السفسطائية المحدثة وكيفية حضورها في الهيمنة الأميركية... م
السفسطائية المحدثة وكيفية حضورها في الهيمنة الأميركية... قديم اليونان يستعاد من دون أفلاطون وأرسطو
السفسطائية في صورتها التي فرضها النقد الأرسطي والأفلاطوني لفكر اصحابها وسلوكهم، عمت الفكر القديم والوسيط فلسفياً وكلامياً. فقد حصر مدلولها في تهمتين استهجانيتين هما فسادهم الخلقي وفساد قولهم المنطقي، وفي بعض الأعلام البارزين الذين ألصقت بهم التهمتان مثل بروتاغوراس وكراتيلوس حتى سميت محاورتان افلاطونيتان باسميهما.
فأفلاطون ألح بلسان سقراط على نقد الفساد الخلقي معتبراً السفسطائيين قوماً يتاجرون بشبه من المعرفة ويعلمون الخطابة للسياسيين حتى يمكنوهم من مغالطة الرأي العام نيلاً لرضى الناس على حساب الحقيقة. من هنا احتقاره للديموقراطية.
وأرسطو بلسانه الشخصي شدد على نقد الفساد المنطقي معتبراً السفسطائيين مغالطين يستعملون المنطق بوجوه سقيمة حاول حصرها نسقياً في كتاب التبكيتات. ولما كان استعمالهم ليس في الغالب استعمالاً على جهل فإنه ينسبه الى التجاهل. لذلك فنقده يفترض المعنى الخلقي الذي اهتم به أستاذه شرطاً في وجوده. اما النقد الأفلاطوني فيفترض عكس ما يراه ارسطو: إذ ان ادواتهم التعبيرية لها عنده من الفاعلية ما قد يفوق فاعلية المنطق الأرسطي.
ولعل الفارق بين الموقفين علته اسلوب الرجلين: اسلـوب الأدب التأويـلي الـذي اختـاره المعلم وأسلوب العلم التحليلي الذي اختاره التلميذ. فأفلاطون يسلم بخطر الأسلوب السفسطائي حتى انه اعتـبر اصـــلاحـه السيــاسي والخـلقي رهـين التخلص من نمط التربية السفسطائية المستندة الى ادوات التعبير الأدبي حيث للخـطـابـة والشـعر دور التخـديـر الإيديولوجـي والتمويه الخلقي اللذين يقـابـلان اسلوب استاذه التوليدي صاحب التوعية الفلسفية والتنوير الخلقي: تلك هي علة نفي الشعراء من جمهوريته.
تعديل الصورة
وإذا كان الفلاسفة المسلمون جمعوا بين الوجهين الأفلاطوني والأرسطي ولم يتجاوزوهما، فإن المتكلمين غاصوا في الأساس الشكاكي الجذري فعادوا بالمسألة السفسطائية الى مدلولها الحقيقي آخذين اياها مأخذ الجد: لأن علاج علتها شرط الإيمان إذا كان صاحبه صادق الجنان. عندئذ يكون السؤال حول الفكر السفسطائي سؤالاً فلسفياً بحق لكنه ديني الجوهر: هل الموقف الشكاكي الذي يمثل الأساس الفعلي للسفسطائية في حقيقتها الفلسفية (اسلوب الثلاثة المعلومة - نفي حقائق الوجود ونفي قابليتها للعلم ونفي قابلية علمها للتبليغ - والتي يعد قصيد باريمنيدس رداً عليها كما يتبين من الشذرة الخامسة) قابل لأن يقفه المرء وقوفاً صادقاً؟ ام انه في مطلقه ينتهي الى إطلاق ما يزعم انه يسعى الى تخليص العقل منه؟
ألا يؤدي الموقف الشكاكي عند عدم الصدق الى التياؤس (تكلف اليأس) من المعرفة من اجل استبدال الوثوقية اللاعقلية والإيمان الأعمى بالوثوقية العقلية والإيمان المعلل في مشروع ايديولوجي يستهدف استعمال العقل استعمالاً مزوراً؟ أليست محاولات الأنبياء والفلاسفة تخليص الإنسان من هذا التزوير هدفها تحرير العقل الإنساني من الموقف الشكاكي غير الصادق والذي يرفض الخيار على بينة بفرض خيار وحيد: التسليم للوثوقية العمياء بعلة عدم كفاية العقل تأسيساً لكل السلط الروحية الوسيطة بين الإنسان والمطلق، اعني تقسيم البشر الى متبوعين وتوابع. لم يكن الأنبياء والفلاسفة من السذاجة بحيث تغيب عنهم عنهم هذه الحقائق الوجودية: فهم على بينة من امواج المجهول المتلاطمة بل هم منها ستنتجون ضرورة المعقول وإن كان محدوداً رفضاً لموقف الإنسان المشلول وإن كان مجهوداً.
كذلك كانت ثورة سقراط فهو لم يدع علماً مطلقاً بل الحقيقة الوحيدة التي بنى عليها ثورته هي قوله: نور العقل المؤمن بالحقيقة شاف إذا صاحبه جهد كاف. فسقراط ينطلق من الموقف الشكاكي هو ايضاً. لكنه يقفه بصدق. لذلك فهو يبني على علم المرء بجهله وضرورة رفع الحكم في كل ما يقتضي تحويل الشك الى يقين كاذب هو جوهر الاستعمال الإيديولوجي للعقل: وتلك هي التربية السفسطائية الفاسدة خلقياً ومنطقـياً والنابعة من الأساس الشكاكي نفسه. وما اطلقنا عليه اسم السفسطائية المحدثة هو عودة هذا النوع من التوظيف لشكوك العقل والإيمان الملازمة لهما ملازمة تجعلها اساساً لهما عند الصدق والنور وعلة لنقيضهما عند الظلام والزور.
وهذا هو مطلوب بحوثنا من هذه المحاولة فصاعداً: بيان ابعاد الصدق والزور في السفسطائية المحدثة عن اصحابها من اهل العولمة مثيلة الإنسان الآلي الذي يستمد من الصهاينة ما له من "سوفت وار" ومن اميركا ما له من "هارد وار". وكذلك عند الببغوات العربية التي تحاكيها مع الجهل بدلالاتها. لم يفهموا بعد علة اجتماع "السوفت وار" المريض "والهارد وار" البغيض على العرب والمسلمين: فليس يمكن ان يكون ذلك محض صدفة. هدفنا ان نبين العلة الفلسفية والدينية العميقة التي جعلت الصراع بين اليهودية والمسيحية الصهيونيتين من جهة اولى وكل العالم بالتبئير على العروبة والإسلام من جهة ثانية جوهر اللحظة التاريخية الآن ومركز تحديد كل آفاق الإنسانية المقبلة: المنتصر في هذا الصراع هو الذي سيكون محدد مستقبل الإنسانية.
القصد من الإشارات
كل هذه اللوامح مقصودة. فهي تومئ الى جوهر المراجعة الغربية المعاصرة بالمعنى المتأخر (اي ما بعد نيتشه لكون المعنى المتقدم من الحقبة المعاصرة في تاريخ الفلسفة هو ما بين كنط ونيتشه) لموقفي مؤسسي الميتافيزيقا في ما يسمى بفلسفات التفكيك والهيكلية المحدثة والأنطولوجيـا الوجـوديـة ونظرية مقال المقامات اللسانية Language-games تجاوزاً لمحاولات احياء الكنطية والطوماوية ومحاولات اصلاح الماركسية وتجاوز التنوير (في مدرسة فرنكفورت) في نهايات القرن التاسع عشر بالنسبة الى المحاولات الأولى (مدرسة الكنطية المحدثة ببعديها التحليلي الطبيعي والتأويلي الثقافي بماربورغ ثم فينومينولوجيا هوسرل خاصة)، وبدايات القرن العشرين بالنسبـة الى المحـاولات الثانية.
فما تبين من حدود قاصرة اتسمت بها نتائج هذه المحاولات كان منطلقاً لشروع الفكر الغربي في تجاوز الكنطية القديمة والمحدثة خلال مخاض حلقة فيينا الى حد تجاوز الفلسفة التحليلية (فتغنشتاين) والفلسفة الفينومينولوجية (هايدغر) وتأسيس جديد الذرائيعة (ديوي) وعديد المنطقية واللسانية (كواين). عندئذ لم يكن بوسع الفلسفة ان تعدو همين لا ثالث لهما بعد اليأس من العقد (بؤس الإيديولوجيا) ومن العلم (يأس التكنولوجيا) المطلقين: النقد الأدبي الجمالي والنقد الاجتماعي الثقافي بكل مدارسهما المثبت منها والنافي والمتأثرة بمحاولات التجاوز التي ذكرنا بعد ان صارت بديلاً من كل قول فلسفي نسقي وبعد ان وقع الحط من شأن القول العلمي.
والمعلوم ان النسقية الفلسفية والمزاعم الأبستمولوجية (علم المعرفة) والأنطولوجية (علم الوجود) والأكسيولوجية (علم القيم) صارت اهزوءات هذا الرهط من المفكرين الأدباء استناداً الى إغارات نيتشه عليها إغاراته التي مجملها ومحصلها عبارة واحدة جامعة مانعة: ليست الحقائق في كل هذه المستويات إلا أكاذيب نافعة تختلقها الحياة اللاواعية للتكيف مع شروط وجودها. فبات هذا النمط من التفكير موضة في المدرسة الفرنسية لعل اسوأ صورها ما يسمى بالفلاسفة الجدد المبشرين بالأصل الصهيوني للعقيدة التوراتية في المغص الذي اصابهم من سوء مضع فضلات الفكر الألماني.
وبلغ الأمر بأصحاب هذه النحل الى محاولات ليّ عنق اللغة الفرنسية اللاتيني لتتكلم جرماني ففقدوا مشيتـهم ومشيـة الحمام ولم يصبح لهم من عمل عدى التنافس على ملء التلفزات التي تسبّح بحمد اسرائيل ليلاً مساء. ولما كانت هذه المدرسة اكثر المدارس الغربية تأثيراً في الأنصـاف من مثقفي العرب وشعرائهم وصحافيي الثقافة عندهم فإنها صارت بشحيح مائها الآسن الوحل الذي غاص فيه الجميع الى الأذقان. فلم يبق عندهم إلا الأفكار المومياوية في الصحافة اليومية لياً لعنق اللغة العربية علها تتكلم فرنسياً مجرمنا ليس فيه من عربي عدى الصوت فاقد الصوت والصيت وواجد اللغط واللغيط.
المدخل المناسب
وسيكون مدخلنا لمسألة السفسطائية المحدثة في ما يلي من محاولات نخصصها للفكر الغربي الحالي وأثره في ما يسمى بالفكر العربي الفكر الأميركي على وجه الخصوص من مدخـل عـلاقـتـه بالتمهـيد للكلام المسيحي المتصهين. ذلك ان السفسطائية المحدثة تنفي الحقائق العقلية التي انبنى عليها التنوير الفلسفي بإطلاق النسبية وحصر كل القيم في النتـيـجـة الخلقية السلبية الناتجة من قانون الانتخاب الطبيعي.
وبذلك يتبين ان وظيفته الإيديولوجية لا تختلف في شيء عن السفسطائية القديمة التي نقدها افلاطون وأرسطو وعمق مسعى التحرير منها فكرنا الفلسفي والكلامي والفقهي والصوفي الى ان بلغ به النضوج حد الصياغة العلمية لمبدأي الاجتهاد العقلي (الواصي بالحق) والجهادي الإرادي (التواصي بالصبر): لذلك فلا عجب ان يتعين هذا الصراع الذي كان في الماضي متوالياً في لحظة الحاضر على نمط التساوق بين إرادة التحرر العقلي والإرادي عند العرب والمسلمين وإرادة الهيمنة الإيديولوجية (اسرائيل) والمادية (اميركا).
عندئذ نفهم علة اعتبار متكلمينا السفسطائية نفياً للحقائق الإيمانية التي انبنى عليها التنوير الديني تجاوزاً للفهم الأفلاطوني الأرسطي الذي لم ير منها إلا سطحها عندما تجنّب البحث في علة الرد البارمينيدي على السلوب الثلاثة (نفي حقيقة الوجود ونفي علمه ونفي تبليغه) بلسان الشعر المتنبي. فيكون جوهر الفكر الفلسفي الأميركي الحالي الذي انحصرت اهم تياراته في هذه السفسطائية المحدثة كلاماً (=علم كلام) سلبياً متنكراً موضوعه الإنسان المهيمن بسلب غيره من البشر الحاصل فعلاً (صارت الإنثروبولوجيا بديلاً من الثيولوجيا، بحيث يمكن ان تأخذ كل كلام المدرسية الوسيطة وتبقي على ما فيها عدا تعويض واحد تقوم به: تضع كلمة انسان مكان كلمة الله) مثلما كانت السفسطائية القديمة كلاماً سلبياً متنكراً موضوعه الله المسلوب من الإنسان الطاغية واضع مشروع الهيمنة هذا في فلسفة كاليكلاس السياسية.
فالله او جوهر الحقائق يعد في الفهم السفسطائي كذبة يتوكل عليها الضعفاء وهو في الفهم العميق حيث يتحد الدين والفلسفة (ممثلة بابراهيم وسقراط نموذجين لهذا التوحد: إذ ان النبي بنى طلبه على حدود الظاهرات الطبيعية والفيلسوف بناه على حدود الظاهرات الخلقية) حقيقة وجودية لا يقوم للإنسان سوي الوجود من دونها. لذلك فإن كلتا السفسطائيتين لا ينطلي طابعها الفلسفي إلا على الأغمار في تاريخ الأفكار سواء كانت دينية او فلسفية: وبهذا تكتمل الحلقة وتنغلق الدائرة فندرك العلاقة بين السفسطائيتين ومعارضاتهما.