مدن المستقبل- يوتوبيا

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
مدن المستقبل- يوتوبيا
المصدر : حازم العظمة
لم تكن المدن اندثرت بعد، غير أنها لم تعد "مدناً" بمفاهيم القرن العشرين (والذي بعده)، مدن البيوت-العلب التي تشبه أقنان الدجاج وتشبه السجون (حتى إنهم وضعواعلى نوافذها قضباناً حديداً، كما السجون)، مدن القرن العشرين والذي بعده، كانت تحتويها سحابة سوداء، وتخنقها الوحوش الميكانيكية التي ابتدعت لحرق النفط
نبحث، يبحثون عن مدن جديدة متنوعة الأغراض، لها أسماء جديدة، ووظائف جديدة.
مدن القرن العشرين (والذي بعده) غيلان كوابيس ترزح على الصدور، المدن الجديدة عادت خفية، لا تراها من الطائرات، أو من الجبال، لا تسدُّ الأفق ولا تغلق الهواء.. البيوت تبعثرت صارت منفردة أو في مجموعاتٍ قليلةٍ، هنا وهناك، غاصت إلى منتصفها في الأرض أصبحت بدورها خَفيّة، يغطيها العشب والكثبان، راحت تنثني عليها الجبال، أو تدور مع التلال، بيوت خفيضةٌ ملونةٌ، ولكن بالكاد تبقّع السهب، كأنها حقول ذرةٍ، لا تنتئ كغيلان من خرسانة وقحة، لا تشبه العقول المكعبة للقرن العشرين (والذي بعده)، عادت البيوت مدوَّرةً أو بيضاوية، الجدرانُ عادت متعرجة تشتهي أن تتلمَّسها، لها نسيجٌ يُلمسُ، عادت من طينٍ وتبنٍ، زواياها كليلة لا تشبه هندسة "ديكارت" ولا بديهيات "كانت" أو "نيتشة"، عادت لا تشبه بيوت أحدٍ، أو عادت تشبه بيوت الكلتيين والأمازيغ، عادت تشبه بيوت العرب والأفغان والمكسيكيين، البيوت الطين التي قصفها اليانكيون على رؤوس أصحابها في إحدى آخر حروبهم الـ142 قبل أن تنهار بدورها الإمبراطورية ... والإمبراطورياتْ.
ناطحات السماء مفخرة القرن العشرين، والذي بعده، أصبحت مهجورة، تركوا بعضها، كأثرٍ تراه من بعيد وأنت تعبر، عادت منفّرةً مقولات تحدي الجاذبية الأرضية، عادت منفرةً مقولات إخضاع الطبيعة وملء السماء، مفاهيمُ "الإبهار" و"التوسع" ومفاهيم الأعلى والأكبر والأغلى والأضخم غدت منفرةً -كما كان الحال في كتاب غينيس ومؤسسة غينيس للأرقام القياسية: أحد أيقونات أو تمائم القرن العشرين الأشد ابتذالا- الأرقام القياسية نفسها أصبحت مضحكة، توقف هوس الأعلى، الأغلى، الأفخم، الأضخم.. الأبشع، الباحثون والطلاب عادوا إلى الوثائق ليفهموا فيمَ كانت تستعمل هذه البطاريات من "مكاتب" مرصوفة في طوابق كأنها الجحيم، أو فيمَ كانوا يستخدمون هذه الجبال من مخلفات السيارات، البلاستيك، العبوات-البلاستيك، مقابر السيارات، مقابر الإطارات ومقابر الأسلحة، مقابر الأباطرة، الخزانات- بضائع القتل، المخازن الهائلة التي كانت تُؤوي أشياء بشعة، كابوسية، ومن ثم يوزعونها على الأرض ويُعجبون من كيف أنهم تركوها هكذا في الأرض.
المدن عادت مدناً فعلاً، مدناً للاحتفال، للعيد، للمسرح، للرقص، للشعر، المدن عادت متاحف تحت السماء، اللوحات خرجت من صالونات الأثرياء (القدامى والجدد) وممولي الحروب وسماسرة القتل ومبيضي البؤس، خرجت من صالونات المهربين إلى جدران الساحات والشوارع.
... لن أذهب طويلاً في وصف مدن المستقبل، بإمكان كلّ منا أن يتخيَّل كيف يمكن أن تكون المدن مدناً حقاً، مدن-يوتوبيا.
أما لماذا يوتوبيا... فلأنَّ اليوتوبيا ما يميّز الكائنات البشرية، ما يميّز الإنسان عن الكائنات التي تجترّ الماضي وتعيد اجتراره بلا نهاية، كانت ثمة يوتوبيا الآلة البخارية، ثم جاءت الآلة البخارية... كان ثمة يوتوبيا الكتابة، بعدها -في كل مكان من الأرض- ابتدعت الإنسانية الكتابة، كانت ثمة يوتوبيا بساط الريح قبل أن نطير حقاً، بدون يوتوبيا لن يكون ثمة شيء سوى الصوت الرتيب للفكوك، وهي تمضغ، ولن يكون ثمة من مشهد سوى لكائنات عيونها فرغت منذ أزمان سحيقة.

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

"تكتيك" عمايري في خطوته الثالثة

المصدر :سعد القاسم

أعترف بداية بأني لا أكون محايداً حين أتحدث عن عبد المنعم عمايري، فقد أثار هذا الممثل والمخرج الشاب اهتمامي قبل تخرجه من المعهد المسرحي، وقبل أن يشاهده الجمهور لأول مرة من سنتين على الأقل، حين حضرت أحد مشاريعه الدراسية، وكان بإشراف المسرحي القدير غسان مسعود، الذي أشرف فيما بعد على مشروع تخرج الدفعة التي ينتمي إليها عبد المنعم عمايري في عرض "ريما" أحد عروض التخرج المتألقة.
كان حضور عبد المنعم في عرض التخرج واثقاً ومتميزاً بصرف النظر عن حجم الدور، غير أنه تعرض لحادثة على خشبة المسرح أدّت إلى كسر ساقه، وكان من المفترض أنها ستحول بينه وبين استمرار مشاركته في العروض التالية، مع ما يشكل هذا من تحدٍّ صعب للمشرف في توفير البديل القادر على أداء الدور في زمن قصير للغاية، لكن الممثل الشاب جنَّب أستاذه وزملاءه هذا الواقع الحرج، و تحامل على آلامه، وأكمل مشاركته في باقي العروض بساق مجبرة. وكنت يومئذ مسؤولاً عن الصفحات الثقافية في صحيفة "الثورة"، فأشرنا إلى ماحدث في الصفحة الأخيرة من الصحيفة، مما دفع أحد الصحفيين ليقول له مداعباً: إنك ستدخل الوسط الفني بفضل ساقك المكسورة..
دخل عبد المنعم الوسط الفني سريعاً، ولكن ليس بفضل ساقه المكسورة، كما قال الصحفي، وإنما بموهبته الاستثنائية، التي جعلته قادراً على أداء أدوار مختلفة بالبراعة ذاتها. وكذلك بفعل طموحه ودأبه اللذين جعلاه موضع ثقة المخرجين، فأسندوا إليه الأدوار الصعبة بدءاً من أستاذه غسان مسعود، الذي ضمه إلى فريق مسرحيتة الناجحة "كسور". مرورا بهيثم حقي الذي اختاره لدور خاص في مسلسل "الثريا"، ثم ليحلّ محلّ النجم بسام كوسا، بعد اعتذاره عن متابعة دوره في الجزء الثاني من مسلسل "خان الحرير"، وصولا إلى مشاركته المدهشة في سلسلة "بقعة ضوء"، التي أثبت من خلالها أنه،أيضاً، ممثل كوميدي من نوع خاص.
طموح عبد المنعم لم يتوقف عند حدود تألقه كممثل، فقد دخل عالم الإخراج المسرحي باقتدار وفاعلية وحيوية مؤثرة، فكان أن لاقت تجربته المسرحية الأولى "صدى" صدىً واسعاً لدى جمهور المسرح، وكانت أهم شهادة تقول بأهميتها قيام غسان مسعود ببطولتها إلى جانب الممثلة الشابة الموهوبة والمتألقة سلافة معمار، ثم كانت تجربته الثانية "فوضى"، التي أعتزّ بأنه خلال رئاستي لتحرير مجلة "فنون" نشرنا مقالة عنها كتبها الزميل والصديق العزيز خالد مجر، وكانت واحدة من المقالات النادرة التي أنصفت المسرحية، قبل أن ينصفها مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي، ويمنحها جائزته الأولى.
اليوم يقدم العمايري تجربته المسرحية الثالثة "تكتيك"، ولعلّ اسمها يتلاقى مع واقع تاريخ تجربته المسرحية القصيرة والثرية في آن واحد، فهو هنا يتجه إلى أسلوب إخراجي مغاير لما اختار في تجربتيه السابقتين، فيعرض بإيقاع سريع يكاد يقطع أنفاس المشاهد نماذج من قاع المجتمع يلتقط كلٌّ منها بعض الوقت من زحمة الصخب العجول، ليبوح بألمه الشخصي، مستذكراً المحطات القاسية في تاريخه، التي دفعته إلى ما آل إليه، وكل ذلك في إطار حكاية زوجين عادا إلى بعضهما بعد فراق استمر ستة عشر عاماً، ليبحثا عن ابنتهما الضائعة.
نجح عبد المنعم في اختيار ممثليه بدءاً من المسرحي القدير والخبير فايز قز ق، الذي قَبِلَ أن يؤدي دور الزوج، إلى الممثلة الشابة رغد المخلوف، التي حظيت بفرصة اكتشاف موهبتها وقدراتها، مروراً بالممثلين الذين تألقوا في العرض: قاسم ملحو، وأسامه حلال، ولمى الحكيم، ونسرين فندي، وراما عيسى، وراقصة الباليه يارا عيد.
قد يؤخذ على العرض السرعة الكبيرة في الحوارات، مما أضاع بعضها على المتفرج، وقد نجد فيه بعض التأثر من تجارب مسرحية عربية. وبطبيعة الحال ستختلف وجهات النظر حوله، وربما إلى حد التناقض الشديد، ولكن من المفيد رؤية هذه التجربة ضمن الإطار العام لتجربة عبد المنعم عمايري في الإخراج المسرحي وعدم إهمال – تحت أية ذريعة - حضورها لدى الناس، وتأثيرها فيهم.

