كتاب ..
حوار ابن سينا والبيروني
لعبد الكريم اليافي
(ومن يؤت الحكمة فقط أوتي خيراً كثيراً) صدق الله العظيم
بهذه الآية القرآنية الكريمة من سورة البقرة ابتدأ د. عبد الكريم اليافي كتابه «حوار البيروني وابن سينا» الصادر عن دار الفكر بدمشق ودار الفكر المعاصر في بيروت عام 2002، والذي يعد من أواخر ما نشره العلامة والبحاثة والأديب الكبير والأستاذ عبد الكريم اليافي قبل وفاته في 11- 10- 2008 عن عمر ناهز 89 عاماً.
وإن كان د. اليافي قد قصد باستشهاده بهذه الآية الكريمة كلاً من «أبو ريحان محمد بن أحمد البيروني الخوارزمي (362 هـ 973م- 443هـ 1051م) والشيخ الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا» (370هـ 980م- 428هـ 1073م)، فإننا نعتقد أن مضمون هذه الآية الكريمة ينطبق أيضاً على د. عبد الكريم اليافي (1919- 2008) فهو حائز على ثلاث شهادات عليا (كيمياء فيزياء ورياضيات) وأربع شهادات عليا في الآداب وخمس في الفلسفة بالاضافة الى شهادة الدكتوراه وكلها من جامعة السوربون الباريسية الفرنسية العريقة، وقدم للثقافة العربية عشرين مؤلفاً وأكثر من مائة بحث منشور منها هذا الكتاب الذي نحن في صدد تقديم قراءة عنه.
كان لابد لأي شخص يريد أن يتصدى لحوار بين عالمين فذين من أمثال ابن سينا والبيروني ويقدمه ويشرحه للقارىء أن يكون هو نفسه عالماً من طراز مشابه، ملماً ليس فقط بالعلوم الفيزيائية والرياضية والفلكية وما وراء الطبيعة التي تناولتها الرسائل المتبادلة بين العالمين على شكل أسئلة وأجوبة، بل أن يكون شديد الإلمام بالفلسفة التي كانت الأساس الذي بنيت عليه الأجوبة ونقضها في حوار العالمين، خاصة أن هذا الحوار جرى قبل ألف عام من اليوم وقبل اعتماد الوسائل العلمية الحديثة كأداة للإجابة عن مثل هذه المسائل.
في بداية الحوار الذي جرى بين البيروني وابن سينا قبل عشرة قرون حينما كان العلمان في مقتبل العمر يوجه أبو الريحان ثماني عشرة مسألة الى الشيخ الرئيس ابن سينا، عشر منها هي نقض لنظريات أرسطو والثمان الباقية هي مسائل وضعها بنفسه، ويقدم اجابات الشيخ الرئيس عن هذه المسائل، لكن الحوار لا يتوقف عند هذا الحد، فيعمد أبو الريحان الى الرد على اجابات ابن سينا ويورد خمسة عشر نقضاً لها وموافقاً على ثلاث منها، فيكلف ابن سينا تلميذه أبا سعيد المعصومي بالرد على رد البيروني لتنتهي بذلك هذه المناظرة العلمية.
وقد قدم د. اليافي في مقدمته للحوار ملخصاً عن المسائل الثماني عشرة التي طرحها البيروني والتي تناولت فيما يخص الفيلسوف (أرسطو) المعلم الأول:
1- أوزان الأجرام السماوية وطبيعة الحركة الدائرية للفلك.
2- الثابت والمتحول في دراسة الأفلاك وهل يجب الاكتفاء بما قدمه الأقدمون أم يجب اعادة الملاحظة لتبيين التغيرات؟!.
3- الجهات الست وانعدامها في الكرة.
4- مبدأ الجزء الذي لا يتجزأ.
5- احتمالية وجود عوالم مختلفة تماماً عن عالمنا.
6- هل حركة الفلك دائرية أو أهليلجية.
7- تأكيد أرسطو أن الحركة تبدأ من اليمين حتى اذا تكلم على السماء ذكر حركتها من الشرق.
8 - شكل النار.
9- كيفية وصول حرارة الشمس الى الأرض.
10- طبيعة تغير الأجسام من الشكل الصلب الى السائل فالغازي.
أما المسائل التي طرحها البيروني على ابن سينا والتي لا علاقة لأرسطو بها فكانت عن:
1- تفسير كيف أن الماء يلعب دور العدسة فيما الهواء يعجز عن ذلك.
2- الحركة الطبيعية للعناصر الأربعة الماء والهواء والنار والتراب.
3- كيفية عملية الرؤية تحت الماء.
4- لم كان ربع الكرة الأرضية من نصفها الشمالي معموراً والباقي يكاد يكون خالياً؟.
5- نأخذ مربعاً ونقسمه أربعة مربعات، كيف يمكن لمربعين منها متقابلين أن يكونا متماسين؟.
6- لم اذا مصصنا قارورة وقلبناها داخل الماء صعد الماء فيها؟.
7- لم تنصدع القوارير اذا جمد الماء فيها؟.
8- لم يطفو الجليد على الماء؟.
وقدم د. اليافي أجوبة ابن سينا على كل واحدة من هذه المسائل، وأضاف من عنده بأن قدم آخر ما توصل اليه العلم الحديث في بعض هذه المسائل والاجابات التي وفرها لهذه الأسئلة التي طرحت قبل ألف عام.
وبعد ملخصه المطول والمهم لهذه المناظرة العلمية الفريدة عمد د. اليافي الى تقديم النص الكامل للرسائل المتبادلة بين البيروني وابن سينا ونقض البيروني لردود ابن سينا وجواب أبي سعيد المعصومي تلميذ ابن سينا على نقض البيروني.
وختم أستاذنا عبد الكريم اليافي كتابه هذا بتقديم تراجم لكل من أبي الريحان البيروني وابن سينا منقولة عما كتباه بخطهما.
إن قراءة كتاب «حوار البيروني وابن سينا» تشكل تحدياً فكرياً ممتعاً للقارىء اليوم، ورغم أن النتائج التي وصل اليها العلم الحديث فيما يخص العديد من المسائل التي طرحت في هذا الكتاب أصح بكثير مما توصل اليه كل من البيروني وابن سينا في اجاباتهما، لكن القارىء ينهي الكتاب وقد اكتسب مهارات فكرية جديدة، ومارس رياضة وتسلية عقلية مفيدة، كما ازداد معرفة علمية حديثة عن طريق ما قدمه اليافي من معلومات متصلة بأحدث النظريات العلمية الحديثة والمعاصرة.
كما ينهي القارىء هذا الكتاب وقد ازداد اعجاباً بشخصيات تاريخية من حضارتنا العربية الاسلامية التي قدمت الكثير الكثير لإغناء الحضارة الانسانية، عبر تقديمها عدداً مهماً من الأسئلة المهمة التي تطلب من العلم الاجابة عنها قرابة ألف سنة فيما لا يزال البحث عن جواب شاف عن بعضها الآخر مستمراً الى اليوم، وكما اعتاد أخونا الكبير الصديق الباحث «برهان بخاري» القول دائماً: «إن البشرية إنما تقدمت عن طريق طرح الأسئلة مثلما تقدمت عن طريق الاجابة عنها».
وختاماً فإن هذا الكتاب لا يبرز القيمة العلمية الرفيعة لكل من البيروني وابن سينا فقط، بل يبرز كذلك المرتبة العلمية الرفيعة للمرحوم د، عبد الكريم اليافي، والغنى والتنوع الذي امتاز به هذا المفكر والعالم والفيلسوف والأديب العربي السوري، الذي أهله لأن يدخل طرفاً في حوار علمي فكري فلسفي قائم منذ قرون، وأن يغنيه ويضيف اليه، وهو أمر يحتاج الى عدد من الاخصائيين في الفلسفة والفيزياء وعلم الفلك والرياضيات ناهيك عن أصول وفقه اللغة العربية، لولا اجتماع كل ذلك في شخص أستاذنا اليافي رحمه الله.

مازن يوسف الصباغ