منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 17
  1. #1

    النص الكامل لمجموعة «الدار بوضع اليد» لحسين علي محمد

    النص الكامل لمجموعة «الدار بوضع اليد» لحسين علي محمد
    .................................................. ........................................

    صدرت هذه المجموعة مؤخراً عن سلسلة «أصوات مُعاصرة»،
    هبة النيل العربية ـ القاهرة (2007م).
    وتضم المجموعة ست عشرة قصيرة:

    ............................


    (1)
    *الدار بوضع اليد*
    .........................

    في آخر زيارة لقريتك (قرية «السلام») التي لم تكن مُسالمةً أبداً معك، قالت سميرة، وهي تحرص على أن تبدو أساورها من يديْها السمينتيْن:
    ـ الدار بوضع اليد، ولن أخرج منها.
    وقالت وهي تبتسم:
    ـ لو أنصفتَ لتركتَ نصيبَك في الدار لي!
    ـ نصيبي؟
    أول مرة ترى ـ يا أستاذ حسني ـ امرأةً في «السلام» تُطالب بنصيبها في دار أبيها!
    .. وجاءك الحاج محروس خطّاب الذي يقول عن والدتك إنها عمته ليراودك على بيْعِ بيتك .. وليتفق معك على قتلك! .. فهل تبيع البيت الذي بنيْته من ثلاثة أعوام مع والدك طوبةً طوبةً؟!! .. قبل أن يموت بشهرين.
    جاء إليْكَ محروس الأصفر ـ كما يسميه أبناء قريتك .. ـ فلم يجدك قد عدت من مدرسة الأمة الإعدادية بالزقازيق، التي تُدرِّسُ فيها الرياضيات، فاستعار كرسيا من «سمسم» الساعاتي الملاصق لشقتك التي استأجرتها من الباطن ـ وجلس أمام البيت!
    حينما رآك الأصفر اعتدل واقفاً، وقال:
    ـ أنا منتظرك من ساعة يا أستاذ حسني!
    أنت لا تحب هذا الرجل .. رغم أنه من جيل أبيك، وأنت من جيل ابنه «بدران» الذي رسب عاميْن في الصف الأول الثانوي، فالتحق بالكُتَّاب العسكري، وكرر مسيرة أبيه الذي لم يتخطّ الشهادة الابتدائية في الأزهر الشريف .. لكنه عمل بعد ذلك «مُحفظا للقرآن الكريم» بمعهد الفتيات بالقرية!
    قلت وأنت روحك في أنفك:
    ـ خير .. إن شاء الله يا حاج محروس!
    وكأنك تقول له بالعربي الفصيح: لا يأتي من ورائك خير أبداً يا حاج محروس!
    بنتك سمية ذات الأربعة عشر شهراً مريضة من خمسة أيام، كانت كالوردة تملأ حياتك بهجة، لكن الساقيْن كفتا عن الحركة، والدكتور جودة عمار طبيب الأعصاب الشهير بالزقازيق .. قال لك أمس في جرأة يُحسَدُ عليها: لا أمل في الشفاء! ولكن من الممكن أن يأتي العلاج الطبيعي معها ببعض الثمار، فتستطيع أن تتحرك على كرسي ذي عجلات وتخدم نفسها بعد مدة من العلاج قد تطول أو تقصر!
    قلتَ في حزن:
    ـ هل ستعيشُ سميةُ عرجاءَ مشلولةً؟!
    قال الحاج محروس الأصفر:
    ـ أخواتك بعن البيت! ولم يبق إلا أنت!
    ـ أي بيت؟
    ـ بيتكم في «السلام».
    ابتلعْتَ ريقك وقلتَ في غضب تُحاول أن تكتمه:
    ـ كيف بعن .. وعقد ملكية البيْت معي؟!!
    ـ أنت متعود على ألاعيب أخواتك البنات، اللاتي تركت لهن القرية، وأقمتَ في البندر.
    ـ لمن بعن؟!
    ـ فهيمة باعت لسميرة، وحمدية لسوسن.
    أنت وسميرة وفهيمة من أم، وحمدية وسوسن شقيقتان!
    أخليتَ في وجهك مكاناً للغضب:
    ـ وكيف صار شكلُ البيت؟
    ـ كما هو !!
    ـ كيف؟!
    ـ أنت تعرف أن البيت واسع .. مبني على قيراط ونصف، ويمكن تقسيمه!
    وجدك تبصق في منديلك الورقي بصوتٍ عالٍ، فأضاف وعيناه في الأرض:
    ـ سوسن أخذت الحجرتين الشرقيتين والزريبة، وفتحتْ لهما باباً في الجهة البحرية.
    ـ وسميرة؟!
    ـ سميرة تقيم في البيت كما تعلم!
    خرجت منك ضحكة مجروحة! .. وتذكرتَ أنها قالت لك بلهجةٍ سوقيةٍ حينما طلبتَ منها الخروج من البيت:
    ـ نعم يا حبيبي؟ .. لن أخرج أبداً .. الدار بوضع اليد، ولن أخرج منها.
    رآك الأصفر مشغولاً فأضاف، وكأنه يذكِّرك ما نسيت:
    ـ أنتم إخوة من أم واحدة، هي عمتي «خديجة» رحمها الله.
    وعاد يؤكِّد على كل حرف:
    ـ قفا أنت وفهيمة بجوار سميرة، حتى تستريح عمتي «خديجة» في قبرها!..
    وسكت هنيهة فبل أن يسأل:
    ـ ما رأيك؟ ..
    لم ترد، كانت الأشباح تتراقص أمام عينيك، ولوْ كانت سميرة وفهيمة أمامك لقتلتهما في الحال!
    عاد يتحدث في كلمات متقطعة:
    ـ سميرة تقيم في البيت كما تعلم من سنتين!
    ـ أنا الذي سمحت لها بالإقامة في البيت بعد أن انعزل زوجها عن أسرته .. وليتني ما فعلت ...
    تذكّرت أنك تركتَ البيْتَ بعد أن تزوّجت بستة أشهر، حينما نقلتَ إلى مدرسة الأمة بالزقازيق، فكان من الأسهل لك أن تنتقل إلى ديرب نجم، وتسافر يومياً إلى الزقازيق، بدلاً من أن تبقى في «السلام».
    توقفت عن الكلام، فزاغت عيناه، وهو يرى أن مهمته المقدسة في إخراجك من البلد لم تتم!
    وجد عينيك محمرّتين، فقال:
    ـ أستاذ حسني .. هل أجيء لك مرة أخرى؟ .. هل جئتُ لك في وقتٍ غيرِ مناسب؟
    قلتَ في غلظة:
    ـ البنت التي لم تتم عاماً ونصف عام مشلولة.
    قال في إشفاق حقيقي:
    ـ أنا آسف يا أستاذ حسني .. لم أعلم .. كان الله بعونك .. متى تم ذلك؟
    ـ من خمسة أيام.
    ـ ربنا يشفيها!
    ـ لكن الساقيْن كفتا عن الحركة!
    ـ أنا آسف يا أستاذ حسني .. يمكنني أن أمر عليك في يومٍ آخر.
    وأدار ظهره ومشى عدة خطوات، لكنه عاد:
    ـ أستاذ حسني .. ليتك تذهب ببنتك للدكتور أسامة علوان في القصر العيني .. فهو أستاذ كبير في الأعصاب .. سأرسل لك ورقة بعنوانه حينما أعود للسلام .. ذهبتُ له عدة مرات مع بعض المرضى من أقاربنا.
    ـ لا ترسل، فأنا معي عنوانه، وسأذهب له غداً.
    ـ بالتأكيد؟
    ـ نعم، لقد طلبتُ إجازة من المدرسة لآخذ البنت وأذهب له.
    قال بصوت منخفض، قبل أن يُدير رأسه للطريق الذي سيسلكه عائداً دون أن يخلع جذرك من القرية:
    ـ أنا آسف يا أستاذ حسني .. أنت تعرف أنني أقف مع سميرة بنت عمتي .. ويهمني أمرُها.
    قلتَ له والقرف يُضمِّخُ كلماتك:
    ـ أنا أيضاً ابن عمتك يا حاج محروس!
    لم تحب أن تتجادلَ معه، وانطلقتَ للشقة التي يستأجرها زميل لك سافر إلى ليبيا بعشرة جنيهات، واستأجرتَ حجرتيْن منها بأربعة جنيهات، بعد أن كدّس أثاثه في حجرتين من الشقة وأغلقهما!
    لحقك الحاج الأصفر وقال:
    ـ أريد كوب ماء .. حلقي جف من الحزن على ابنتك الصغيرة .. أريد أن أراها أيضاً لأطمئن عليها.
    ورفع يده متمتماً بصوت دعاءٍ خفيض: «ربنا يشفيها».
    ـ سمية ليست موجودة .. هي وأمها عند حماتي .. لأن البنت لا تجعل أمها تنام في الليل!
    ـ أشربُ ماءً إذن .. وأجلس معك خمس دقائق!
    دخلتَ الشقة وأنتَ متعب يتبعك الحاج محروس الأصفر بخطواته الدؤوب .. وجدتَ المذياع مفتوحاً على إذاعة القرآن الكريم .. يبدو أن زوجتك نسيته مفتوحاً حينما خرجت بعدك تحملُ البنت إلى شقةِ أمها ثم تذهب لمدرسة التجارة الثانوية للبنات التي تعملُ مدرسة لمادة المُحاسبة بها ..
    يا كم تعبتَ يا حسني من الساقية التي تدورُ فيها كالثور!
    تخرج كل صباح في السابعة إلا ربعاً من ديرب نجم لتذهب إلى مدرستك في الزقازيق التي تبعد عشرين كيلاً عن ديرب نجم .. وتدريسك في الزقازيق حرمك من الدروس الخصوصية في مادة الرياضيات .. فلم تشعر بوفرة أبداً رغم أنك مدرس من أربعة أعوام .. الثلاجة عطلانة من أسبوعين، والبنت مريضة، لا شك أنك ستستدين خمسة عشر جنيها لتكون معك وأنت ذاهب للطبيب غداً .. رحماك يا رب!
    أجلستَ الأصفر في الصالون، وأحضرتَ له كوب ماء من الصنبور.
    خلع حذاءه، وتنحنح:
    ـ ليتك تعمل خيراً .. وتبيع نصيبك لسميرة يا أستاذ حسني!
    تفلت يساراً على الأرض في قرف حتى يحس بجرمه في حقك. لماذا يريد هذا الرجل أن يخلعك من القرية؟ .. ابتسمت له ابتسامة صفراء كلقبه الذي يحمله على كتفيه:
    ـ أنت يا حاج محروس تريد أن تقتلع جذوري من السلام .. ما مصلحتك في ذلك؟
    قال في وقاحة:
    ـ سميرة ابنتي وابنتك!
    ـ هي ليست ابنتي .. هي أكبر مني بعاميْن .. وحينما طلبتُ خروجها من البيت في آخر زيارة ردَّتْ بوقاحة، وقالت:
    ـ الدار بوضع اليد، ولن أخرج منها.
    قال متراجعاً:
    ـ فهيمة شقيقتكما الكبرى باعت نصيبها لسميرة .. بع لها أنت الآخر .. أنت ابن حلال!
    وكأنك ستكون ابن حرام إذا لم تبع لسميرة!
    نطقتَ في استسلام، وكأنك ترفع الراية البيضاء:
    ـ هذه أول مرة في قرية السلام يخرج الرجل من دار أبيه لتقيم فيها البنت!
    لم يعلق على ذلك، بل قال وكأنه يلقي حجراً:
    ـ هل قلتُ لك السعر؟!
    ـ لا .. للأسف.
    ـ أنت ستأخذ مائة وستين جنيها، فقد قدرنا السدس بثمانين جنيهاً، وأنت لك السدسان.
    قلتَ وأنت تتثاءب وتخلع رجليك، وتمدهما على المنضدة أمامك، ولا تأبه بنظراته الغامضة التي لا تكشف عن معنى!:
    ـ موافق يا حاج محروس .. لكن لتتذكر دائماً أنك أنت الذي خلعتني من القرية!
    قال في برودة يُحسد عليها:
    ـ أنت تقيم في البندر .. وتعمل في الزقازيق .. وإقامة سميرة في البيت أفضل من إغلاقه! .. حينما تجيء للقرية في عيد أو عزاء ستجد الدار مفتوحة!
    أضاف وهو ينظر إلى النافذة:
    ـ هل تجيء إليْنا غداً بعد أن تعود بالبنت ـ شفاها الله ـ من القاهرة لنكتب العقد؟!
    قلتَ في ضعفٍ وانكسارِ من يفقد بيته للأبد:
    ـ على بركة الله .. سأجيء يوم الجمعة في العاشرة صباحاً لأوقع لك العقد، بعد أن آخذ النقود على داير المليم الواحد.
    ابتسم، وهو يحس بنشوة انتصار:
    ـ كنتُ أقول دائماً إن الأستاذ حسني ابنُ حلال .. وسيبيع نصيبه في البيت لشقيقته سميرة!
    لم تعقب، فأضاف:
    ـ نصلي الجمعة معاً، ثم نتناول الغداء في بيتنا.
    وقال كأنه يذكرك بصديق عزيز:
    ـ بدران يسلم عليك .. هو في إجازة الآن!
    قلتَ بصوتٍ لا أثر للمجاملة فيه:
    ـ بل أُصلي في ديرب نجم، لأن زميلاً لي من القناطر سيزورني، ويُصلي معي الجمعة.
    وكأنك نسيت شيئاً عظيماً، ذكرك به:
    ـ بدران يهديك السلام.
    ـ بلغه تحياتي واعتذاري عن الصلاة والغداء عندكم.
    لم يُبدِ تصميماً على دعوته للغداء!!
    واستأذن محروسُ الأصفر منصرفاً، وهو يحس أنه قام بدور بطولي من أجل سميرة بنت عمته خديجة وزوجها صبري الذي يعمل في ليبيا ويُرسل لها النقود لتشتري نصيب كل أخوتها في دار أبيها لابنهما هيثم، وبنتهما الرضيعة شريهان .. وكأنك يا حسني لستَ ابنَ عمته!
    أغلقتَ المذياع .. ووضعت مخدة تحت رأسك .. على كنبة الصالون.
    وحاولتَ أن تنام!!

    الرياض 30/3/2005م

  2. #2
    (2)
    ما أجملها!‏
    ...............

    هذا أول عيد فطر يقضيه في قريته بعد رحيل زوجته التي لم تكن تطيق مجرد ذكر اسم القرية!
    أصبح «عدلي منصور» يقسم وقته بالعدل بين المنصورة (التي كان يعمل فيها وكيلاً لوزارة الزراعة) وقريته.
    منذ ستة أشهر ماتت زوجته «آمال» التي لم يُعقِّب منها، فقرّر أن يعيد اتصاله بقريته.
    كانت المرحومة تكره القرية، التي تمتلئ بالحفاء والبعوض، ولا تسمع فيها شيئاً «يسر القلب»، وتكره أخته الوحيدة «أم العز»، لأنها تحرضه على الزواج ـ قبل أن يمر العمر ـ لإنجاب وريث؛ يحمل اسم العائلة، ويرث الفدادين العشرة التي ورثها «عدلي» عن والده!
    عاش مع المرحومة ثمانيةً وعشرين عاماً .. لم يكن يأخذ عليها إلا كراهيتها لقريته!
    صلى العيد في المسجد وعاد إلى بيته القريب.
    اكتشف وهو يُصافح الرجال بعد الصلاة أنه لا يعرف إلا القليل منهم، وأن الكثير من أبناء جيله، قد ذهبوا للعمل في الخارج، أو رحلوا من هذه الدنيا!
    ظلَّ البيتُ مهجوراً ثمانيةً وعشرين عاماً .. أخيراً أحضر بعض الأثاث من الفيلا التي بناها في المنصورة إلى بيته في القرية، وصار يتردّد عليه .. في الأعياد المواسم والمناسبات الاجتماعية التي كان لا يحرص عليها أيام زوجته!
    يُهاتف شقيقته «أم العز» وهو في المنصورة، فترسل ابنتها الموظفة بإدارة التربية والتعليم ـ والتي لم تتزوّج بعد ـ لتُجري لمسات على البيت قبل أن يجيء خالها وكيل الوزارة.
    أربع حجرات واسعة يحتويها البيت، وحظيرة، ودورة مياه.
    لا ينقصه ـ هو والبيت ـ كما تقول «أم العز» إلا امرأة تعتني بهما، وتُنجب له «الوريث»!
    جلس وحيداً في الحجرة البحرية .. ورأى عصافير تتقافز فوق الشجرة العجوز التي زرعها والده أمام البيت منذ ثلاثين عاماً .. وفكر .. من الغد سيهتم ببعض الأشجار في حديقته الصغيرة التي زرعها ابن أخته.
    لا أحد يمرُّ عليه .. أو يجلس معه.
    بلمحة عابرة تذكّر أن هناك في البيت المقابل امرأة!
    إنها «وردة»، ابنةُ خاله.
    ما أجملها!
    كانت القرية لا تعرفُ بنتاً أجمل منها.
    كانت أجمل البنات الست في فصلنا في المدرسة الابتدائية .. أيام الأستاذ صابر عبد الحميد رحمة الله عليه!
    كانت في مثل عمره، لكنها لم تُكمل تعليمها، لأنها تزوجت ابن عمها في الرابعة عشرة، وأنجبت له خمسة أولاد!
    زوجها ـ ناظر المدرسة الثانوية السابق ـ مات من خمسة أعوامٍ تقريباً.
    حدّث «عدلي» نفسه:
    ـ إن «وردة» لن تنجب لك الوريث .. هي في الرابعة والستين، مثلك تماماً .. ابنها الصغير «عامر» في السنة الأولى بكلية الصيدلة!
    ـ أولاد «وردة» تزوجوا جميعاً ولم يبق إلا «عامر»، وأصبحت المرأة وحيدة .. يمكنك أن تزورها بين الفينة والأخرى .. وتسترجعان ذكريات أيام الطفولة!
    ـ أنت لن تتزوّجها! .. استشرها في أن تبحث لك عن امرأة في الخامسة والثلاثين .. لا يهم إن كانت بكراً أم عزبا!
    ـ وما الضير في الزواج منها إذا كانت مازالت جميلة؟
    ...
    شرب كوب الشاي في ثلاث جرعات .. اكتشف أنه بارد فقد أعدته «عايدة» ابنة أخته قبل صلاة العيد ..
    في دقائق زار أخته وبعض الأقارب ليتخلّص من جملة واجبات أول أيام العيد .. ثم اتجه إلى بيت «وردة».
    اكتشف أنها وحدها في البيت.
    اقترب منها، صافحها.. قدّمت له بعض البسكويت والشاي. أضاءت الحجرة فاكتشف أنها بلا رقبة تقريباً، أصبحت بدينة جدا، غير قادرة على الحركة. وعرف أن ابنة جارتها هي التي أعدّت الشاي!
    رحبت به ترحيباً حارا .. ولم تُنزل عينيها عن وجهه.
    زمن؟!
    هل يُكلمها عن رغبته في الزواج من امرأة متوسطة العمر؟
    رأى أن أسنانها قد سقطت جميعاً، وحدّثته عن مرض السكر الذي أصابها، وكاد أن يضطرها إلى بتر رجلها اليمنى، ولكن الله ستر!
    وحدّثته عن عقوق الأولاد، وأن أزواجهم أخذنهم إلى البلاد البعيدة ..
    حاول النهوض فلم يستطع، أحس بثقل رجليه .. استأذنها في الرحيل، أمسكت يده وهي تُحاول الوقوف .. والبسمة تغمر وجهها.
    عثرت رجله .. فوقع أمامها على الأرض .. وتعجّب عندما وجد أخته «أم العز» تُمسك يده محاولةً إقالته من عثرته!...‏

    الرياض 1/10/2004م

  3. #3
    (3)
    *نوال تقرأ الحقول*
    ............................

    (قصة من التغريبة اليمانية)

    دارت الطرق المتعرجة نحو الشمس، ولم تُدرك الشمس ولا القمر .. هاهي «نوال» تقتربُ من الخامسة والأربعين .. ولم تحمل في أحشائها ثمرة! .. "يا لخسرانها في يقظتها وفي منامها!".
    توشك فترة الخصوبة أن تمضي، وتترك خلفها الجفاف والعقم!
    درست نوال حتى الثالثة في مدرسة المعلمين في قريتها، ثم تركت الدراسة لتتزوّج ابن خالتها، وهي في السادسة عشرة، وترحل معه إلى قريته البعيدة.
    كان هذا من تسعٍ وعشرين سنة!
    كانت متمردةً على الناس والحياة في أرضِ بيت الفقيه، فرفضتْ ابن عمها وتزوجتْك يا عبد الولي، وعاشتْ معك في الوصاب السافل بناحية ذمار، حيثُ الجبال المتراصة، يسكبُ عليها الغروبُ صفرة الشفق، والسحب المعتمة تتراكض في حيوية لافتة .. تعد بالأمطار!
    لكنك تتركُها وهي الغريبة وحيدةً خلف البقرةِ والمحراث، تشق الخط المعتم .. تنتظر هطول الأمطار لتنبت البذور التي وضعتها بيديها المخضبتيْن! .. تتركُها وتعملُ حارساً لمبنى في صنعاء، وتعودُ كلَّ شهرٍ لتقضي معها ليلةً أو ليلتين!
    تعدُّ «نوال» الأيامَ والليالي يوماً فيوماً.. وليلةً فليلةً ..
    كيف لا؟ .. والحلم الأجمل .. لا يكتمل إلا مع بزوغ فجرك وعودتك البهية.
    تحلمُ دائماً بالخضرة الوارفة ..
    وهي تتأمل البذور الصغيرة النابتة، في قطعة أرضك الصغيرة التي ترعاها في غيابك .. وجدت زوجاً من حمام يناغي أحدهما الآخر، وعلى جنبات الأرض وجدت ابنيهما الصغيريْن يُمدان منقاريْهما ينتظران الطعام من أبويهما، اللذيْن يبتعدان وراء حقل الذرة .. في ثنية مجاورة، ويتقافزان والحب والغناء واضحان في هديلهما!
    متى يجيء الغد؟!
    متى تُشرق شمسُك في أرضي يا عبد الولي ولا تغيب؟!!
    متى نتقافز مثل فرخي حمام؟!!

    الرياض 31/5/2005م

  4. #4
    (4)
    *أزمة مُخرج*
    ...................

    حاول «فاروق منير» أن يخرجني من حالة الصمت التي أعيشها منذ عامين، هو مدير إدارة النصوص بالمسرح القومي. كنا زملاء في المرحلة الثانوية، وذبحنا سكين الهزيمة، فبدأ بكتابة الأشعار المتمردة، الرافضة للهزيمة، وأذكر أن إحدى الصحف رفضت نشر قصيدة مبكرة له كتبها عام 1968م، وهو في الثامنة عشرة، ومازلتُ أذكر وجهه المملوء فرحا وهو يقول لي مطلع قصيدته التي رفضتْها الرقابة:
    كيف تكون الكلمة سيفاً
    يهوي بالأعماق
    كيف تكون الكلمة سهماً
    وأنا أوقفُه قائلاً:
    أريد أن أصير مخرجاً وأقدم لك مسرحية من إخراجي!
    ...
    وهاهو الزمن قد مرَّ ..
    صرتُ مخرجاً شهيراً أقدَّم متطلبات السوق في المسرح التجاري، ومسرح الدولة .. أنا الذي أنفقت عليَّ الدولة أموالاً طائلة لأتعلم حرفة الإخراج في موسكو على يديْ أشهر المخرجين.
    صرتُ ـ أنا سامي الإمام ـ مخرجاً محترفا، أقدم مسرحياتي بلغة مسرحية عالية الإبهار.
    قال لي «فاروق منير» إنه يريد أن يراني، بعد أن صار شاعراً مشهوراً، وقدّم له المسرح القومي ثلاث مسرحيات شعرية، وصار له عمود يومي في واحدةٍ من أكبر الصحف انتشاراً.
    هاتفني أمس وسألني لماذا أنت متوقف عن الإخراج، فأخبرته أنني أُعاني من أزمة ..
    ـ نفسية؟
    ـ .. لا
    ـ .. أزمة موقف؟
    ـ .. ربما! ..
    إنني أراجع قناعاتي السياسية والمبدئية وما أقدمه من مسرحيات تُدغدغ العواطف ..
    قال إنه سيقدم لي نصا لأخرجه في مسرح الدولة.
    زارني في بيتي في الثالثة بعد الظهر.
    أعطاني نصه، وقال إنه عن صراع الطبقات، من خلال تقديم المتصوفة «رابعة العدوية»؟
    فقلتُ مستغرباً:
    ـ هل يُمكن أن تُمثِّل رابعة العدوية صراع الطبقات؟ .. وكيف يُمكن أن نجد هذا في النص؟
    قال ضاحكاً:
    ـ إنها تنتقد القطط السمان، والوجهاء الذين يدَّعون التديِّن، ويمسكون السبح في أيديهم، لتزداد مكتسباتهم، وتروج تجارتهم، وتتضاعف استثماراتهم.
    قلتُ حائراً:
    ـ إذن كيف سأقوم بإخراج مسرحية تحملُ مثل هذه الكلمات على مسرح الدولة؟
    قال:
    ـ نحن الذين نختار نصوص مسرح الدولة، ثم لا تنس أن مسرح الدولة ـ في ظل هامش الحرية المُتاح ولطبيعة المسرح ورمزيته ـ أكثر جرأة من المسرح التجاري، الآن.
    قلت:
    ـ الموضوع ـ موضوع تقديم شخصية متصوفة ـ ليس من الموضوعات المثيرة، ليتك ناقشت في نصك قضية الحرية، أو انفراد أمريكا بحكم العالم منذ زوال الاتحاد السوفيتي، أو العولمة، أو صراع الحضارات .. أو غيرها من الموضوعات من خلال مسرحيات تشتبك مع الواقع لا من خلال أقنعة!
    ـ هل تنسى أن صلاح عبد الصبور قدم صورة للصراع بين السلطة والمثقفين من خلال شخصية متصوفة، في منتصف الستينيات من القرن الماضي هي شخصية «الحلاج»؟!
    قلتُ ضاحكاً:
    ـ ألا تعرف؟ .. الزمانُ اختلف!
    قال في بلاهة:
    ـ أجل! .. ماذا تقول؟
    قلبتُ في الأوراق التي بين يديَّ، وتوقفتُ كمن لسعه عقرب:
    ـ قل لي يا فاروق .. ماذا تعني بقولك: صوفية .. نورانية؟
    قال ضاحكاً:
    ـ إنك متوقف منذ عامين عن الإخراج (وحرص على أن يُداعبني) يبدو أنك أصبحتَ لا تقرأُ أيها المخرج القدير!، وأصبحت لا تفهم شيئاً في غير الفن الذي تعرفه .. المسرح .. هذه من مصطلحات الصوفية، وأنا قلت لك أمس أن نصي عن صراع الطبقات وفيه صراع بين درويش فقير يحبُّ رابعة وثري غبي، لا ينحازُ للفقراء، بل يستعديهم بمسلكه الاستفزازي!!.
    قلتُ:
    ـ أنا أرفضُ التصوفُ كما رفضتُ الماركسية!.
    قال لي:
    ـ أنت مخرج، تقدم نصا.. ما علاقة قناعاتك وفكرك بما تُخرجُه؟
    قلتُ وقد ضقتُ به ذرعاً:
    ـ أنا لست «بوتيكاً»، أو صاحب معرض للأفكار على خشبة المسرح.
    هزَّ رأسه مستفسراً، وعيناه تستوضحان ما أقول، فقلتُ بصوتٍ هادئٍ أجتهد أن تكون نبرتُهُ واضحة:
    ـ لستُ يا صاحبي محلَّ بقالة.. إنما أنا مخرج له فكره.
    صمتنا، وأعدت تقليب الأوراق:
    ـ أنت تقول في بداية المشهد الخامس، على لسان الثري:
    نحن وضعنا للعامة والغوغاء الترياق
    في قالب دين يعتنقونه
    في بضعة أبطالٍ مهووسين
    يعتقدون بمنزلةٍ ساميةٍ لهمو
    .. فهلْ كان الثري أيام رابعة من الشيوعيين؟
    لم يُجب، فأضفتُ في نبرات حادة:
    ـ لا يُمكن أن يُقدِّم سامي الإمام هذا القول في مسرحية تحملُ اسمه!
    ـ هذا ليس كلامك، إنه كلام البطل .. لماذا تتكلم كلاماً غريباً يظن من يسمعه أن من يقوله لا يمكن أن يكون سامي الإمام المتخرج من أهم أكاديميات الاتحاد السوفيتي السابق؟
    وأضاف ضاحكاً:
    ـ هل تخاف سطوة الأصوليين من أصحاب السلاسل والجنازير؟
    قلتُ في حسم:
    ـ فلتعذرني يا فاروق. إنني لا أستطيع أن أخرج مثل هذا النص، فمازالت فيّ بقيّة من تلك الأرضِ الطينيةِ، من القرية التي مازال أبي يخطو فوقَ ثراها، ويصومُ رمضان والستة البيض.. ويُصلي في أعماق الليل، ويصلي الفجر جماعةً، ويحج، ويعتمر.
    قام وهو يصرخ ويقذفُ كلماته كالرصاص الطائش في كل جانب:
    ـ هلْ يجرفُك سيلُ الجبن الذي يعتري حياتنا؟ .. هل تخافُ سطوة الأصوليين؟ .. ما هذا الذي أسمع؟ .. هل المخرجُ التقدميُّ الكبير هو الذي يقول مثل هذا الكلام؟
    .. ألقى كل ما بنفسه من شوائب وأحجار وصَمَتَ، فشددتُه وأجلستُه، وأضفتُ:
    مازال أبي .. والد سامي الإمام يؤمنُ بالله .. ومازالت أمي مؤمنة بالله ورسوله! اعذرني يا فاروق، فقد زلّت بالقدم النعلُ ذات مرة! فلماذا ترفُضُ أنت أن أخرج من الحفرة؟
    قال وهو يرسم ابتسامة صفراء على شفتيه:
    ـ تهمني هذه المسرحية، وكنتُ أتمنّى أن تخرجها.
    قلتُ ضاحكاً:
    ـ إنك تهمك الكتابة والشهرة فقط. وإني تصطرعُ الأفكارُ برأسي كالطوفان!
    قال:
    ـ ماذا تقول؟!
    حدّقتُ في عينيه قائلاً:
    ـ .. لا أستطيع أن أخرج هذا النص، حتى لو جلستُ عاميْن آخرين بدون عمل!

    الرياض 1/12/2004م

  5. #5
    (5)
    ربـــاب
    .......

    (1)
    قطعةُ السكرِ التي تذوبُ سريعاً ـ ولا تترك بعدها إلا الحرقة والمرارة ـ تجربةٌ أولى تُشعلُ الجمرَ في ذاكرةِ المؤرَّقِ بغيابٍ وعذاباتٍ:
    أنا العشرينيُّ وربابُ أبناءُ قريةٍ نائيةٍ واحدةٍ.
    يدثِّرُنا الفقرُ بعباءتهِ المثقوبة، ويُغطينا الحلمُ بخيمتِه المزركشة الفضفاضة.
    هانحن في بداية العام الثالث من دراستنا الجامعية في كلية الهندسة.
    نلتقي بين حين وآخر..
    نقطعُ جسْر الفقْر بتشابكاتِ الأصابعِ.
    ونحلمُ ببناء مساكن آدمية بعد أن تختفي عشوائيات «عُلب الصفيح» التي خرجنا منها!
    حاولْتُ أن أحذرَ نفسي من أطرافِها المسكونةِ بالحبِّ والعذابِ والتمرُّدِ الجميل، أوْ أتجنبها؛ لكنها أقنعتْني أن الليْلَ للحلم، ولأطيافِ البحْرِ وعرائسِهِ المسكونة بالترقبِ لطفولةٍ ثانية، وبدايةٍ جديدةٍ، نحن ـ وأبناء جيلنا ـ قادرون على صنعها.
    أتذكَّرُ الدقائقَ الفارة، وهي تلفظ الأنفاسَ.
    وحدي ورباب ـ هل قلتُ عبلةَ؟ ـ في كتب التاريخِ، والشعر، والعشق!
    لم تمنعنا الدراسةُ العلمية من أن نكون فارسيْن مُبحريْن في قراءة الشعر والفلسفة والحلم بالغد الجميل.
    صرختْ ذات مرة، وكنّا واقفيْن في محطة مصر ننتظر القطار الذي سيحملنا إلى الزقازيق في نهاية أسبوع:
    ـ رباب .. لا تناسب مساكن علب الصفيح!
    ضحكتُ:
    ـ اقترحي اسماً آخر.
    قالت وعيناها تبرقان بوميض غريب:
    ـ عبلة!
    ضحكتُ من كلِّ قلبي، وأنا أردد مستغرباً:
    ـ عبلة؟!!
    ـ أجل!
    قلتُ مبتسماً:
    ـ امسحي إذن عبد الستار.
    وهي تجاريني:
    ـ بم أناديك؟
    ـ عنترة!
    ...
    نجترحُ الحلمَ، ونصنعُ سفائنه!
    في كتبِ هذا الليلِ أستنطقُ تذكارات طفولتي، والسكرُ في الفمِ النّائمِ، وأمي تحكي لي ما فعله السلطان فيمن اقتحم خلوة حريمه!
    قلتُ وأنا أعاني من زحامِ الحافلة:
    ـ مسي جبهتي بيسارك، التي بجانبي.
    ـ .. أنت محموم!
    (2)
    أفقتُ من نوْمٍ طويلٍ في عيادةِ طبيبٍ جارٍ لنا، لأكتشف موتَ رباب، بعد أن ضربتْنا سيارةٌ مجنونة، ونحنُ نسيرُ مُتشابكي الأيدي في ظهيرةٍ يومٍ صائفٍ مجنون.
    قالت أمي في ثبات أحسدها عليه:
    ـ رباب ماتتْ .. لمْ تتحمّل الصدمة.
    صرخْتُ:
    ـ ربابُ لم تمتْ!
    هلْ كانتْ أمك تُحبها أم تكرهها؟
    سؤال لا يؤرقك!
    لكن الذي سيؤرقك طويلاً .. هو غياب رباب!
    (3)
    في حكاياتي المُقبلة، سأتكئ على التاريخ، لأثبتَ أن الفقير يُمكنه أن يُقابل السلطان، ويقول له ما لا يُحب سماعه؟
    فعنترةُ يحتوي عبلة في أضلعه!
    وعبدُ الستار ماتَ يوم أن ماتتْ رباب!
    ...
    رأيتُ فيما يرى النائم أنهم قادوني إلى سراي النيابة: قلتُ لهم إن هذا النص .. (الذي أكتبه عن تجليات فمِ المُغنِّيةِ رباب وعجائب شدوه) أكثرُ منْ معجزةٍ، لأنه يجعل القرية النائيةَ المُغَيَّبةَ تولد من جديد، فوقَ الكراسي العالية، التي لا يصلُ إليها أحد! وأن الأولاد الحفاةُ العراةُ يُمكنهم أن يكونوا اللاعب الأول ـ الذي يملك كل أوراق اللعبة! ـ في منطقة المساجلة!
    ـ ماذا تعرف عن رباب؟
    ـ شاعرة من قريتي!
    ـ ماذا تحفظ من أشعارها؟
    ـ أحفظها، وأعرف خرائطها، لكني لا أحفظ أشعارها.
    ـ أغانيها مسجلة عندنا، فلماذا تنفي معرفتك بأغانيها؟
    ـ لماذا تسألونني إذن؟
    ـ إنها تُهاجم الجميع في أغانٍ ثوريةٍ بذيئة.
    ـ إنها تُغني للحياة وللمستقبل .. ولم أسمعها تُهاجمْ أحداً.
    ـ من الذي قتلها؟
    ـ لم يقتلها أحد .. لأن الجميع يحبها .. حتى الأشجار والعصافير.
    (4)
    سأخبركم ـ بلا فخرٍ!! ـ أنني أحكم الطوق حول رقاب الذين يريدون غياب رباب!
    ولن أجعل الحمى تدخل بيتي، أو الوهم يخترقُ جدرانَ حبي للجميلة، ولنْ يحتويَها الغيابُ!
    رغم الثقل الذي أشعر به في جسدي وفي أطرافي!
    ...
    وإذا كان الفجر مظلماً في الدروبِ
    فبإمكان غنائها أن يضيء طرقاتكم!
    ولا مانع ـ في فعلِ الغناءِ الجميلِ ـ من أن تجعل الفيلم الصامتَ فصيحاً، مُفجِّراً طاقاتِ شعوركمْ، محققاً أمانيكم ومكبوتَ ضمائركم!
    ألا يكفيكم أن تروْا بسمة رباب؟!!
    ألا يكفيكم أن تسمعوا غناءَ رباب؟!!
    (5)
    فتحتُ الكراسةَ التي أكتبُ فيها خواطري فصرخت أمي:
    ـ هل مازلت تقرأ شعر رباب؟! ..
    أجبتُ ضاحكاً:
    ـ ربابُ لا تكتبُ شعراً .. هذا شعري.
    وقرأت:
    ربـاب
    يا من تقفين في آخر الطريق، وتُنادين
    ـ لست وحدك هناك أيتها الحبيبة القديمةُ!
    ...
    أنا أوقن أن بجانبي ألف نخلة
    ترتفع فوق وجع السنين الطويلة!
    وتناجيني من خلال حزنها
    لغيابك
    ...
    الشطآن المراوغة تتراجع تحت قدميَّ
    وألف وردة تشتعلُ نارها في شراييني
    فالرباب ما مات لحنها!
    ...
    (قلَّبتُ صفحات الكراسة، وفزعت أمي:
    ـ كأنه لا يكتب إلا لها!.
    (6)
    تلك الحياةُ الصامتةُ.
    تلك البهجةُ المكبوتةُ في عيونكم.
    لا تنبئُ عن حبِّ رباب!
    أخبرتني أختي الصغيرةُ (سُها ) أنها رأتها في شاشة الأخبار ـ قبلَ عرضِ الفيلم، وكانتْ واقفةً مع فارسٍ، لا يُشبهُ أحداً من الناس!
    كأنَّه رجلٌ سماوي.
    وأن النخاس أخذ يقلبها، ويُعري أطرافاً من ثوبها!
    و...
    لا تُكملي فريتَكَ يا سُها، فلن أُصدِّقكَ!
    فربابُ ..
    لا تُباعُ ـ أو تُعرضُ ـ في سوقٍ للرقيق،
    فلماذا .. أيُّها المتقولون .. تتربصون بسيدةِ نصوصي التي تقولون عنها إنها ماتتْ غيلةً؟
    وأنا ..؟
    لا أبصرُ القضبان
    حول خطواتي..
    أو في رحابةِ أفقي،
    أو عائقةً عنْ قدومِ فجري بعودة «رباب»؟!!

    ديرب نجم 26/8/2003م

  6. #6
    (6)
    *حزن لا يموت!*
    ......................

    (1)
    لأيام حنينك .. التي فارقتْها الشمسُ اللاهبةُ سأودعُ ساعات الدعة، وسأكتبُ أحرفي المجنونةَ على بابك .. وأسألُك: لِمَ لمْ تسمعي صدى نداءاتي الأخيرة .. ودعائي أن يجعلك اللهُ تعالى من نصيبي؟
    كم بدت النجومُ قصية حينما صممتِ على الرحيل ..
    هل أقول: وتحطّمت آمالي؟
    لا أجرؤ على قول ذلك، فأنا ـ للأسفِ ـ مازلتُ أعيشُ، وأُهاتف أمي وشقيقتي مرتين أسبوعيا، وأسألُ عن أحوالِ أقاربي وقريتي؟!
    هاهي أشرعتُك تبحرُ متعجلةً نحو البعيدِ .. المجهول، وبقسوةٍ لم أتخيلها ..
    لماذا رحلت يا نبوية وتركت أشلاء فارس تبحث عنك كيْ تعيدي إليها الحياة كما فعلت جدتك «إيزيس» ذات يوم!
    لماذا رحلتِ ولم تسمعي قصائدي المرهقة بالحنين، الحالمة ـ كقلبي ـ دواماً بكلمة منك .. تعيدُ الحياةَ لهذه الجثةِ الساكنة؟!!
    أطفأتِ ـ بيديْكِ ـ شمعتي الساهرة!
    (2)
    أخذتُ أرضي وصفصافتي وعصافيري .. تحت جلدي، وقبعْتُ مقنَّعاً بالفضاء الأبيض الفاتر في هذه المدينة الجميلة التي تستلقي في حضن البحر هاربةً من أضلاع الصحراء!
    أجلسُ خلف الكرسي الوثير .. وأمامي حاسوب أدون عليه أرقام الصادر والوارد، وأُحصِّل المبالغ المستحقة لهذه المؤسسة التجارية ذات المسؤولية المحدودة التي أعملُ بها، والتي يمتلكها شيخٌ نقي ضرير، ويُشرفُ عليها أخوه الأستاذُ الجامعي، الذي يثق بي كثيرا.. وأرجو أن تكون ثقته في محلها!
    لم تعد لديَّ أجنحة كي أحلق بها، ولم أعد أستظل بصفصافةٍ أو أشع في بهاء، ولم أعد أكتب شعراً، منذ تركت «نبوية»، وغادرتني أحصنة شعري التي لا تصهل!
    أتركتُها أنا .. أمْ هي التي تركتْني؟
    استقرَّ والدها التاجر الكبير في الإسكندرية التي ضاعت فيها، فلم أستطع أن أراها أو أجلس إليها!
    لعلها رحبت بهذا الانتقال؛ فلم تكن أختي فريال تحبها.. وظنت نبوية أنها ستقف في طريق زواجي منها!
    أصبحتُ ـ بعد رحيلها ـ أوقنُ أن الجفافَ يسودُ الأرض، وأن السماء لم تعد تمطر.. والخراب ينشر أجنحته السوداء في كل مكان من أرض الله!
    لم أعد أشعر بنبض ما أكتبُه من خواطر، فما أكتبه هو هوامش ـ لا أكثر ولا أقل ـ على كتاب رحيل نبوية .. أو كتاب الغياب!
    ...
    لكني ـ مع ذلك ـ ظللتُ أكتبُ .. حتى لا أنسى صبوات النرجس، وموسيقا حياة الروح!
    (3)
    قلتِ لي ذات مساءٍ، والشمسُ الغاربةُ تدفع شعاعاً قانياً من خلفِ الغيوم ليسكبَ في قلبي الفزعَ على مشهدِ مأتمِ الجمال الوحشيِّ:
    ـ في مقلتيِّ ضياء طفوليٌّ قديمٌ ينبئُ عن حرماني!
    وأنتِ وردةٌ حمراءُ أعلقها في «شم النسيم» على عروةِ قلبي، المُباغَتِ دائماً بحرابِ الفقْدِ والثكل!!
    لماذا اختفتْ ملامحُ وجهك الطفولي اللامع .. خلف شرفةِ الغيابِ .. فما لي أبصرهاَ ـ على الرغم من ذلك ـ حقل أنجم خرساءَ في سمائي المعتمة؟
    أتذكرين ريشتي التي رسمتك ذات مساءٍ صافٍ على قبةِ السماء، وحثت خطاها القصيرة، نحو مروجك السماوية .. يا ذات العينين العسليتيْنِ المثقلتين بالوجوم؟!
    وأنتِ تقولين: رسمك أحسنُ من شعرك.
    ـ كان جبران رساماً أيضاً.
    تضحكين:
    ـ أيهما أسبق عندك .. الرسم أم الكتابة؟
    ـ رسم الإنسانُ الأول على جدر الكهوف قبل أن يخط قصيدة أو حكمةً!
    رحلتِ ..
    منذ كمْ تركتني؟ .. عشرة أعوام؟
    قابلتُك وأنت في السنة النهائية من دراستك الجامعية في ملتقى صيفي للطلاب، وكنتُ قد تخرّجتُ من عاميْن!
    ذهبتُ لزيارة صديق في معسكر أبي بكر الصديق، فوجدتك هناك!
    وأنا أُطالعُ الآنَ خطابك الوحيد .. يحدثني عن نزوة حنانك الساخر، وعن عينيك الحالمتين. ويحدثني بصيف بديعٍ قريبٍ نزق .. نقضيه في غفوة من زماننا المخاتل .. وتغنين فيه أغنيات الحب لطفلكِ (هلْ مازلْتُ طفلاً؟) الذي لا يكبر أبداً.
    وأتساءل:
    أهجرتِني إذنْ، وأنا في الرابعة والعشرين.. فمن سيؤنس وحدتي ـ في أيام العمر القادم المملة ـ بعد فراقك المباغت؟!.. ومتى سيدخل طيفُكِ حجرتي أعلا السطوح؟ .. طيفك الذي يرجُّ أضلعي، ويطوي أيام الغربة بحنينٍ دافق .. إلى قريتنا (التي لم تعد قريتك) البعيدة .. البعيدةِ .. البعيدة؟
    ومن الذي سيُفاجئ طريقي .. بخطوات غير مُراقَبة .. ويمدُّ يده البيضاء لألثمها وأنا مُغيَّبٌ، بين حلمي .. وواقعي؟!
    (4)
    لماذا ذهبتُ إلى البحرِ ـ بحر الدمام ـ في اليومِ الثالثِ من أيام عيد الفطر؟
    أكان لا بد أن أذهب إلى البحر .. وأنا الذي لا أغادر الشركة إلا للنوم، وقبل النوم أقرأ رواية أو أشاهد بعض برامج الفضائيات؟ .. أو أكتب سطوراً مما أظنه شعراً؟
    رأيتُ «نبوية» على البحر، تضحك بقلبٍ ممتلئ بالبهجة (أم هكذا صوّرتْ لي هواجسي؟) وأولادها، ينطقون لهجة الخليج في تمكن، ويلعبون ويجرون في حبور وضوضاء.
    كانت تجلس بجواري على الشاطئ، في هذه الحديقة المترامية، وكنت أنا والمهندس النوبي سعيد ـ جاري في السكن ـ نلعب الدومينو، ويحاول كل منا أن يكسب الدور، وضحكاتنا العالية ترج المكان!
    تشاغلتُ برهةً بتأمُّل خطواتها، وهي تتحرك لتجلس على السور الواطئ الذي يفصل الحديقة عن البحر!
    ...
    وسعيد يضحك:
    ـ لن أتركك تهزمني، لو اضطررتُ أن ألعب حتى الفجر .. فسألعب.
    وأضاف:
    ـ غداً الخميس .. إجازة في البلدية.
    أضفتُ وأنا ابتسمُ، مشجعاً له:
    ـ عليَّ أن أفتح مكتب المؤسسة في السابعة والنصف.
    (5)
    اتركي لي في القلبِ جذوةً صغيرةً .. صغيرةً .. من نار العشق .. تضئُ طريقي الدّامسَ، وتعاليْ معي .. نجلس على العشبِ في قصْرِ مسحور، نقرأُ أشعار طاغورَ .. وتغنين لي أغنية فايزة أحمد الأخيرة!.. ونلقي الصحف الكاذبةَ بعيداً، بكلِّ ما تقدرُ أيدينا .. حتى لا تلوث أصابعنا (التي تكادُ تنْدى) بحبرها الأسودِ الخبيثِ.
    تضحكين:
    ـ الصحفُ لم تعد تلوثُ الأيدي، فقد مات العرَّابُ الكاذبُ ربُّ الجنود .. بعدَ رحلتِهِ الأخيرةِ / غيْرِ المقدَّسةَ!!، وتركنا للفجيعةِ، وللحقيقة الوحيدةِ ..
    ـ ماذا تقولين؟
    لا تردين على سؤالي، وتُكملين:
    ـ تركنا كالفئران، أو قل أسرى في أيدي الغربان!!!
    (6)
    هاهي أخيراً «نبوية»، يا الله!
    لم أجدها للمرة الثانية على شاطئ الإسكندرية، ووجدتُها على شاطئ الدمّام!
    تزوجتْ من خليجي، وتركتني!
    كسبتُ الدورَ من سعيد، وتأكدت خسارتي في «نبوية»!! ..
    زوجها فتى .. في نحو الأربعين، خفيض الصوت، له لحية خفيفة، ويداعب أطفاله في حنو بالغ، ويتكلم كثيراً في هاتفه الجوال .. يبدو من منظره وكلامه أن صاحب مؤسسة تجارية، كالمؤسسة التي أعملُ بها.
    لماذا جئتُ الليلةَ إلى البحر؟
    (7)
    لا أذكرُ خطواتي الأولى معها!
    لا أدري كيف تعرّفتُ عليها.. أو كيف اكتشفتُ أنها جارتي، وأنا في الرابعة عشرة؟!
    كنتُ صبياً، لي الأمسياتُ التي أنطلقُ فيها كالفراشة أغني، تُدغدغُ الأغنياتُ مشاعري فأطير بعيداً عن قيدي الزمان والمكان، وكانت جميلةً جميلةً .. وكان فمُها عصافيرَ تغردُ، وكانت وردةً حمراءَ في العيون، مُبهجة!
    تمنيتُ لو تصمت الأغنية الكسول التي تتردد بجانب شجرة الصفصاف، في مذياعٍ خشبي كبير ـ حينما مرّت ـ وأنا مستلق على تل صغير بالفضاء، أُذاكرُ ما قاله أبو ماضي، عن الحجر الصغير، والأستاذ يُهددنا بأننا سنرسب في امتحانات الثانوية العامة ـ التي لا ترحم ـ إذا لم نحفظ النصوصَ جيداً ..، كنتُ في الصفِّ الثالثِ الثانوي، وكانتْ تصغُرني بعامين. وأختي فريال التي لم تتعلّم تراها قطةً لها أنياب!!
    قطة لها أنياب؟!
    .. ماذا تقولين يا فريال؟ .. أنت لا تعرفين القطط، ولا تحبين الفراشات أو الورود!
    كان الضوءُ البعيدُ للعصفورة الملونة .. يتجلى في هالةٍ شبه رماديةٍ صغيرةٍ كافيةٍ أن تحيطَ بالرأس والعنق، وتُحدد ملامح الصدر الصغير المكتنز .. فتبدو كأميرة منحدرةٍ من سلالةِ ملوكٍ من قرونٍ سالفة أراهم في الصور الملونة في الروايات المترجمة!
    لماذا ترك أبوها ـ تاجر الألبان ـ القرية، وهاجر لبعض الوقت إلى المنصورة فدمياط ثم إلى الإسكندرية؟
    أكان متعثرا في تجارته ولا يريد من البلاد أن تفرح في فشله؟ .. أمْ كان ناجحاً وينتقل من نجاح إلى نجاح؟
    أصغرت القرية عن أن تحتوي آماله ونشاطه؟ وهو الرجل الذي له زوجة ثرية .. وبنت ولد؟!
    على شاطئ الترعة المتخم بالزرقةِ .. بين النوم واليقظة، وحيثُ لا يُطالع أبي دفاتري .. كتبتُ قصيدتي الأولى، وكان صوتُ العصفورةِ الوحيدة هو القوةُ الحقيقية التي يمُكنها أن تجعلني أحلم وأغني .. خلف الجدران الطينية هناك .. حيثُ تزهرُ أشجارُ القطن، وتجري مياه الينابيع، وتجلسُ أمام صنبور بجانب باب الدار الكبيرة، وترشني بقطر الندى كلما مررتُ!
    كنا يوم أربعاء في قرية منسية من قرى الشرقية!
    وها نحن في يوم أربعاء بعد سبع عشرة سنة في الدمّام .. وفي ثالث أيام عيد الفطر .. في أرض بعيدة!
    ما أسرع ما يمر الزمان!
    ...
    (8)
    لماذا تحوطك الغمامات وأنتِ ـ في جلستك البهيجة ـ محاصرةٌ بأحاديثِ العابراتِ عن حزنكِ، وعن جمالِك البهيج الذي يُدير الرؤوس!
    لتنتش أرضٌ أنت تجلسين عليها، ولينتش كرسيٌّ أنيق، ومقابضُ ذهبية ولأنتش أنا المأخوذُ ببهائك ولأسرف في الفخر، لأنني كان لديَّ فسحةٌ من الوقْتِ لأراكِ وأنتِ جالسةٌ تطالعين مجلةً ملوّنةً لا تتحدّثُ بالطبعِ، عن إسرائيلَ، وحرب الاستنزافِ، والقائد الكهل، الذي يريد أن يبسط سلطته المتآكلة على ثلة أصحابه الكهول بفعلِ الوقتِ، والهزيمة!
    قبل آخر لقاء في معسكر أبي بكر الصديق .. كان يُرافقني ابنُ خالتي العائدَ منهزماًَ من حرب الساعاتِ الست، وكانت ضاربةُ الرملِ تُغريه بزواج ابنتها القبيحةِ (الغولة)، وكانتْ طيورٌ متوحشة تقرعُ الكؤوسَ في صباحٍ معتمٍ!، تركني أمام المعسكر وأنا أثرثرٌِ:
    تعاليْ أيتُها الطواويسُ المهزومةُ، تعالَ يا إوزٌّ، يا بطُُّ، لنحتف ٍجميعاً بالهزيمةِ .. برجالِ الهزيمةِ، ولندحرج مآتمنا في رمالِ الشرقِ، ونأخذ أقمارَ البراري في أحضاننا.. ولنكتب قصائد الهجاء في كلِّ نجمٍ محاربٍ، لم يصُن مفارق سيناء، أو «شرم الشيخ» و«دير سانت كاترين».. حتى لو استمطر سحائب النصر الغائب بهمهةِ العرَّابِ الكاذبِ..، وحاول أن يُطلع في سمائنا أقمارَه العجيبةَ السوداءْ!!
    أيها الشعرُ .. يا جناحَ الطائر البحريِّ المسافر إلى البعيد ..
    خذ شوقي إلى سريرها الغافي في مروج النور ..
    ورش أطيافاً من نورٍ، وصلاةٍ
    على هدبها الغافي ..
    وتعال .. صف لي ضجعتها الأخيرة!
    ...
    أيتُها الفرسةُ الصاهلةُ! كمْ يعذبني صمتك
    وأنتِ كم صهلتِ .. وصهلْتِ .. بين مروج ربيعي الأجرد، قبل أن يُقدمَ الغربانُ بنجمتهم السداسية وسوالفهم الطويلةِ السوداءِ القبيحة!
    تتكدّرين؟
    سأذكرك دائماً
    ...
    لأجلسْ على الصخورْ
    ولأتِهْ بحبك .. الذي كان ملاذي
    في الشارع المهجور
    بين أقراني!!
    وعلى أطيافِ سهدي
    وسأحاولُ ـ أنا مالكُ بن الريب ـ أن أكتب المرثية الأخيرة
    لقلبك المفطور!!
    (9)
    «نبوية» تخرجت، وتزوجت، وأنجبت ..
    وأنا وحيد، بلا أب!!
    فقد رحل أبي قبل أن أتزوج!!
    .. ولي أم عطوف، تحنو عليَّ، وتدعو لي، وتقول لي دائماً إن «نبوية» ليست آخر الدنيا!
    .. ولي أخت عانس (هل قلتُ من قبل إن اسمها «فريال»؟) في الأربعين لم تتزوج، وتهوى اصطياد اليمام والعصافير، وتحب قتل الفراشات واغتيال الورود!
    يا لدورات الزمن!!
    لم أكن أدري عن «أربعاء الرماد» هذا ـ بالدمام ـ الذي فتق جراحي!.
    وكأن المُغني الكهل الضرير ـ الجالسَ في طرفِ الحديقةِ ـ يجلد إحساس الشاعر القديم بقوله:
    «إن الزمان هو الزمان دائماً
    وإن المكان هو المكان الدائم والوحيد
    وإن ما هو فعلي هو فعلي لمرة واحدة فقط
    ولمكان واحد فقط» !!

    ديرب نجم 24/8/2005م

  7. #7
    (7)
    *زيــــــــــــــــــارة*
    ............................

    القرية تمجني وكل من فيها لا يريد رؤيتي.
    فكيف أذهب إلى القرية؟
    كيف أذهب إلى القرية وأبي وأمي قد ماتا معاً في حادث مروري منذ سنوات طوال (لم أزر القرية من يومها)، وشقيقي الوحيد «بهاء» ترك القرية ليعيش في إيطاليا مع المرأة الإيطالية التي أحبها وتزوجها، وترك بلاده من أجلها؟
    فلأذهب إلى الطبيب النفسي «صفوت عيسى» الذي عرفته زميلاً لي في معهد حلوان الاشتراكي في «سنوات النضال»، قبل هزيمة يونيو 1967م، وأتحدّث معه بعض الوقت.
    كان أيامها ما يزال نائباً في مستشفى القصر العيني.
    وهو الآن أستاذ كبير في طب القصر العيني؛ تستضيفه الفضائيّات، والمجلات الطبية، ويُدلي برأيه الطبي في الكثير من الصحف التي تطلع عليها، وأحيانا ما يتحدّث في بعض قضايا المجتمع؛ كالإصلاح، والفقر، وقضايا التعليم.
    مازالت أتمنّى أن يسمعني!
    ...
    ابتسم ابتسامة مشجعة، قبل أن أتكلم!
    الاسم: سُها، غيّرته من سناء علي خليل إلى سها، أليس ذلك أفضل يا دكتور؟!.
    العمر: ألف عام في التيه، وممارسة الخطيئة، بلا لذة. وكأني أعذب نفسي!
    الهواية: قراءة الشعر، والاطلاع على بعض ما تنشره الصحف النسائية التي تهتم بقضايا المرأة من قضايا الجريمة، والاستماع إلى الفضائيات ومشاهدة ما تقدمه من أفلام قديمة .. أبيض وأسود .. لا أحب الأحاديث الطويلة .. كم أتمنى ألا يزيد البرنامج ـ أي برنامج عن نصف ساعة.
    الملل؟ .. هو ما يقتلني، بل هو الذي دفعني لأجيء وأتحدث معك!
    هل تذكر أنك عرضت عليَّ ذات يومٍ الزواج، فقلت لك: إني تزوّجتُ القضية! قضايا مصر وأفريقيا ودول العالم الثالث؟
    أية لوثة أصابتْ عقلي يا صفوتْ؟
    هل ساءتك أحوالي؟
    هل تريد أن تسألني عن صحتي؟
    القوام: القوام؟!
    .. هل أبقت فيَّ الأيام قواماً؟
    هاأنت تراني طويلة، وبيضاء، وملفوفة، وكأني ابنة باشا، مع أني ابنة لفلاح متواضع كان يملك أربعةً وعشرين قيراطاً (أي فداناً لا غير) في إحدى القرى المنسية من شمال محافظة الشرقية، ها هو تركها ومات من ثلاثة أعوام في حادث مروري، وبموته ودَّعتُ القرية، ولم أعد أطيق السير في الطريق الموصلة لها!
    بيتنا؟ .. لم يعد لي بيت في القرية، فقد تركه أخي هو والأرض لأبناء عمي، وتزوّج من امرأة عرفها في فندق كان يعمل فيه في شرم الشيخ. سحرته، فترك وظيفته، وسحبته وراءها إلى إيطاليا.
    لا .. لم آخذ ميراثي في الأرض .. الأرض لله.
    كأنك تقول أين صدر سناء الذي اشتهرت بجماله؟
    صدري كان مكتنزاً .. وهاهو قد بدأ يترهّل تحت وقع سنابك خيل الزمن، وكأنها خيول المغول التي لا ترحم!

    سألني صفوت الآخر «صفوت نعمان» ذات صباح أسود جنائزي (ورحلاتي تتوقّف في شقته مرتين أسبوعيا، حتى بعد أن مرّت «سنوات النضال» ـ بحلوها ومرها ـ وصار رئيساً لمجلس إدارة مصنع رأسمالي (لا أعرف أسماء أصحابه، ولا جنسياتهم، فهو من المصانع عابرة القارات!!)
    تسألني وأنت خائف من ردي:
    ـ لماذا لم تتزوّجي يا سُها؟
    وضعتُ ابتسامة شبه ميتة ألِفتُ رسمها على وجهي كلما قابلتُ صفوت الآخر:
    ـ هل تنوي أن تتزوّجني يا باشا؟
    .. وكأنما لدغته عقرب:
    ـ وهل من الممكن أن أتزوّج في هذه السن؟!
    ... وكأن عينيه تقولان:
    «وهل أتزوّج داعرة مثلك؟!!»
    فهل ينسى هو ورفاقه أنهم هم الذين صنعوا مني هذه الدّاعرة؟! وهم الذين لوّثوا هذه القروية الغريرة .. التي كانت ذات يومٍ جميلة؟!!
    ـ لم تدع لي الأيام فرصة أن أتخذ قراراً مثل هذا!

    سألني الطبيب النفسي «صفوت عيسى» ـ دون أن ينطق ـ كيف كانت الرحلة من القرية إلى المدينة .. إلى ذلك الحي الراقي من المدينة وكأنها رحلة ألف عام من المعاناة الدائمة والألم؟
    نظر إليَّ كأنما يكتشف للمرة الألف مناطق اللذة الرخاميّة، التي يستعذبها الساقطون من أمثال صفوت نعمان بعد أن أطال من قبل التأمل في أجزاء نساء أخريات لا تُضاهيها حلاوةً وتمرداً ..
    ـ من أنتِ منهما: سناء علي خليل أم سُها؟
    ـ سُها!
    وكأن الطبيب قد بوغت بإجابة لا يبحث عنها، ولا ينتظرها:
    ـ لا أسألك عن الاسم .. ولكنَّ ما أقصده ..
    ـ ماذا؟
    ... غيَّر اتجاه الكلام بعد أن أحس سفالة السؤال:
    ـ كيف تركك صفوت ـ معذرةً ـ ولم يتزوّجك؟
    وهو يُنزل عينيه إلى أسفل:
    ـ حينما رفضتِ عرضي للزواج .. عرفتُ من البعض أنك على علاقة به!
    رفع عينيه، وأضاف ضاحكاً:
    ـ كيف ترك كلَّ هذا الجمال؟
    إن عيني الطبيب تقولان: كيف يتركك وهو الذوّاقةُ الخبير بأجساد النساء؟!
    لاحظتُ أن شعره يميل إلى البياض، قلتُ كأني تمزح:
    ـ أظن أنني رأيتُك منذ عشرة أعوام، يا دكتور صفوت .. كان شعرك فاحماً.
    قال ضاحكاً، وقد استهوته المزحة:
    ـ لم أرك يا سناء ـ آسف يا سُها ـ .. منذ ثلاثين عاماً .. هل مازلتِ تذكرين اللقاءَ الأول؟ في معهد الشباب الاشتراكي بحلوان في أواخر الستينيّات، في تلك الفترة السوداء التي أعقبت هزيمة يونيو 1967م.
    صححتُ له:
    ـ بل رأيتُك قبل الهزيمة بفترة بسيطة ..
    أغمض عينيه:
    ـ كنتُ حديثَ التخرج من كلية الطب، فقد تخرجت في عام 1965م وكانت لي أحلام في السفر إلى أمريكا، أجهضتها ظروف تلك الأيام. ووجدتني أقرب إلى البعثة للاتحاد السوفيتي من أمريكا. لماذا أذهب إلى أمريكا وهي التي تدعم إسرائيل على اغتصاب فلسطين، وهي التي ضربت بلدي؟ بل كانت هزيمتنا بسبب دعمها لإسرائيل. هكذا قالوا لي في إدارة البعثات وقتها.
    ويقطع روايتَه:
    ـ هل تذكرين؟
    ويزفر ضاحكاً:
    ـ اتجهت إلى الاشتراكية، ثم تبيّن فيما بعد أنها كذبة كبرى!
    غامت الرؤى في عينيه، وصمت، وهو يزفر بحسرة:
    ـ سقطنا جميعا في الفخاخ التي كانت منصوبة لنا بلا رحمة! .. نحن والاتحاد السوفيتي!
    أدار رأسهُ وهو يضحك:
    ـ تستطيعين أن تقولي إنني الآن من التيار الإسلامي، وإن كنتُ لم أنضم إلى حزبٍ أو جماعة!
    قال وهو يُغمض عينيه:
    ـ الإسلام هو الحل .. فيه الحل لكل مشاكل البشر وليس المسلمين فحسب.
    وجدني صامتة، فأضاف في نبرات واضحة:
    ـ ما رأيك يا سُها؟
    ـ انتفضتْ:
    ـ أنا زميلتك سناء علي خليل!، لكن الناس يعرفونني باسم: سُها! .. اسم من ضرورات المرحلة يا دكتور .. وأنت ناديتني باسم سناء من قليل!
    ابتسم:
    ـ لقد كبرنا .. يا سناء! أنا في الثامنة والخمسين الآن .. أنا من مواليد 1943م، وأظن أنك تصغرينني بعدة أعوام .. ثلاثة مثلاً؟
    لم أُجب.
    ضرب المكتب بيده وهو يخلي للبسمةِ مكاناً:
    ـ رحلة طويلة .. من النشأة في قلاع الإقطاع بأنشاص .. بمحافظة الشرقية حيث أرض الملك .. وأبي وأعمامي أجراء في أرضه .. إلى الحلم بإنجازات الثورة .. التي وعدنا بها جمال عبد الناصر .. وغناها عبد الحليم حافظ وصلاح جاهين في «بستان الاشتراكية»، ثم التفوق .. ومنظمة الشباب ومعهد حلوان الاشتراكي .. وذهابي إلى روسيا لاستكمال دراساتي، والتحول هناك عن طب المجتمع إلى الطب النفسي .. لمحاولة التخفيف عن أوجاع الناس الذين قتلتهم هزيمة 67.
    أغمض عينيه، كأنه يريد أن ينسى:
    ـ رحلة صعبة!!.
    زفر:
    ـ يا الله حسن الختام .. أحاول أن أنسى تلك الفترة من حياتي!
    رأيته وهو ينظر إلى الجهة الأخرى .. ويُخرج منديلاً ورقيا، ويبصق في قرف!
    ......
    لأغير الموضوع .. سألتُه:
    ـ كيف حال أسرتك .. أقصد زوجتك وأولادك؟
    ابتسم:
    ـ أمضيتُ حياتي وحيداً .. أبي ترك لي ستة أولاد وبنتين. أكملتُ بعده رحلتي معهم .. تزوّجوا جميعاً، وعملوا في وظائف حكومية، وسافر بعضهم للعمل في الخارج: في ليبيا والعراق والسعودية .. وبقيت أنا، أقضي خمسة أيام في القاهرة مع أصدقائي من المرضى .. ويومين في أنشاص .. أزور أقاربي، وأشارك أهل القرية في الأفراح والعزاء ..
    استمرّ في الحديث ..
    .. وكان عليَّ أن أستمعَ له، لأنسى وحدتي والكثير من جراحي، وأجعل سها المأزومة تنسى تلك الأيامَ التي تُطاردها .. وتنكأ جراحها، وأُساعدها على أن تقذف ذلك الماضي الحزين القاتل الذي يُطاردها في صحيفة الزبالة التي بجانبه!!

    الرياض 24/2/2006م

  8. #8
    (8)
    *وجه آخر للفجيعة!*
    ............................

    قالت له زوجته:
    ـ أنت غني .. فلماذا لا تُعطي أولادك في حياتك؟.
    انفعل، وخرج الرذاذ من فمه يغطي وجهها، كأنه بصقة:
    ـ أنت تفسدينهم ..
    قالت وهي تُدير وجهها، وتمسح رذاذه بيسراها، وتضرب الهواء بيمناها:
    ـ أنت وحيد .. ليس لك إخوة .. قلت لك ألف مرة اجعلهم أخوة لك.
    جناح كلماته ينكسر عن التحليق‏!
    ماذا يقول هذا الرجل ..؟
    أعدّ لها ما استطاع من قول بكل قوة .. شحن قلبه بالكراهية السوداء .. هذه المرأة دائماً تكسر كلامي وتقف في وجهي وتحول بيني وبين تربية أبنائي كما أريد!
    أدار وجهه مكتئباً، فأضافت:
    ـ أنت تجعلهم يتمنون موتك.
    ...
    أدركته نوبة ربو مفاجئة ذات مساء، فمات عن خمسةٍ وخمسين عاماً.
    لم تجد الزوجة ابناً من أبنائه يسير في جنازته .. وبعد أن دفنه الناس أقسم أبناؤه ألا يعرفوا مكان مقبرته!

    الرياض 14/10/2005م

  9. #9
    (9)
    *عرض موجز لموت زرقاء اليمامة*
    ..................................................

    هل مازلت تذكر زميلتك حياة؟
    اليوم يمر ثمانيةٌ وعشرون عاماً على رحيلها..
    كان أبوها يلقننا مادة التاريخ في تجرد وإخلاص، وبصوته المبحوح يطلب منا ونحن وقوف في طابور الصباح في المدرسة الثانوية المشتركة أن نكون رجالاً، ولا ننظر إلى العناكب التي سدَّت عليْنا الأفق بعد هزيمة يونيو 67، وأن الانتصار قادمٌ .. قادمٌ!
    يقول لنا ذلك في خطبته الأسبوعية التي يُلقيها صباح كل أحد، وقد اختار يوم الأحد لأنه يوم السوق الذي يُقام في مدينتنا الصغيرة، ويفد الفلاحون من قرى المركز للبيع والشراء لما يحتاجونه لمدة أسبوع .. اختار هذا اليوم ليُلقي خطبته في طابور الصباح من الإذاعة المدرسية لعل أحداً يسمعها خارج أسوار المدرسة فيفيد منها؛ فتكون الفائدة مزدوجة من الخطبة: داخل المدرسة، وخارجها!
    كان يقول: إن المدرسة مركزُ إشعاع في البيئة.
    وكان يدرِّس التاريخ وكأنه يدرس تلاميذه قصة عشقه!
    ...
    رأى اليهود وهم يستحمون في القناة، فلم يأبه!، وقال: سنراهم قريباً يندحرون!
    ورأى الأريكة المريحة وهي تتهاوى تحت مقعدة السلطان الكهل، فلم يحفل، وقال: مصر ولادة!
    ورأى من يسرقون في بداية عهد الانفتاح السعيد «وكان حياة قد رحلت، وبدأ يفقد نور عينه اليمنى»، فقال: عابرون .. لكن عليْنا أن نتصدّى لهم .. ونقف في وجه شرههم.
    ...
    ماذا فعلت بك الحياة يا أبا «حياة»؟.
    حينما ماتت ابنته «حياة» .. في 15 مايو 1971م، يوم «ثورة التصحيح» المباركة التي قادها السادات، ونحن في نهاية السنة الثالثة من دراستنا الجامعية (وقد كانت زميلتي في المدرسة الثانوية المشتركة التي كان أبوها يُلقننا التاريخ!، كما كانت زميلتي في قسم التاريخ بجامعة القاهرة) ... هتف الأستاذ ونحن على رأس المقبرة نواريها التراب:
    ـ أين ذهبتِ وتركتنا يا حياة؟
    .. ورأى الآفاق مترامية كجراحه التي لا تبرأ!
    قتلتها سيارة طائشة في ميدان رمسيس وهي في طريق العودة إلى القرية، بعد أن انتهت امتحاناتنا، وكانت أمها قد ماتت قبلها بعامين ونصف أثر دخولها الجامعة.
    كنتُ بجوارها ساعة الوفاة!
    حاولنا إنقاذها، ولكنها ماتت قبل أن تصل إلى مستشفى «الجلاء» المُجاور لميدان رمسيس.
    لم يعد أستاذنا يتكلم، بعد موت «حياة»، وقد كان متحدثاً جميلاً ومشرقاً.
    كان يردد دائما، أمامي:
    ـ لا أدري لمَ لمْ تعطِ الحياةُ فرصتها لحياة؟! .. هل لأن القبح والدمامة صارت لهما الغلبة في الحياة؟ .. أم أن في اختفائها إشارة لاختفاء العقل والمنطق من حياتنا؟!
    التحقنا أنا وهي بقسم التاريخ، لنكمل مسيرة والدها الذي انشغل بالتدريس ولم يؤلف إلا كتاباً واحداً عن «تاريخ العسكرية المصرية» من عهد مينا موحد القطرين إلى قيام ثورة 1952م.
    ...
    كنتِ ـ يا حياةُ ـ قادرةً على الرؤية البصيرة .. مثل زرقاء اليمامة، لكنك لم تتنبهي في تلك الأيام لمقاطع الهزيمة التي يمتلئ بها كتاب راهننا!
    هل كنتِ تخافين أن ترديك الكلماتُ الجاهلةُ الفاجرةُ في بركةٍ من الأسى الدائم ... فطال صمتُك وأنت المتحدثة .. واكتفيْتِ بصحف الحائط التي كنتِ تصدرينها في الجامعة؟ ..
    لماذا توقفتِ بعد عدة أعداد .. وآثرتِ الصمت الدائم؟!
    وكنتِ لا تتحدثين إلا في الجلسات الصغيرة التي تضمنا مع والدك، أو في قاعة الدرس.
    كنتِ تبصرين النصر قادماً، وتبصرين بعده أثرياء الحرب (الذين أسميناهم بعد الانفتاح السعيد ـ بعد رحيلك ـ «القطط السمان»)، وكنت تُشيرين إلى اختفاء الطبقة الوسطى، بعد مجيء أثرياء الحرب الذين لا يملكون قيماً، أو إرادةً لنهضة البلد!
    كنتِ الأولى عليْنا في السنوات الثلاث، التي عشتِ فيها معنا في دراستنا الجامعية .. بعد النكسة القاتلة.
    وكنت تُحاولين أن تظهري أمام زملائك وزميلاتك مرحةً في ذلك الزمان (رغم الحزن البادي في ملامح وجهك) .. وكنتِ بين حين وآخر تلعبين كرة السلة مع فريق بنات الكلية، وتُدمنين قراءة المنفلوطي ومحمد عبد الحليم عبد الله.
    ..
    زرتُ أباكِ أمس .. عشية الذكري الثامنة والعشرين لصعود روحك الحرة إلى بارئها .. فلاحظتُ بعضَ التجاعيد حول عينيكِ في الصورة المعلقة على الحائط.
    ربما من آثار التراب، فلا يد تمرُّ على الصورة لتجليها.
    ورأيت عيني أستاذنا حجرين لا يُشعان، وفمه صامتاً لا ينطق!
    وعلى الحائط صورتكِ أنت فقط، مع بعض صور زعماء مصر السابقين: أحمد عرابي، ومصطفى كامل، ومحمد فريد، وسعد زغلول، ومصطفى النحاس، وجمال عبد الناصر!
    تكلمي يا حياة!
    لماذا صمتُك مطبق، ونظراتُك ساهمة لا تغادر أفق الحجرة!
    ولماذا يمنعني صمتي وحزني ـ بعد مرور ثماتيةٍ وعشرين عاماً ـ عن أفق التحديق والبوحِ، لتتكلمي ..
    هلْ تسمعينَ كلمات زميلك القديم؟ .. الذي كان يعتز بك، لكنه لم يُعبر عن هذا الإعزاز خوفاً من صرامة أبيك!
    وظل يؤجل إعلان الحب إلى ما بعد التخرج .. توطئة للخطبة والزواج .. فلم يقل لك أبداً الكلمة التي كنتِ تشعرين بها، وتعرفينها معرفتك به: أحبك!.
    .. اتركي عبراتك إذنْ، واتركي كتب عبد الحليم عبد الله .. وافتحي أبوابك للريح، واسمعي النبض القديم في صدرِ زميلك، وهو يُدمدمُ، وغادري الإطار الخشبي المترب!
    هاأنذا في التاسعة والأربعين .. لم أتزوج بعد!
    وأظنُّ أن شوقَ أبيك يتوق إلى كلمة واحدة منك، تُضيء أيامه القادمة! ..
    تكلمي، فكلام المنفلوطي ومحمد عبد الحليم عبد الله لن يجيب على أسئلة الواقع الذي يُحاصرنا من كل جانب!
    وزميلك (هل قلتُ حبيبك؟) الذي لم يكن يعبأ بالمنفلوطي وعبراته .. ومحمد عبد الحليم عبد الله وقصصه القصيرة ورواياته، أصبح مكترثاً بهما، مطيلاً النظر في آثارهما .. ويحفظ بعض الفقر والمقاطع من كلامهما! .. ألم تعجبي بهما أنت .. فكيف لا يحملهما في العينين؟
    تكلمي، بمثل كلامَكِ القديم الذي يرن صداه في أذنيَّ، والذي لم يصدأ بعد!
    ...
    تكلمي .. فزرقاء اليمامة صارت ـ بموتك ـ صامتة!!.. ولم تعد ترى الأشجار وهي تسير في طرقنا التي صارت معتمة!

    الرياض 15/5/1997م

  10. #10
    ( 10 )
    *ظمـــــــــأ*
    ..................

    شاهدتك أيها الجار في بذلتك المكوية في الليل، تتحرك .. قادماً من ذمار .. تقبض راتب الشهور الثلاثة الأخيرة كما قالت زوجتك .. وآخر فرع من شجرة النبق يهوي، في آخر برد يناير القارس .. وزوجك ترفع يدها المتثائبة لتُحكم إغلاق الباب، وقد ختم على فمها وعينيها النعاس!
    أيها المدرسُ المصريُّ الجارُ الخفيضُ الصوت!
    لك ولدان كفلقة القمر، وزوجتك هيام صاحبتي، تجلس معي وقتاً طويلاً صباح كل يوم، نلتقي من العاشرة إلى الثانية عشرة إلا ربعاً، في بيتك الصغير المكون من حجرتين ودورة للمياه، والذي يمتلكه محمد ناصر عم زوجي.
    نلتقي وأنت تدرس للطلاب في المدرسة الابتدائية التي يدرس فيها نواف ابن أخي زوجي، في الصف الرابع الابتدائي .. وهو يرى فيك أباه الذي يعمل في السعودية!
    الولد «جميل» ابني ذو السنوات الخمس .. آخذه معي يلعب مع ولديك، وكثيراً ما يأخذهما ليركبا الأرجوحة التي عملها أخي لجميل منذ ثلاثة أشهر!
    ليت لي زوجاً مثلك!
    ثلاثة أرباع رجال القرية يعملون في السعودية، ويطول غيابهم .. ولا يأنسون بزوجةٍ أو ولد!!
    لا يأتي الرجل إلا كل عاميْن مرة، ويترك زوجته كالأرض البور، تنظر مواسم الحرث!
    وقد يضع بذرة، لكنه لا يراها تنمو على عينه!
    ...
    ـ مرة أخرى .. أعوذ بالله من وسوسة الشيطان .. ماذا كنتُ أقول؟! .. أشتاق للزوج الذي تركني منذ عامين وذهب ليعمل في مطعم بالرياض!
    أيها الزوجُ البعيدُ .. لأنت رجل سيئ الطالع!، لم تنعم بدفء العلاقة الزوجية كما ينبغي؛ وأنا كذلك!
    لم ننعم أنا وأنت بعش الزوجية السعيد، ولم يشبع أحدنا من الآخر ..
    جميل يشتاق إليك .. ويسأل دائماً:
    ـ أين أبي؟
    لماذا تبعد عنا؟ ..
    كان يُمكنك أن تعمل في مطعم في الأحد أو في ذمار .. وتبيت معنا كل يوم .. أو تجيء كل أسبوع لتقضي معنا يومين إذا عملت في صنعاء.
    أكان لا بد أن تسافر؟
    أتريدُنا مرةً أخرى .. أم لن تعود؟ ..
    كلما أرى المصري أتذكرك وأشتاقُ إليك؟
    هل ستعود؟
    واثقة من عودتك .. فمتى ستجيء إذن؟

    الرياض 2/4/2006م

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. النص الكامل للتوراة السامرية باللغة العربية
    بواسطة محمد عيد خربوطلي في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 01-10-2015, 03:00 AM
  2. النص الكامل للتوراة السامرية باللغة
    بواسطة محمد عيد خربوطلي في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 01-07-2014, 06:21 PM
  3. النص الكامل للتوراة السامرية باللغة العربية
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى ركن اللغة العبريه
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 09-06-2013, 08:06 PM
  4. النص الكامل لمجموعة «قطعة سكر» لبدر بدير
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى منقولات قصصية
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 04-01-2009, 07:36 AM
  5. النص الكامل لمجموعة «الثعبان المزعوم» ليس الفيل
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى منقولات قصصية
    مشاركات: 19
    آخر مشاركة: 12-19-2007, 07:20 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •