعبة ، تجمهرت كتل الدماء أمام الفوهات مع الخارج السافر ، تلقى تأكيداً بالدخول ، قام يجرجر قدمه بقدمه الأخرى ، تساوت الأقدام بالغرفة المظلمة إلا من مصباح أوقده القابع وأحنى رقبته كي يضىء رقعته الأنيقة ، الكلاسكية تتخم المكان برائحة الماضي التي طغت على عنفوان المعقمات،أشار بيده للجلوس بعد أن مطّ شفتيه بروتين الإبتسامات:


- كيف حالك؟

- الحمد لله.
- تتناول الدواء بإنتظام ؟

- نعم ولكن لا أشعر بتحسن.

- هل قمت بعمل صورة بالأشعة.

- نعم ها هي .


جذبها بأطراف أناملة المترفة ، لوى رقبة المصباح نحوه، رفع صفحة الصورة كي تعترض الضوء المنسدل ، كشفت الصفحة عن كتلتين من السواد تتعرضهما خطوط مائلة للبياض وبعض من أشكال تائهة بين المسميات ، دقق فيها بعمق عصيب ، أعاد عنق المصباح نحو الرقعة كاشفاً عنها الظلال.

- الحالة مستقرة.

- لكني لا أشعر بتحسن .

- صورة الأشعة تنبىء بالخير.

- الإختناق يزيد يوماً بعد يوم.

- تفضل استلق على السرير.

استلقى بجسده على السرير الرابض بين ثنايا الأمس البعيد ، مددّ نظره ناحية الفضاء المستكين يعد النجوم أملاً في سقوط شمس غائبة.



- تنفس.

- ................

- أحبس الأنفاس.

- ..

- الآن أخرجها ببطء.

- .... .... .... ....

- كيف الشعور؟

- آ.... آلام

- وهنا تحت الضلوع؟

- آلام......

- مد يدك للأمام في ثبات.

- لا أستطيع.

- حاول.

- لا أستطيع .

- هنا أعلى البطن .

- آلام .....

- ارتد ملابسك .


لملم قميصة دون إهتمام بالنظام ،تكفأ حتى تجالس على المقعد.


- ما الأخبار؟

- الأمر بسيط.

- بسيط؟!

- سنغير نظام العلاج .

- هل الأمر خطير؟

- لا تقلق لست أنت الوحيد.

- هل سأموت؟

- كلنا سنموت.

- كم تبقى لي من العمر؟

- عمرك كله الباقي.

- أريد أن أستريح.

- تناول الدواء بإنتظام.

- أهي المسكنات ؟

- نعم .. أقوى من آلامك.

- أريد حل المشكلة من جذورها.

- لا جذور للمشكلة.


- هل ضمرت؟

- ضمرت قبل وجود العلاج.


رفع عدساته اللامعة من أمام عينية ، استبدلها بأخرى أصغر منها حجماً ، أمسك بقلمه الذهبي وأخذ يثرثر بأسمائه على ورقة الخلاص ...


- تفضل .

- أتناوله بإنتظام ؟

- نعم كي يأتي جدواه.

- شكراً لك.

- عفواً .. مع السلامة.

تقارعت الأجراس لزف البشرى التالية ، أمسك بالورقة وسط الصفير تناغم بين حروفها اللاهجائية ، تسلل تشعب الخطوط اللاخطوط، ابتسم لأوجاعه ... مسح ملامح الجالسين ... الطفل يتشبث والأنين ... الرجل بجلبابه ... والمرأه تتمسك بالمنديل ... مزق الورقة جزءاً تلو الجزء ، تقدم نحو الجالسين كي يمنحهم ما ينتظرون.......