الأدب الفلسطيني، إلى أين.؟

عدنان كنفاني

لم يتوقف الأدب الفلسطيني بأجناسه المختلفة عن ممارسة التحريض على النضال ضدّ المشروع الصهيوني منذ ظهوره.. وقد استطاع أن يكون فاعلاً حقيقياً في إيقاد شعلة الهبّات الثورية، المرّة تلو المرّة.. كما استطاع في غالب الأحوال أن يواكب الأحداث ويؤرّخها ويستشرف الآتي.. وقد تكون "الرواية" هي الأقدر "خلال المراحل الفائتة" على تبيان تلك الصورة..
كما أزعم أن الشعر هو السبّاق دائماً في واقع أدبنا العربي في القبض على لحظات النضال وتصويرها، لأن الشعر يستطيع عكس الحالة الانفعالية المتوافقة مع حركة الناس..
"انتفاضة الأقصى" جاءت ولادة طبيعية منتظرة من شعب تراكمت معاناته، ونفذ صبره، وتمرّد على كل السياسات "منذ ما قبل مؤتمر مدريد، إلى أوسلو إلى ….الخ" التي زيّنت له وعوداً برّاقة لم تسفر إلا عن خيالات ما زالت تأخذه بعيداً عن تحقيق ذاته وعن عودته إلى أرضه، وتحقيق استقلاله..
إن تلك السياسات ساهمت -سواءً عن حسن أو سوء نيّة- في محاولة تكريس مخطّطات الصهيونية ومن يدور في فلكها في تفكيك التوّجه الواحد المفترض للأدب الفلسطيني، من خلال تقسيم تجمّعات الشعب الفلسطيني إلى ثلاث فئات "1948، السلطة، الشتات" أرادوا لها أن تبدو منفصلة عن بعضها بالكليّة.. بانين خيالاتهم على حجج واهية، وتصوّرات لا يوجد لها بصيص حقيقة في نسيج المجتمع الفلسطيني المتلاحم في ثوابته حتى العظم.. وهذا ما قالته انتفاضة الأقصى، وخلطت بفعلها على الأرض كل الأوراق وقلبت الطاولة..
ذلك التخبّط الذي فرد ظلاله على القضية الفلسطينية في العشر سنوات الأخيرة على الأقل كان له الأثر المؤقّت على خريطة الأدب.. فمن الأدباء من رأى الخلاص في هذا التوجّه السياسي أو ذاك، في المحافظة على الثوابت "الوطن كل الوطن، والعودة والاستقلال".. أو في التعايش واقتسام الأرض، وما يجرّ من تطبيع وانفتاح، أو في حوارات الثقافات والحضارات …الخ..
وهنا تأتي انتفاضة الأقصى وما أفرزت فيما بعد نجاح "حماس" في الانتخابات وبرنامجها المقاوم لتضع الأمور في نصابها، وتأخذ بيد كل من غرّرت به النظريات المهووسة لتضعه مرّة ثانية على طريق الرغبات الحقيقية الحقّة للشعب الفلسطيني.. هذا ما يستدعي منا بعض الانتظار، وبعض الصبر حتى يلحق الأدب الفلسطيني بالعام فعل الانتفاضة..
وهذا لا يعني أن الأدب لم يواكب ذلك الفعل، ولكن علينا أن نعترف أنه -أي الأدب- الذي رأينا بعض ملامحه البهيّة تبرق هنا وهناك لم يرقَ بعد إلى قامة الفعل الشعبي الفلسطيني المارد الذي نراه الآن يتمثّل على الأرض، بتحمّل نزيف تضحيات ليس له مثيل، وفي صبر أسطوري فاق كل التصوّرات الهزيلة التي راهنت عليها عصابات الصهاينة ومن يدور في أفلاكهم..
الشعر كما عوّدنا دائماً ومن خلال عشرات الشعراء ونتاجاتهم الإبداعية كان السبّاق في القدرة على المواكبة والتصوير ورسم ملامح المستقبل..
القصّة أيضاً بدأت تتلمّس طريقها من خلال نصوص إبداعية تتكئ في الغالب على حدث طازج يقود إلى انفتاح على كامل القضيّة.. ولا بد لي أن أشير إلى أن القصّة الفلسطينية ما زالت تعاني كما يعاني الشعر والرواية في الشتات الفلسطيني من ضبابيّة في الرؤى الوصفية التي تأتي غالباً بعيدة عن مطابقتها للواقع، وهذا ما أعزوه إلى الانقطاع النظري عن المشاهد الحقيقية للأفعال على الأرض بسبب الانقطاع الجغرافي المفروض، والذي لم يبق منه إلا ما تبرزه وسائل الإعلام أو المناقلة، أو الرؤى الانطباعية المقتلعة من الذاكرة..
إن هذه المرحلة النورانية الجديدة التي ولدتها بامتياز "انتفاضة الأقصى" المختلفة عن سابقاتها من الانتفاضات في الشكل والممارسة، كونها تؤدّي فعلها المواجه المتصاعد والمتسارع، وترتقي بأدواتها يوماً بعد يوم.. تفرض على الأدباء الفلسطينيين المتواجدين على الأرض "الشاهدة بالصوت والصورة وباللحم والدم".. أن يقوموا بواجبهم الوطني الأدبي الثقافي كونهم الأقدر -من خلال تماسّهم المباشر- على بعث روح جديدة، وضخّ دم جديد في شرايين أدبنا المقاوم، يضيف تجديداً بات ضرورياً للأدب الذي تعوّدنا عليه خلال المراحل النضالية السابقة..
وإنني على يقين بأننا نعيش الآن فترة انتظار لن تطول، حتى تطلّ علينا أشعار وقصص وروايات سوف ترقى إلى مستوى فعل شعبنا العربي الفلسطيني على الأرض، وتكون قادرة على التحريض والوصف والتأريخ والاستشراف أيضاً..
من خلال هذه التصوّرات نحاول "نحن الأدباء الكتّاب" في كتاباتنا الأدبية أن نكون من الفاعلين والمتفاعلين في لجّة الحدث، وأن نحقّق لأنفسنا أولاً شعوراً يملؤنا بالفخر والاعتزاز، ويبعدنا ولو قليلاً عن الإحساس بالعجز القسري.. ولو أنني على يقين أن أكبر وأعظم نتاجاتنا الأدبية السابقة واللاحقة لن ترقى إلى قامة الدم النازف بغزارة على أرض فلسطين.. وطننا الأبديّ الغالي..
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي