كيف تنظرُ اليومَ إلى الكتابةِ، وأنتَ تعيشُ في الأرضِ المحتلّةِ؟ / هيام مصطفى قبلان


كيف تنظرُ اليومَ إلى الكتابةِ، وأنتَ تعيشُ في الأرضِ المحتلّةِ؟

وماذا يعني لكَ أن تكونَ كاتبًا فلسطينيًّا؟


قبلَ أن أتطرّقَ إلى الكتابةِ في ظلِّ الصّراعِ القائمِ سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، وبينَ كوني كاتبةً من فلسطين عرب ال 48، لا بدَّ أن أعيدَ النّظرَ في محورٍ هامٍّ من ناحيةٍ تاريخيّةٍ، وهو أنَّ أدبَنا المحليَّ الفلسطينيَّ مهما كانتْ له خصوصيّاتهُ، فهو جزءٌ لا يتجزّأُ مِن الأدبِ العربيِّ عامّةً. فهو ليسَ نبتًا شيطانيًّا منقطعًا عن جذورِهِ، بل هو أحدُ الرّوافدِ الهامّةِ العديدةِ، والّتي تُشكّلُ هذا النّهرَ الكبيرَ، والّذي يُسمّى بثقافتِنا العربيّةِ، فهو مؤثّثٌ بالكثيرِ منَ المواضيعِ والبُنى والأشكالِ المستمدّةِ مِن الكمِّ الضّخمِ، حيثُ نجدُ الكثيرَ رغمَ التّجربةِ الفرديّةِ، يدورُ على نفسِ الثّيماتِ والمحاورِ، خاصّةً وأنَّ جيلَ ما قبل 1948 وجيلَ ما بعدهُ بقليلٍ، تربّى على هذا الأدبِ

دراسةً ومطالعةً، حتّى أصبحَ هذا الجيلُ يَحملُ الأفكارَ ذاتِها، ويستمتعُ بقراءةِ أسماءَ معيّنةٍ درَجَ على قلمِها وأسلوبِها المُتميِّزِ في المجلاّتِ والكتبِ في حينِهِ، وتصلُ إلى نتيجةٍ، أنّ هذا الجيلَ مِنَ الصّعبِ أن يُغيّرَ اتّجاهَهُ وأن ينزاحَ عمّا ألِفَهُ، ليعتادَ على مدارجِ الأدبِ الرّاسخِ لغةً وأسلوبًا، أضف إلى أنّهُ شحَّ هذا الإنتاج المحَلِّيُّ في حينِهِ، بسببِ ضغطِ السُّلطةِ ومحاولتِها إضعافَ الصّلةِ وتغييبِها بينَهُ وبينَ ما كان يُنشَرُ في العالمِ العربيِّ.

الجيلُ درجَ على قراءةِ أدبٍ معيّنٍ لا قراءةٍ هاويةٍ، إنّما قراءةٍ ملزمةٍ نابعةٍ عن ضرورةِ

مناهجِ التّعليمِ الّتي غابَ عنها الإنتاج المَحَلِّيِّ على نضارتِهِ غيابًا مقصودًا متعمّدًا، كانَ مِن الصّعبِ عليهِ أن يتقبّلَ أدبَنا المحلّيَّ الّذي كانَ يتلمّسُ، ويشقُّ طريقَهُ بعناءٍ في عتمةِ ليلٍ حالكٍ، وفي ظروفٍ قاسيةٍ، ومنَ الطّبيعيِّ أن يقتنعَ هذا الجيلُ أنَّ الكتابَ المحلّيَّ يصلُ إلى مستوى الكتابِ العربيِّ الآخرَ، خاصّةً أنّهُ يَرى في هذا الكتابِ مِن تقليدٍ، لذلكَ أعرضَ عنهُ، وإنْ قرأهُ نفرٌ قليلٌ كانتْ قراءتُهُ من بابِ التّشجيعِ ليسَ إلاّ.

نظرًا للظّروفِ الّتي عشناها وما زلنا نعيشُها، كانَ النّظرُ إلى قيمةِ هذا الكتابِ المحلِّيِّ تُحدّدُ على ضوءِ ذلكَ، انتماءَ صاحبِهِ الطّائفيِّ/ الاجتماعيِّ/ والحزبيِّ، والانتقادُ كانَ صارمًا، فحتّى الكُتّاب الّذينَ وقفوا على الشّاطىءِ، أُسْقِطَ أدبُهُم مِن الحسابِ، رغمَ ما فيهِ مِن جماليّةٍ، لأنّ الظّروفَ اقتضتْ شيئًا آخرَ، أدبًا ملتزمًا مسيَّسًا ومؤدلَجًا، يميلُ إلى المنبريّةِ والخطابةِ والمباشرةِ، وكانَ هذا الأدبُ آنيٌّ في معظمِهِ، أدبٌ هشٌّ كانَ مِنَ الصّعبِ أن يشمخَ ويتحدّى ما يُنشَرُ في العالمِ العربيِّ، على الصّعيدَيْنِ الأدبيِّ والفكريِّ إلاّ قلّةٌ، وهذا الأقلُّ كي يَرسخَ، كانَ عليهِ أن ينتشلَ نفسَهُ وأدبيّتَهُ من لعنةِ المباشرِ والسّطحيّةِ، فهناكَ أسماءُ سطعتْ وحافظتْ على نفسِها واخترقتِ الحواجزَ، بينما الكثيرُ سقطَ في البدايةِ، والآنَ كيفَ ننظرُ إلى الكتابةِ في أرضٍ محتلّةٍ؟

إنَّ المُتتبِّعَ للحركةِ الأدبيّةِ المحلّيّةِ يلاحظُ، أنَّ نشوةً ما أصابتِ الأدبَ المحلّيَّ مع بدايةِ السّتّيناتِ وأواسطِها بسببِ الظّروفِ السّياسيّةِ، فقد نشأتْ أقلامٌ واعدةٌ برزتْ على صفحاتِ المجلاّتِ والصّحفِ المحلّيّةِ في الشّعر، والنّثرِ، والنّقدِ، والفِكرِ، وبسببِ التّعاطفِ مع القضيّةِ المحلّيّةِ فلسطينيًّا وعربيًّا، فقد احترمَ العالمُ معظمَ ما نُشِرَ عندنا، وقد عبَّرَ عنهُ في حينِهِ الشّاعرُ الكبيرُ "محمود درويش" حين أطلقَ جملتَهُ المشهورةَ، "أنقذونا من هذا الحبِّ القاسي" .. !

نرى أنّ ما كانَ يُعانيهِ الكتابُ المحلّيُّ مِن حيثُ مستواهُ، وإعراضِ القارئِ عنه في الخمسيناتِ زالَ وتراجَعَ في السّبعيناتِ، بل وحصلَ على إقبالِ الناس. واليومَ، وعن طريقِ الحاسوبِ والنّتِّ يشعرُ الكاتبُ الفلسطينيُّ المحلّيُّ أنّهُ يستطيعُ اختراقَ الحصارِ الّذي فرضَتْهُ السُّلطةُ، مِن بُعْدٍ ومنفًى لتغييبِ الذّاكرةِ الجماعيّةِ الفلسطينيّةِ مِن عربِ الدّاخلِ، وسَبْخِها في كَوْنِها جزءٌ لا يتجزّأُ مِن ذاكرةِ الشّعبِ الفلسطينيِّ والعربيِّ عامّة.. !

يبقى الهمُّ الذّاتيُّ للكاتبِ النّابعِ مِن الهمِّ الجماعيِّ، وهذا التّشرذمُ، في كونِهِ كاتبًا فلسطينيًّا لهُ همُّهُ الفردويُّ، من حيثُ لواعجُهُ وإحساسُهُ بالمرارةِ وتجربتُهُ الخاصّةِ! فأنْ أكونَ كاتبةً فلسطينيّةً/ معناهُ أنْ أكتبَ بمدادِ النّزفِ وبجُرحِ القلبِ/ وبِهبَّةِ الفِكرِ من بينِ حصارٍ وحصارٍ، منفًى ومنفًى / وأنْ أدورَ في فَلَكِ الذّاتِ وهمّي اليوميِّ وسطَ زحمةِ الحياةِ والضّغطِ النّفسيِّ وغلاءِ المعيشةِ، ومن أجلِ اللّحاقِ بعَجَلةِ التّاريخِ.

أنْ أكونَ هنا وأكتبُ/ هو أن أكونَ أيضًا هناكَ لأكتبَ، فالقضيّةُ ليستْ فقط قضيّةُ فلسطين، إنّما هي بؤرةُ الحَدَثِ، ومنْهُ أستطيعُ الخروجَ روحًا لأحلّقَ في عالمٍ رحبٍ، لا أستطيعُ الوصولَ إليهِ لأكتبَ عنهُ. عمليّةُ استحضارِ المكانِ مُهمّةٌ كي أستمرَّ في أداءِ دوري، وإلاّ انقطعَ عن المتنفّسِ الوحيدِ للاستمرارِ في الحياةِ وفي العطاء، هذهِ البؤرةُ الّتي أتكلّمُ عنها، ترْشَحُ في الجسدِ والفِكرِ طاقةً لا حدَّ لها، وهي نوعٌ مِن الإصرارِ والمنافسةِ والتّحدّي، تحدّي الوضعِ السّياسيِّ القائم، ومنافسةِ ما يُكتَبُ في العالمِ العربيِّ على احتلالِ مقعدٍ، كمثقّفةٍ وأديبةٍ وصاحبةِ رسالةٍ وقضيّةٍ، ولا أقِلُّ عمّا يكتبُهُ أيُّ كاتبٍ لم يتفرّدْ بالتّجربةِ الّتي يعانيها الكاتبُ الفلسطينيُّ.

عندما أشعرُ أنّ الحواجزَ المانعةَ هي الّتي تَحولُ دون تواصلي معَ الآخر، والتّضامنِ مع شعبي في الشّتاتِ، وأينما كان هذا، يُقوّي عندي الشّعورَ بما يُسمّى: "التّلاحمُ الرّوحيُّ والفكريُّ" معَ النّصفِ الآخر، ومِن هذا المنطلقِ، أنْ أكونَ كاتبةً فلسطينيّةً وأسكنَ في أرضٍ محتلّةٍ، لا يفرضُ عليَّ الوضعُ أن أكتبَ أدبًا مُغايرًا، بل الحالة النّفسيّةُ والشّعورُ بالمنفى الرّوحيِّ والجسديِّ، وبالتّأطّرِ داخلَ الذّاتِ والاحتفاءِ بالصّمتِ، كلُّ هذا يَجعلُني أرفضُ أن أبقى بفكري وروحي هنا، وفقط هنا، وأن لا أتخطّى الحدودَ والحصارَ. ربّما ما يكتبُهُ الكُتّابُ في العراق لا يقلُّ نزْفًا عمّا أكتبُهُ أنا، لكن كوْني متواجدةً داخلَ حصارٍ فكريٍّ وجسديٍّ، يجعلُ كتاباتي تنطلقُ مِن موقفٍ، ومِن توهُّجٍ يُحاولُ المحتلُّ تغييبَهُ عن العالمِ العربيِّ وعن العالمِ أجمع.

أن أكونَ كاتبةً وشاعرةً فلسطينيّةً، هو أن أبحثَ عن هويّتي وانتمائي، والسّؤالُ هوَ/ مَن أنا وأين سأكونُ؟ : إذ أنَّ الهويّةَ ليستْ قصاصةَ ورقٍ أضعُها في جيبي، وليستْ جوازًا للسّفرِ للمرورِ في المطاراتِ، إنّما هي انتماءٌُ، والآنَ وبعدَ رحلةِ المعاناةِ والتّشرذمِ والانقسامِ بينَ فصائلَ متعدّدةٍ داخلَ فلسطين في غزّةَ والقطاع، أفتّشُ عن هويّتي الضّائعةِ وسطَ هذهِ المعمعةِ، َإذ أنَّ الضّوءَ في آخرِ النّفقِ يتلاشى، وكوْني لا أشعرُ بانتماءٍ داخل وطنٍ محتلّ،ٍ لا لدولةٍ ولا لسياستِها، بي شوقٌ أن أكونَ في مكانٍ آخرَ، حيثُ وطنُ أبي "سوريا"، وأمّي "لبنان"، وأنا المزيجُ بينَ وطنَيْنِ، وأنا هنا في فلسطينَ، ودمي تجري في عروقِهِ العروبةُ الّتي أحسُّها، لكنّها سُلِبتْ منّي عنوةً، وفرّقتْني عمَّنْ أحبُّ.

مِن هذا المنطلقِ تُدوّي صرختي، وألملمُ بقايا جرحي وهويّتي الّتي اندثرتْ تحتَ ركامِ الحروباتِ والصّراعِ الدّاخليِّ، وأصبحَ التّفتيشُ عن الذّاتِ أحدَ العناصرِ في كوْني كاتبةً، تحاصرُني عناصرُ أخرى مِن ثورةِ النّفسِ والبكاءِ على مناديلِ الذّاكرةِ، وكبرياءِ النّفسِ وعزّتِها، والصّمودِ في وجهِ الرّياحِ العاتيةِ، لربّما يأتي يومٌ، فيهِ أعانقُ موجةً تحملُ مِن عبقِ الحرّيّةِ عصفورةً مسافرةً… !!


* هيام مصطفى قبلان ، الكرمل / فلسطين