المترجمون وحلم المأمون
--------------------------------------------------------------------------------
اعتاد أرباب الترجمة في العصر الحالي التغني بأمجاد ماضيها الممثل في قرار المأمون الشهير بترجمة كل الأدبيات اليونانية إلى العربية مما شكل نقلة نوعية في تاريخ الثقافة العربية أتاح لها الاطلاع على الفكر الآخر وتطوير المناهج العلمية العربية التي كانت تعتمد في جوهرها على المشافهة والرواية . والذي يجعل المترجمين العرب المعاصرين يتغنون بالمبادرة المأمونية هو التوافق الفريد في تاريخ الأمة بين السلطة العلمية والسلطة السياسية من أجل النهوض بالترجمة وخلق إطار مؤسساتي لها تمثل في بيت الحكمة . فهل نستطيع أن نحلم يوما بمأمون جديد ؟ ومن أين تتأتى لهذا الحلم مشروعيته التاريخية والحضارية ؟
تبدأ القصة بحلم . يقول ابن النديم في الفهرست(ص243) "أن المأمون رأى في منامه كأن رجلا أبيض اللون مشربا حمرة واسع الجبهة مقرون الحاجب أجلح الرأس ،أشهل العينين ، حسن الشمائل ، جالس على سريره ، قال المأمون : كأني بين يديه قد ملئت هيبة . فقلت من أنت ؟ قال : أنا أرسطو طاليس .فمررت به وقلت : أيها الحكيم أسألك؟ قال : سل . قلت : ما الحسن ؟ قال : ما حسن في العقل . قلت : ثم ماذا؟ قال : ما حسن في الشرع . قلت : ثم ماذا؟ قال : ما حسن عند الجمهور . قلت : ثم ماذا ؟ ثم لا ثم لا ...فكان هذا المنام من أوكد السباب في إخراج الكتب فإن المأمون كان بينه وبين ملك الروم مراسلات وقد استظهر عليه المأمون فكتب إلى ملك الروم يسأله الإذن في إنفاذ ما عنده من مختار العلوم القديمة المخزونة المدخرة ببلد الروم فأجاب إلى ذلك بعد امتناع " .
وإذا كنا قد شككنا سابقا في مثل هذه الروايات الأسطورية التي تبني بداية العلم على رؤيا أو منام أو رغبة ذاتية أو حادث عرضي كما حصل مع سيبويه والكسائي (أنظر كتابنا الخطاب النحوي العربي ) ، بل الأكثر أن رغبة رواتها تظهر في المحاولة التاريخية للتوفيق بين العقل والنقل وجعل الشرع تبعا للحكمة وليس مضادا لها ،فإن الوقوف العرضي عند هذه الرؤيا يبرز بوضوح استحالة قيام حركة الترجمة الكبيرة على حلم أو منام رباني أو شيطاني . وإنما هي عادة السلاطين في تبرير القرارات الإدارية بتوظيف المخزون الشعبي وأساليب الإيهام المتوفرة . لكن الأكيد أن ما توفر في عصر المأمون والذي جعل مشروع الترجمة حالة أمة هو ارتباط القرار السياسي بالقرار العلمي فأثمرا معا بناء حضاريا شامخا. لذلك لا يتردد مترجمونا من الحلم بحلم مأموني آخر وإن على سبيل التمني والتغني . فإلى أي حد يمكن للحلم أن يصبح حقيقة ؟
ما أثبتته التجربة القديمة هو أن العربية باعتبارها لغة طبيعية يمكنها استيعاب منجزات الحضارية البشرية بكل ألسنتها . فما يشاع حاليا عن قصور العربية وعدم قدرتها على الوفاء بمتطلبات الزمن الحالي ومواكبة التطورات الحضارية المعاصرة يجد ما يلغيه في تجربة المأمون القديمة . حيث استطاعت لغة القرآن ،بالرغم من حداثتها مقارنة باللغات الأخرى وخروجها من رحم مجتمع الصحراء والطبيعة ، أن تستوعب النظريات الأرسطية بمختلف مراتبها التجريدية وتنقل بصدق كل المعارف اليونانية ، بل لم يمض وقت طويل حتى غدونا نسمع عن أسماء لامعة في علوم جديدة استوطنت تربة الشام والعراق بعد أن كانت حبيسة البحار والجزر . لذلك سيبقى للتجربة المأمونية رونقها الذي يحلم به رواد الترجمة . ولعل الحنين إليها يبقى مرتبطا بالحالة الراهنة للترجمة في العالم العربي حيث القرار السياسي مبعد إلى أجل غير مسمى عن البحث العلمي عموما ، ولا تخصص للبحوث في الترجمة إلا ميزانيات ضئيلة لا تفي حتى بأقل الحاجيات الضرورية . والأكثر من ذلك أن فعلا حضاريا هاما مثل الترجمة يخص الأمة العربية بأسرها تجده مشتتا بين مؤسسات عديدة لا تربط بينها إلا التسمية أحيانا من معاهد ومراكز وجمعيات وجامعات ومجمعات..... من هنا يأتي دور القرار السياسي في النهوض الفعلي بالترجمة وعلومها .
وإذا كان باستطاعتنا أن نشكك في التجربة التراثية وصحة السند فيها فإننا لا نستطيع أن نشكك في التجارب الغربية المعاصرة القائمة على نقل كل العلوم إلى لغاتها الوطنية بميزانيات ضخمة تبرز أهمية الترجمة في نهضة الأمة علميا وثقافيا . في حين أن اغلب مفكرينا يظلون متأرجحين بين نموذجين : نموذج يكرر ذاته بلغته ويخاطب نفسه ، وآخر يفتخر بانتمائه الحداثي ولا يتحدث بلغته إلا حين الحاجة اليومية ، وبين الاثنين يظل حلم المأمون هو الأمل.

__________________فؤاد بو علي