___________________________________

دعت الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008 لحضور عرض مميز بعنوان "موسيقى الصوت الشعري ـ احتفاء بمجلة شعر" من إخراج سيدة المسرح اللبناني المخرجة الكبيرة نضال الأشقر. وستقام هذه الاحتفالية يوم الثلاثاء 25 تشرين الثاني الساعة الثامنة والنصف على خشبة مسرح الحمراء. بالتزامن مع انعقاد ملتقى الشعر العربي المعاصر الذي تبدأ فعالياته غداً في قاعة رضا سعيد للمؤتمرات في جامعة دمشق.
تتضمن احتفالية "موسيقى الصوت الشعري" قراءات لسبعة أصوات شعرية من التي أسست لمجلة "شعر" العريقة، والتي كان لها أثرها البارز في حركة الشعر العربي الجديد، حيث سيتم تقديم هذه القراءات في إطار موسيقي إنشادي ينطلق من الموسيقا الداخلية لكلّ قصيدة ويرفدها بمزيد من الإيقاعات بهدف الإضاءة على غناها الشعري والكشف عن كنوزها، ومن هنا جاءت تسمية هذا اللقاء بموسيقا الصوت الشعري. وسيتم في هذه الاحتفالية تقديم مقاطع من قصائد أدونيس، بدر شاكر السيّاب، أنسي الحاج، محمّد الماغوط، يوسف الخال، شوقي أبي شقرا وفؤاد رفقة. يذكر أن احتفالية موسيقا الصوت الشعري هي من إخراج نضال الأشقر, وإعداد: نضال الأشقر وعيسى مخلوف.
أما الموسيقيّون والمنشِدون فهم: جاهدة وهبي، خالد العبد الله، عبد قبيسي، علي الحوت ونضال الأشقر .
____________________________________

مجلة “شعر” والثورة التي غيَّرت المفاهيم

المصدر : قيس مصطفى

يسردُ محمد الماغوط في أحد حواراته مجموعةً من الذكريات، تلك المتعلقة بقدوم بدر شاكر السياب إلى بيروت سنة 1960. في ذلك السرد يظهرُ السياب بوجهين: الأول يتعلق بأنه ذو روح هشة إذا ما تعلق الأمر بخبرات الحياة، والثاني يظهر فيه السياب كوحش ضار عندما يدير زمام القصيدة.
في ذلك الوقت يتذكَّر صاحب "سأخون وطني" أنه كان ضيفاً على مجلة "شعر"، وأنَّ أسرة تحرير المجلة كلها كانت ضيفة على يوسف الخال (صاحب المجلة)، وهذا الأخير كان ضيفاً على شارع السادات في رأس بيروت.
في ذلك الوقت، كلَّف يوسف الخال الماغوط بأن يعرّف السياب على مدينة بيروت والحياة الثقافية فيها؛ يقول صاحب "حزن في ضوء القمر": "فأخذته من ذراعه وقلت له: ...في هذا المطعم يجلس أركان الناصريين ليهاجموا القوميين، وفي هذا المطعم يجلس أركان القوميين ليهاجموا الشيوعيين والناصريين، وفي هذا المقهى يجلس أركان مجلة شعر ليهاجموا الجميع".
تهكّم الماغوط على الحالة الثقافية والسياسية في بيروت جعلته يعدّ أركان مجلة شعر حزباً بأكمله، على الرغم من أنهم قد يعدون على أصابع الأيدي. وقادته تلك التهكمية أيضاً إلى جعل أولئك الأركان الشعريين في مواجهة كلّ التيارات السياسية العربية. وسيمضي وقتٌ طويلٌ قبل أن يتَّضح أنَّ هذا التهكم ليس مجانياً، وأنه تعبيرٌ واسعٌ عن وقوف ائتلاف الرافضين الشعريين في مواجهة كلّ شيء، وأنَّ هؤلاء الذين يواجهون العقلية الثقافية العربية السائدة آنذاك بالشعر وحده سينجحون في خربطة الكثير من معالم الخريطة الشعرية العربية، وأنهم سيتمكنون من قلب الطاولة فوق رؤوس الجميع بعناد لم يسبق له مثيل. هذا العناد، كان أحد تمظهرات النقد الواسع للغيبيات والمسلمات الثقافية والسياسية العربية.
قبل قدوم السياب إلى بيروت -هذا المجيء المظفر الذي أشار إليه الماغوط- كان يوسف الخال قد أسَّس مجلة شعر.. حدث هذا في كانون الثاني 1957، حيث شكَّل العددُ الأول من المجلة بياناً يحمل بين سطوره تمرّداً خارجاً عن مألوف اهتمامات المثقفين والشعراء العرب، الذين عملوا على مناوءة العالم باللغة، والذين أقاموا مسافات شاسعة بين الفكرين العربي والغربي مازالت موجودة حتى هذه اللحظة، رغم كلّ المحاولات التي ظهرت لردم الهوة بين ضفتين إنسانيتين تجهل كلّ منهما الأخرى، بفعل استشراق واستعمار غربي بشع، وتوقف العرب عن التطور والتصالح مع إخفاقاتهم التاريخية.. وكان الطرح الابتدائي بوجوب التماثل مع الغرب.
إذاً انطلقت مجلة شعر كأوَّل منبر عربي يكرّس نفسه للشعر، واستطاع يوسف الخال -وبغض النظر عن مستوى نجاحه- أن يعمّم الرغبة في إنتاج قصيدة غير منبثقة من داخل الشعرية العربية المعروفة؛ فهو كان يرى أنَّ القصيدة الحديثة التي ينشدها والتي تعبر عن الحداثة هي تلك التي "تشبه اللوحة التجريدية، أو القطعة الموسيقية؛ يفهمها كلّ شخص على هواه"، مضافاً إلى ذلك أنَّ القصيدة الحديثة، التي طالب بها يوسف الخال، "لا تحكمها شروط مسبقاً على الإطلاق"؛ في الوقت الذي كانت فيه الحساسية الشعرية العربية رازحةً تحت عبء الوزن والعروض والقوافي.
إذاً هو تمرّد على اللغة، وتمرّد على اللسان العربي.. هذا التمرّد الذي أسَّس له يوسف الخال مجلة شعر، وجد من يناصره ويلتف حوله: أدونيس، أنسي الحاج، بدر شاكر السياب، خليل حاوي، شوقي أبي شقرا، فؤاد رفقة، جبرا إبراهيم جبرا. لن يكونوا مجرد أسماء عابرة، بل سيشكلون مرحلة لامعة لها الفضلُ في إقامة حالة من التوازن في ثقافة النماذج والقوالب الجاهزة.
هل كان هناك شطح في تمرّد شعراء مجلة شعر على اللغة العربية؟.. البعض فعل ذلك، والبعض الآخر لم يفعل أبداً ونأى بنفسه عن هكذا صراع ونظر للقضية بطريقة مختلفة قطعياً. هذا ما بدا واضحاً في إعلان توقّف صدور المجلة، الذي وقّعه يوسف الخال، حين اعتبر أنَّ اللغة العربية، التي وصفها باللغة القديمة، تشكّل عائقاً أمام الحداثة الشعرية.. حينها دعا يوسف الخال إلى الاستعاضة عن العربية الفصحى بالعربية المحكية،
لم يستجب أقطاب مجلة شعر كلهم لهكذا دعوة؛ فمنهم من لا يتقن العامية، ومنهم من يتقنها دون أن يكون له موهبة فيها، أضف إلى ذلك خطورة المساس بلغة تستمدّ قداستها من اللاهوت، مع أنَّ الكثير من النفوس كانت توَّاقة للعبث، في وقت شاع فيه قتلُ الآباء والتمرد على امتثالات اللاوعي لمسلمات تمتدّ في عمرها آلاف السنين.
لقد عملت مجلة شعر على محاولة إجراء عملية مراجعة لمفهوم التراث العربي، الذي وجدت فيه المجلة مجموعة عناصر تعيقُ عملية الحداثة؛ إنها دعوة حقيقية لإجراء قطع مع الماضي، لإلغاء تأثيراته على اللحظة الراهنة.. ففي الثابت والمتحول يدعو أدونيس إلى بناء الحداثة العربية في أفق الغرب وموارده. إلا أنَّ عملية التقويض، التي كانت مجلة شعر تسعى لها- وبغض النظر عن الموقف منها، استطاعت أن تزحزح الكثير من تخشبات وجمود اللحظة الشعرية العربية آنذاك. أما أهمّ إنجازات مجلة شعر أنّها غيرت مفهوم التلقي عند القارئ العربي، من خلال قدرة الأركان الشعريين على تقديم نصّ مغاير، بالإضافة إلى ترجماتهم ومراجعاتهم النقدية التي نسفت بشكل واسع كلّ ما يعترض المقترحات الجديدة من معارضات واهنة لا ترتكز إلا على عناد ليس له مبرّر.
وضع أدونيس مسألة التلقي أمام قطبين عاشا الكثير من التناقضات، هما الشعر والجمهور. وتناقضات هذه الثنائية ترتكز على ثنائيات أخرى، كثنائية الفرد والمجتمع التي ترتبط كلها بمسألة الحرية.
أهم إنجازات مجلة شعر أنها استطاعت أن تموضع قصيدة النثر العربية في مكانها وسياقها التاريخي، حيث أمَّنت لهذه القصيدة حماية من كلّ من التكتلات الثقافية العربية التي اعتقدت أنها أنجزت شعريتها.
فكان حضور مجلة شعر في هذا السياق تجسيداً واعياً لفعل التغيير الذي أمن مفاهيم قرائية جديدة؛ إنه التغيير الذي لا يمكن تحقيقه إلا بامتلاك خلفيات ثقافية تمنح الوعي لكلّ المكونات والمفاهيم والأدوات الإجرائية التي تخلف دينامية إبداعية جديدة. ومن هذا المنطلق، كان سؤال الحداثة حاضراً بقوة في مجلة شعر؛ هي حداثة الغرب التي ترتكز على الحرية والعقلانية والتقدم التقني، وليست حداثة الغرب الاستعماري.
أدونيس، الذي كان بمثابة حجر زاوية في مجلة شعر، يرى أنَّ لمجلة شعر دورها في التمهيد لقراءة جديدة للشعر العربي، في ضوء التجارب الشعرية في العالم، بالإضافة إلى دور المجلة في ترسيخ وشرعنة وجود قصيدة النثر، لذلك يعتبر مجلة شعر علامة فارقة في الثقافة الشعرية في القرن العشرين.
إعادةُ القراءة التي أنتجتها مجلة شعر كانت تتمحور حول إثبات أنَّ للشعر دوره في الكشف عن اللامرئي الذي ينتصب وراء المرئي والمحسوس. وهكذا ستتوقف المجلة التي استطاعت أن تنفتح وتستقطب الكثير من الشعراء الذين يمثلون الشعرية العربية هذا اليوم، فيما ستظل بمثابة حلم لأجيال مازالت تشتهي مرحلة شبيهة بتلك المرحلة.
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


السلالة الأدونيسية والتأويلية الساذجة

المصدر : ياسر اسكيف

في مقاله ِ "خسارة أدونيس" من كتابه ِ "شعوب بلا قبّعات " يرى الشاعر والناقد عهد فاضل أن أدونيس قد "ساهم الى حد كبير في إيصال الشعرية العربيّة المعاصرة الى أفق مسدود . ص 182 " وأن "خسارة أدونيس تتمثل في ارتهانه للشيء أكثر من تجربته, وإحساسه بالرؤيا أكثر من اكتشافها ص 183 " ويخلص الى أن هنالك فرقاًً كبيراًً "بين رؤية العالم حدسياً, وكأنه يرى للمرّة الأولى, ورؤية العالم عبر معرفة مسبقة بأنه يرى للمرّة الأولى . ص" . وأجد فيما كتبه عهد فاضل مدخلا ً مناسبا ً يختصر الكثير على من يريد قراءة بعض من تجارب إعادة إنتاج الأدونيسية الآن, أو كلها . وذلك لأنه, بتعمّق وإيجاز, قد مجهرَ الادعاء الذي تنطوي عليه الرؤيوية الأدونيسية, وأشر بوضوح الى مأزقها . والرؤيوية, كما يعلم المتتبعون, ليست إنجازاًً أدونيسياً, وإن ارتبطت باسمه شعرياً. وليست إنجازاًً صوفياً إسلامياً أيضاً, كما يعتقد الكثيرون, وكما ألمح أدونيس وغيره. فالرؤيوية التي صاغها أدونيس, وتلقفها غيره مبهوراً, لم تكن سوى ترجمة ممارساتيّة لبعض الأفكار الهرمسيّة العرفانيّة, التي تشرّبتها الثقافة الإسلامية, وتبنتها بعض المذاهب والملل. والادعاء في الرؤيوية الأدونيسية نتج عن إلغائها, وبكل بساطة, لتاريخيّة الكائن المقيّد والمحكوم بتناهيه, وادعائها الكشف الكامل لمعاني الأشياء, بتبنيها لفكرة الشاعر النبي. فيما لم تتعدّ الهرمسيّة كونها توسطاً يؤوّل حقيقة الأشياء لمن لا يمتلك القدرة على ذلك من البشر, وتنير سبيلهم دون ادّعاء الاكتمال أبدا ً . ومن الواضح أن المجاراة, في المضمار ذاته, قد باتت أمراً مستحيلاً. ليس لأن الذين أتوا بعد أدونيس أقل شاعريّة منه, أو لأن أدونيس ظاهرة استثنائية من الصعب نسخها, أو تجاوزها, بل لأن الرؤيوية التي صاغها أدونيس, وأشبع نصّه بها الى درجة استنفاذها, لم تعد قادرة على حمل نصّ آخر, وباتت, لدرجة انكشافها, عبئاً على النصّ, وعنصر فجاجة في شعريته . والغريب أن بعض النقاد, أو الدارسين, قد اعتمدوا النصّ الأدونيسي كمرجع في تقديم فهمهم للرؤيوية, وبهذا باتوا كمن يترجم عن لغة ثالثة أو رابعة, وقدّموا فهما ً مُلتبساً ومشوّشا ً للرؤيوية في الشعر. حيث رأى بعضهم بأنها ( المرتكز الأساس للشاعر في تقديم رؤاه ببصيرة ثاقبة تكشف جوهر المرئيات وتفتح أعين المتلقي على ما لم تكن تراه عينه. والرؤيا هي خبرة جمالية تكتب بعين الحدس, لا بالعين الباصرة . – صحيفة تشرين – العدد 10115 – ت 23- 2 – 2008 ) وإذا عدنا الى الهرمسية وجدنا أن "هرمس" ( هو الإله الذي يتوسط أو يؤوّل حقيقة العالم في شكل متاح للبشر في شروط حياتهم العادية. ومما كان ينسجم مع طبيعة هرمس أن المعرفة التي كان يأتي بها هي معرفة حاذقة, وجزئيّة, وضمنيّة, تنير للبشر سبيلهم, لكنها تقاوم الاكتمال . – النظرية النقدية – تأليف آلن هاو – ترجمة ثائر ديب – منشورات وزارة الثقافة – دمشق – 2005- ص 201 ) وهنا يمكن ببساطة أن يرى القارئ أن الرؤيوية التي يعتمدها البعض كمعيار لعظمة الشعر, أو وضاعته, ليست سوى تأويلية تنتحل المعرفة وتدّعي علم الغيب. وهي من ناحية أخرى تنطوي على قدر مبالغ فيه من التعالي والفوقيّة. فالشاعر الرؤيوي كشّاف ونبي ومبشّر يحمل فوق منكبيه مهمّة هداية الدهماء وإنارة سبيلهم . إذ في العودة الى المقال المُشار إليه سابقا ً , والمنشور في صحيفة تشرين, نجد أن البعض مازال ينسب الى الشعر دوراً وظيفيا ً مُباشراً, بل ويؤسّس أحكام قيمتة في ما يخصّ الشعر تأسيساً على تلك الصفة الوظيفية . حيث إن ( الرؤيا هي التي تظهر التمايز بين التجارب الشعرية. وبمقدار امتلاك الشاعر لها يستطيع أن يرتقي الى مصاف الشعراء الكبار, أو لنقل الى مصاف الشعر الحقيقي الذي يقوم على المخالف للسائد ). وعند هذه السوية من فهم الرؤيوية لا بدّ من التأكيد على أمر كنا نعتبره من البديهيات، ألا وهو أسبقية الرؤيا على النص. وأسبقية تصوّر الحدس على الحدس ذاته . والنصّ ( الرؤيوي ) هو نصّ افتراضي, ذهني, غيبي, والحدوس التي يتضمنها بعيدة كلّ البعد عن عفوية الحدس وتلقائيته, ذلك أن التفكير في أنني سأحدس, والتخطيط لحدسي هذا, يجعل مما أقوم به فبركة تأويلية ساذجة وفقيرة.

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


نضال الأشقر المحارب الدائم من أجل المنصة المشتهاة

لا تستطيع الممثلة والمخرجة المسرحية نضال الأشقر أن تكون مكتوفة الأيدي، فهي تقف بشكل ثابت ضد التراجع والانحدار. هذا ما تعلنه دائماً المرأة التي قضت حياتها على خشبات المسارح أو دفاعاً عنها. فهي دائماً تستطيع الخروج من مآزقها الفنية تلك التي تهدد المسارح بالانقراض.
تخرجت نضال الأشقر في الأكاديمية الملكية للفن الدرامي في لندن، حيث تتلمذت على يد المخرجة المسرحية جون ليتلوود، وانتقلت إلى لبنان لتشارك في نهضة الحركة المسرحية، متخذة من ضرورة التجديد الثقافي عنواناً عريضاً يحرك خطاها صوب مغامرات واقتراحات فنية جديدة. فكانت سباقة دائماً للخوض في مغامرات جديدة. فهي مازالت تشعر بالحنين لفرقة الممثلين العرب التي كونتها أثناء الحرب الأهلية اللبنانية
بدت نضال الأشقر غاضبة، حين لم تجد المال الكافي لتنقذ مسرح المدينة في بيروت، كانت المسارح تهوي وقتها تباعاً، ووقتها أيضاً تخلّى الجميع عن المسرحية العريقة، بمن فيهم المثقفون، الذين "جعلوا منهم مللاً، وكل ملة بات لها مركزها الثقافي الخاص بها" كما قالت الأشقر في أحد حواراتها. وقتها بلغ الألم ذروته، حيث لم يكن في اليد حيلة بتاتاً، هذا ما أعلنته: "أقول فقط، من المعيب ألا تجد سيدة في عمري ومكانتي، في مدينة بيروت، جهة تنقذ هذا المسرح". هكذا يصير المسرح عندها قضية حياة أو موت.
تحلم نضال الأشقر باستعادة فرقة الممثلين العرب، التي انفرط عقدها منذ أكثر من عقدين من الزمان، تلك الفرقة التي شارك فيها ممثلون من 13 دولة عربية انطلاقا من عمان، حيث قدمت الفرقة تجربة مسرحية واحدة ومتميزة طافت بها معظم البلدان العربية. .
تذهب الفنانة التي حازت العديد من الأوسمة في العالم العربي وفي الخارج، ومنها وسام الفنون والآداب برتبة فارس الذي منحته إياها الحكومة الفرنسية عام 1997.إلى أن المسرح يظل فنا نخبويا جمهوره الطبقة الوسطى من المثقفين والطلاب، وهي الطبقة التي تآكلت بسبب السياسات الاقتصادية الراهنة ودخلت في دائرة الفقر، والبحث عن جمهور واسع للمسرح يحوله الى تهريج وإسفاف. منوهة الى أنها تدرك كغيرها من الفنانين التغيير في المزاج العام، بسبب الكثير من الأحداث والتحولات التي يشهدها العالم. وتضيف: لكن ذلك لا يعني غياب عشاق المسرح الجاد. تدعو نضال الأشقر الى مسرح عربي يجمع بين التسلية والفائدة، ويعكس قضايا المجتمع برؤية عميقة، كما هو في تجارب سعد الله ونوس، والفريد فرج، ويوسف إدريس وغيرهم كانت نضال الأشقر توجد المخارج دائماً، فالمسرح ليس مجرد منصة أمامها كراس، فقد عملت على مسرحة الشعر. واستطاعت نقله إلى أطوار جديدة دون أن يكون ذلك نعياً للمسرح، بل إضافة له، فإذا كان الشعر والمسرح فنين يعانيان الارتكاس، فهاهما يسندان بعضهما البعض، وكل واحد منهما يعطي الآخر دفعاً جديداً باقتراحات جديدة من نضال الأشقر التي تجيء برفقة مجموعة من الموسيقيين معيدة ذكرى مجلة "شعر" إلى مربع الضوء.


لقاؤنا في دمشق سيكون، إذاً، احتفاءً بمجلّة «شعر» وبدورها الرائد في الثقافة العربية الحديثة، (...) من هنا فإنّ الاحتفاء بمجلّة «شعر» الآن ليس مجرّد التفات إلى الماضي، وإنما نظرة نحو المستقبل لما كان يحمله ذاك المشروع من رؤى وتطلّعات (...). والصوت الشعري الذي نتمسّك به وننشدهُ هو قطرةُ الماء التي يحتاج إليها عالمنا الراهن الغارِق في التَّصَحُّر، والمحكوم أكثر فأكثر، بقوانين التكنولوجيا والاستهلاك وطُرُق توظيفهما من أجل مزيد من السيطرة والاستئثار. احتفاليّة «موسيقا الصوت الشعري» ستكون لحظة انحياز إلى الجمال وشُرفة مفتوحة على الأمل.
¶ نضال الأشقر

علي الحوت: عازف على الآلات الإيقاعية الشرقية، طالب في المعهد الموسيقي في لبنان ومعهد الفنون الجميلة، شارك في العديد من المهرجانات والأمسيات العربية الشرقية داخل وخارج لبنان.

جاهدة وهبي: تحمل إجازة في الغناء الشرقي من المعهد الوطني العالي للموسيقا، حيث درست العزف على العود، والغناء الأوبرالي باللغة العربية، إضافة إلى الإنشاد البيزنطي والسرياني والتجويد القرآني...
حائزة على دبلوم دراسات عليا في التمثيل والإخراج من الجامعة اللبنانية، وشاركت في العديد من المسرحيات والأعمال الدرامية مع كبار المخرجين اللبنانيين والعرب.

خالد العبد الله: دبلوم دراسات عليا في التمثيل من الجامعة اللبنانية.
مجاز في الحقوق من الجامعة اللبنانية.
أحيا العديد من السهرات الغنائية، شارك في عدد من المسرحيات. عضو لجنة تحكيم و في برنامج Star Club على محطة “نيو تي في” الفضائية، أستاذ مادة تقنيات الصوت في الجامعة اللبنانية- كلية الفنون الجميلة- قسم التمثيل.

عبد قبيسي: عازف (بزق- باص- غيتار- آلات أخرى)، يعمل في مجال الموسيقا منذ 2001. عمل في مجال الموسيقا التصويرية المسرحية مع عدد من المخرجين اللبنانيين (نضال الأشقر، لميا أبي عازار، هاشم عدنان) تأليفاً وعزفاً، له أيضاً تجارب في الموسيقا الغربية مع فرقته the incompetents في بيروت، وله ألبوم في الأسواق.

أنسي الحاج.. شاعر جمال الشر والفتنة

كي نعرف الشّعر نقرأُ أنسي الحاج، فشاعرٌ مثله يعيد صناعة قارئه، ويتدخّل في مصيره، بما يفيض من حبٍّ وكراهيةٍ، من لعنةٍ وغفرانٍ، من صمتٍ وكلامٍ، من شرٍّ وخيرٍ. نصّه الناشز، المفارق، المبتعد، مضرّجٌ بالثنائيات التي يأخذها من صراعها الأزلي إلى مطارحات جديدة، فيصلح بينها، أو يعيد الفرقة.. وبمناسبة صدور أعماله الكاملة عن «هيئة قصور الثقافة» في مصر هذه الوقفة. هو، وكما جاء على غلاف كتابه «الوليمة»،«شاعر قصيدة النثر، الشاعر الرائد المؤسس، شاعر الهاوية المحدّق إلى سماء يبصرها ملء عينيه، شاعر جمال الشرّ وفتنة النعمة، الناقم بحكمة، الساخط حبّاً، والمتأمل برقة، والمفتون بالصباحات الأولى». شارك أنسي في «مجلة شعر»، وكان لاعباً أساسياً في إشعال معركة«الحداثة» أو قصيدة النثر، حيث أُعلن التغيير، وإعادة النظر في معنى الشعر، والحياة، والإنسان، على ضوء مشروع الحداثة المندمج بروح العصر. ولئن كان صاحب «لن» قد بدأ شاعراً مع فريق الخال، فقد آثر أن يتابع المشوار، معهم، ناقداً ومترجماً، كي يساهم، بشكلٍ مباشرٍ، في صنع القاعدة النظرية، وصوغ أساساتها، ليكون لمستقبل الأيام التالية ماضٍ، باستعارة تعبير أحد عناوينه. ظهرتْ مجموعته الشعرية الأولى «لن» عام (1960) عن دار «مجلة شعر»، مع مقدّمة عميقة، كتبها بنفسه، في صميم موضوع قصيدة النثر، والشعر بشكله المطلق، وقد أثارت«لن» ومقدمتها حرباً أدبية لا نظير لها في تاريخ الأدب العربي الحديث. والغريب في هذه المجموعة ـ العلامة، كما يرى عبده وازن: «ليست مجرّد مجموعة شعرية أولى، تحمل ما تحمل من براءة البدايات، بل هو كتاب النهايات التي ينتهي إليها الشعراء عادةً. ولا غرابة أن يعاكس أنسي الحاج مسرى الشعراء، وأن يبدأ من الجحيم، صارخاً صرخته الشهيرة: لن. فهو شاعر اللّعنة المبكرة، حلّت عليه كما حلّت على المراهقَين اللذين هدما جدران الشعر الفرنسي، وأقصد رامبو ولوتريامون». لقد رأى الحاج أنّ قصيدة النثر صنيع شاعر ملعون، وهكذا كتب قصيدةً نزقةً، متوترةً، ساخطةً، هاتكةً، معلياً شأن التدمير والتخريب اللذين اعتبر أولهما واجب الشاعر، والثاني منحه صفتي الحيوية والقداسة.


"المدينة ذات العباءة القرمزية".. لا شيء خارج حدود الكتابة

المصدر: مصطفى علوش

الكتاباتُ العظيمة قليلة، وتحتاجُ إلى مصادفة ما تجمعنا بها. وحين نعثر على تلك النصوص، ننسى محيطنا الاجتماعي ونتوحد مع تلك النصوص، نتوحد مع كتابة تعيدنا إلى الحياة التي تهرب منا، وللحظات نصير -نحن القراء- مثل الكتّاب في طلبهم للعزلة، نشبههم ونتذكر ماقاله مرة لورانس كلارك باول: "الكتابة مهنة التوحد والعزلة، والأسرة والأصدقاء والمجتمع، هم الأعداء الطبيعيون للكاتب، إنه بحاجة إلى أن يكون وحيداً، لا يقطع أحدٌ عليه عمله، وهو يصير متوحشاً بعض الشيء إذا أرغم على كبح جماح كتابته".
روايةُ "المدينة ذات العباءة القرمزية" لمبدعتها التركية (أصلي أردوغان) من هذا النمط الذي يجعلك تنسى كلَّ شيء حولك، بما في ذلك تلك المرأة التي تحبها أو تتوهم أنك تحبها. والجميل أنَّ هذه التركية اختارت مدينة (ريو دي جانيرو)لتكون الحدث المركزي في عملها هذا، ومنذ اللحظة الأولى تورَّط قارئها معها ليتعرف إلى مدينة مخيفة وجميلة، واضحة وغامضة في آن واحد، مدينة لا تنزع أقنعتها حتى بعد انقضاء الكرنفال، والراوي في الرواية هي أوزغور (تلك الفتاة التي اختارت تحدي الحياة، فاختارت المدينة الأكثر خطراً في العالم، ويبدو أنها أرادت فقط أن تلقي نظرة على الأعماق المعتمة للإنسان).
من عادتي -أنا القارئ- كتابة العديد من المقاطع التي أشعر بأنها فريدة واستثنائية. وحين بدأت بقراءة هذه الرواية، صرتُ أكتب كلَّ سطر فيها، لأنَّ أيَّ سطر لا يمكن أن يمرَّ هكذا في ذهن القارئ، وبدأت الأوراق المكتوبة تتكاثر إلى درجة قرَّرت فيها التوقف عن الكتابة لمصلحة حلّ آخر، وهو حمل الرواية معي لتكون رفيقة دربي، إلى أن أجد رفيقة أغلى منها؛ إنها رواية مدينة بامتياز، مثلما هي رواية لغة وبحث داخل متاهة النفس الإنسانية، رواية ترشدُ قارئها إلى نقاط ضعفه وقوته، ترشده إلى هذا العالم الواسع الذي لا يعرفه.. والمؤلفة -وهي تكتب- كانت بالتأكيد ترصد ذاتها، وتأخذنا معها إلى حيث حطت رحالها مع راويتها (أوزغور). والسؤال المشوق الذي يباغتنا ونحن نقرأ: لماذا اختارت الكاتبة وراويتها هذه المدينة الغريبة المخيفة الساحرة لتجعلها حدثها المركزي؟
وبعد الدخول في جمالية النص ودهاليزه الجمالية نكتشف الجواب بأنفسنا، وهو أنَّ الغرابة والخوف والسحر والمجهول هي العوامل التي جعلت المؤلفة تذهب إلى هناك لتكتب نصها هذا.
أردوغان تسحرنا بعشقها للمعنى في سردها، لا يوجد في هذه الرواية كلمة واحدة غير موظفة في سياقها السردي، وحين تصف أيَّ مكان أو حدث فإنها تختار الجوهر وتبحث فيه، ومن أمتع ما كتبته ذلك المقطع الخاص بوصف كرنفال (ريو)؛ تقول المؤلفة: "ألفُ ذراعٍ متصلبة بفعل الشمس القاسية، وبفعل السوط الأشد قسوة، تبدأ بقرع الطبول معاً، صوتها مسموع على بعد كيلو مترات، يقترب ويقترب ويرتفع بلا حدود، يهبط على الليل مثل لكمة، يتسلق على الركب والأرداف، يمسك بالأيدي، يغلف الشفاه، ثم ينفجر في قلب الذات، آلاف الأشخاص المحتشدين في سامبو درومو
ينهضون واقفين ويلتصقون بعضهم ببعض، منهم من يهتفون، ومنهم من يصرخون ملء الرئتين، ومنهم من يفقدون الرشد، تنتشر كموجة صاعدة من أعماق البحر، قوة مصدرها مئات الآلاف الذين تحولوا إلى محض أجساد، إنها قوة دفع الحياة، الأقدم من التاريخ ومن الكلام، العبد ينتصر على السيد، ويبدأ الرقص، صرخات وطبول، رقص ورقص ورقص ورقص، إذا كان للجنون ذروة، فلابدَّ أنها هذه اللحظة...".
من الجيد أن نذكر أنَّ مجلة (لير) الفرنسية اختارت قبل أشهر خمسين كاتباً من أنحاء العالم، متوقعة لهم أن يتبوَّؤوا صدارة الرواية العالمية، في القرن الحادي والعشرين، ومن هؤلاء الروائية التركية أصلي أردوغان.
(المدينة ذات العباءة القرمزية) فيضٌ من الذات العاشقة للحياة والعارفة بمتعة اللعب باللغة، إمتاعٌ للروح وهي تبحث عن ملاذاتها، درسٌ في الكتابة الروائية المفتوحة على الجمال، وإعادة تأكيد لما قاله يوماً روبير بينيه: "لا شيء خارج حدود الكتابة إلا الموت".
الرواية من توزيع دار قدمس للنشر والتوزيع- ترجمة بكر صدقي- الطبعة الأولى 2008.
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي