غسان ابراهيم×

تعاني الولايات المتحدة الامريكية من أزمات داخلية وخارجية تتجلى بشكل واضح في الكوارث التي تحدق باقتصادها المنهار بشكل مستمر.
وتلجأ الادارة الامريكية، منذ عدة سنوات، إلى تغطية اثار هذه الكوارث باستنباط سياسات نقدية عديدة ينتج عنها انخفاض في قيمة الدولار على أمل امتصاص العديد من مشاكلها الاخرى، بناء على قناعة تقول إن موقع الدولار دوليا لن يتأثر نظراً إلى انه لا توجد عملة بديلة تستطيع أن تلعب دور المقاصّة الدولية في المعاملات التجارية الرئيسية، ولكن أيضا، لعدم احتجاج اللاعبين الدوليين الرئيسيين على توالي الإنخفاض في قيمة الدولار، كما هو الحال بالنسبة للصين التي تريد ان تحافظ على موقعها في سوق الإستهلاك الامريكي، وأيضا لعدم تجرؤ أحد على الإحتجاج، كما هو الحال بالنسبة للكثير من الدول النفطية العربية التي تخشى تسعير نفطها بعملة بديلة حتى ولو ظلت تخسر المليارات!
اذاً، الدولار يواصل مسيرة الانخفاض نحو الهاوية مقترناً بقناعات أمريكية بان مركزه الدولي لن يتأثر، الا ان هذا الحال يطرح تساؤلا جوهرياً: هل مازال الدولار عملة العالم السائدة (المقاصّة الأهم) أم أنه اصبح شيئا من الماضي؟
أحد أهم العناصر في هذا الموقع يكمن في النظام المالي الدولي نفسه. فهيمنة الدولار بدأت تتزعزع إنطلاقا من حقيقة أن هذا النظام نفسه صار يوفر بدائل ليست أقل جدارة بالثقة، مثل اليورو الأوروبي والين الياباني والبوند البريطاني، فضلا عن أن السلة التي تتضمن هذه العملات وغيرها، صارت تشكل وسيلة متاحة لتغطية الكثير من التعاملات الدولية بأقل تضخم واكثر حفظ للقيمة..
في المقابل، فان المناورات التي تتبناها الولايات المتحدة في سياساتها النقدية والمالية قائمة على المراهنة بان قوة الدولار لا تنبع من قيمته بل من عدم توفر أي امكانية للانقلاب عليه وظهور بديل. وهو ما ينظر اليه الكثير من الخبراء على انه "الخدعة الاخيرة" للدولار والتي تتمثل في زيادة الديون الامريكية وخصوصاً الخارجية منها، حيث بلغ اجمالي الدين حدود 9.45 ترليون دولار، فيما يقدر الدين الخارجي بحدود 5 ترليون دولار.
وتؤدي الديون دورا مراوغا، لأنها تلزم الدائنين بإبقاء مساندتهم للدولار، للحفاظ على قيمة ديونهم. أي ان الولايات المتحدة، بينما تعمد إلى طباعة المزيد من الورق الخالي من القيمة، فانها تعتمد على الدائنين انفسهم لشراء المزيد من ذلك الورق الأخرق، وذلك لكي لا تنخفض قيمة ديونهم أكثر فأكثر.
وتشكل الصين واليابان ودول جنوب شرق آسيا الدائن الرئيسي للولايات المتحدة (أو المشتري الرئيسي للدولار). فكلما احتاج الاقتصاد الامريكي إلى سلع وخدمات لجأ إلى الاستيراد من الخارج ودفع ثمناً لها دولارات لا تحمل قيمة اكثر من قيمة الورق. لان البنك الامريكي الفدرالي يغطي قيمة الدولار بسندات الخزينة التي تباع اغلبها إلى المستثمريين الاجانب. أي ان الاقتصاد الامريكي يحصل على سلع من الخارج ويدفع ثمنها بديون من أطراف اخرى في الخارج!
لقد استطاعت الولايات المتحدة الامريكية في العقود الاخيرة توظيف عملتها وجعلها عملة العملات من خلال خلق "هالة مقدسة" حول الدولار لتزرع الثقة لدى المستثمرين في هذه العملة او سندات الخزينة الامريكية، وبالتالي لم تظهر في تلك الفترة من احد المحللين او الاقتصاديين اي شكوك او احتمالات ان الدولار محاط بـ "هالة مزيفة" وانه يجب اعادة النظر في استمرار تبنيه كعملة دولية. وبذلك وقع الاقتصاد العالمي في فخ وخدعة ظهرت نتائجها واضحة كما يلي:
- إن كل من اشترى سندات الخزانة الامريكية يعلم انه لا يمكنه ان يتخلى عن الدولار كعملة دولية لان امواله واستثماراته في السندات ستتهدد بالضياع في حال انهيار الاقتصاد الامريكي وانهيار الدولار.
- إن كل من باع إلى الولايات المتحدة الامريكية سلعاً وحصل على دولارات هزيلة يعلم أن سقوط الدولار يعني ضياع ادخاراته وأرباحه التجارية.
- إن كل الدول التي تحتفظ بالدولار كاحتياطات وغطاء لعملاتها المحلية تعلم أن اقتصادها وعملاتها ستنهار مع انهيار الدولار.
لذلك يعيش الدولار اليوم على اوكسجين هذه "الخدعة الاخيرة" وما ان تنكشف هذه الخدعة سيلقى الدولار مصير من يُرفع عنه الاوكسجين في غرفة العمليات.
وبناء على هذا التحليل، يمكننا أن ندرك لماذا تستثمر اغلب دول الخليج فوائضها المالية في الولايات المتحدة بنسبة تعادل 70% من إجمالي استثماراتها الاجمالية حيث أن من المتوقع أن تصل إلى حدود 2 تريليون نهاية هذا العام.. فزيادة الاستثمارات في الولايات المتحدة نابعة عن قناعة انه لابد أن تلعب تلك الدول دورا في انقاذ الاقتصاد الامريكي وعملته لان احتياطات وثروات بعض دول الخليج مدخرة بالدولار وبالتالي فهي تساهم بشكل غير مباشر في حماية ثرواتها من التآكل. هذا إذا وضعنا جانبا حقيقة تعرض هذه الدول إلى إبتزاز مباشر يجبرها على تققيم احتياطاتها بالدولار، وإبقاء كبش هذه الإحتياطات في حضن الذئب (على اعتبار انها "مأمونة" هناك!).
ولكن الحقيقة تبين عكس ذلك، فمخطىء كل من يعتقد أن هذه الاستثمارات تعتبر طوق نجاة للاقتصاد الامريكي الغارق، لان هذه الاستثمارات واضعاف من امثالها لن تنقذ الغريق بل ستغرق معه. ومخطئ من يظن ان الكبش مأمون في حضن الذئب إذا جاع.
وقد يكون من المفيد أن نعود إلى تاريخ ظهور الدولار كعملة دولية، لنجد انه تاريخ قائم على الخداع المالي ولا سيما خداع من وثق بهذه العملة. فبعد الحرب العالمية الثانية وخروج معسكر الولايات المتحدة وحلفائها منتصرين واعلان دعمها لمشروع اعادة بناء اوروبا وهو ما سمي بـ"مشروع مارشال" الذي وضعه الجنرال جورج مارشال رئيس هيئة اركان الجيش الاميركي سابقاً والذي أعلنه في 5 يونيو-حزيران 1947 في خطاب أمام جامعة هارفارد، تم تأسيس هيئة اقامتها حكومات غرب اوروبا للاشراف على انفاق 17 مليار دولار اميركي في اطار ما سمي "منظمة التعاون والاقتصادي الاوروبي" وذلك بحجة اعادة اعمار وتشغيل الاقتصاد والمصانع الاوروبية.
هذا المشروع كان بحد ذاته "الخدعة الأولى" لجعل الدولار عملة العملات، وذلك من خلال تقديم ديون من الولايات المتحدة الامريكية إلى دول اوروبا بالدولار مقابل الحصول التدريجي على الذهب الذي كان متوفراً لدى البنوك المركزية الاوروبية. ونتيجة لادعاء البنك الفدرالي الامريكي ان كل دولار مغطى بشكل كامل بالذهب كـ "رصيد ذهبي"، شعرت الدول الاوروبية بالثقة بهذه العملة وجعلت منها عملة لاحتياطاتها واصبح الدولار بشكل او اخر غطاءً ورصيداً للعديد من العملات الاوروبية التي خسرت الكثير من احتياطاتها الذهبية لسداد بعض الديون التي ترتبت عن "مشروع مارشال".
وبناء عليه، ظن العالم ان الدولار عملة تستحق ان تكون عملة العصر في تلك الفترة اذ كانت مغطاة بشكل كامل بالذهب بسعر (35 دولار لكل اونصة) وهي عملة المقاصة بين العملات "وحدة قياس" وهناك قبول عليه دولياً كونه هو نفسه غطاء لكثير من العملات.
ولكن كمية الدولارات التي كانت تطبعها الولايات المتحدة أقنعت الكثير من الدول بان قيمتها لا تساوي قياسها بالذهب. ومع انكشاف تلك الخدعة التي تمثلت بان الدولار لم يكن مغطى بالذهب بشكل كامل وان مليارات الدولار التي اصبحت في اوروبا ليست اكثر من ورق، ولا تعادل نفس القيمة التي حددها الفيدرالي الامريكي (35 دولار لكل اونصة). وعندما حاولت بعض الدول استرداد الذهب ببيع الدولار، وجد البنك الفدرالي الامريكي نفسه عاجزاً على تحويل الدولارات التي طبعها بدون رصيد وغطاء ذهبي، وبدأت مرحلة اعلان فصل الدولار عن الذهب. حيث اعلن الرئيس الامريكي نكسون بتاريخ 15/8/1971 ان قيمة الدولار لم تعد بعد الان مرتبطة بالذهب. وقال ان قيمة الدولار تحددها "قوة" الإقتصاد الامريكي نفسه. الأمر الذي أجبر كل الدول والمستثمرين الذين يحملون الدولارات على ان يكونوا معنيين بقوة ذلك الإقتصاد للحفاظ على قيمة الدولارات التي تحولت إلى عبء على أكتافهم.
ومنذ ذلك التاريخ لم يعد الدولار قابلا تحويله إلى ذهب، إلا بوصفه تعبير عن "قوة" الإقتصاد الأمريكي. وكإن لسان حال نكسون يقول ان قيمة الدولار تكمن بذاته وبكونه اصبح عملة العملات واصبح يملأ خزائن البنوك المركزية في العالم ولا احد يتجرأ على التخلي عنه لانه سيهدد عملات بلاده المحلية التي اصبحت مرتبطة بالدولار.
اذن، صعد الدولار بخدعة ومع انكشافها تحول إلى "عملة العملات" التي لا يمكن لدول العالم التي اصبحت تعتمد على هذه العملة كرصيد وغطاء لعملاتها ان تتنازل عنه.
أما اليوم، فـ"الخدعة الاخيرة" للدولار تنهار. أولا، لأن هناك عملات أخرى بدأت تحتل مكانا متزايدا في أسواق المال وفي التبادلات التجارية. وثانيا، لأن الإنخفاض المستمر في قيمة الدولارات يدفع الكثير من البلدان إلى التخلص من الدولار بشراء ما يمكن لها شراءه بالدولار من سلع وخدمات. وهذا ما يدفع أسعار النفط إلى الإرتفاع لأن الصين تشتري اكثر مما تحتاجه من النفط فقط من اجل ان تتخلص من الدولار. اضف الى ذلك انها مضطرة إلى ان تواصل شراء، ولو كميات أقل من سندات الخزانة الأمريكية لكي لا يبدو الأمر وكأنه تخليا مطلقا، يمكن بالتالي ان يدفع سعر الدولار إلى الإنهيار التام. فالصين واليابان ودول جنوب شرق آسيا تحاول ان تبقيه على قيد الحياة طالما انها تواصل تصدير سلعها وخدماتها إلى الولايات المتحدة بديون او بدولارات مغطاة بسندات خزانة تدفع هي ثمنها.
ولكن هل سيأتي ذلك اليوم الذي تتجرأ فيه هذه الدول على التخلي كليا عن الدولار؟
تعلم الصين واليابان وغيرها من دائني الولايات المتحدة ان التخلي عن الدولار يعني انهيار الاقتصاد الامريكي وبالتالي ضياع ديونها ومعها اقتصادياتها. ولكن هذا لا يعني باي حال ان هذه الخدعة ستستمر إلى الابد لان بعض الدول بدأت أو ألمحت انها ستتخلى عن الدولار في معاملاتها الدولية أو في بيع النفط والغاز أمثال فنزويلا وايران، مما يعطي مؤشراً قوياً مترافقاً مع انخفاض مستمر للدولار بان التخلي عن الدولار سيتسارع وأن اول من سيقفز من هذا القارب الهش سيكون من الناجين وان المتمسكين به سيكونون في طريقهم بهذا القارب إلى الهاوية.
فاذا ما حدث وانهارت "الخدعة الاخيرة"، سنجد ان الدولار لم يعد يحمل اي معيار من معايير العملة الدولية التي يصنفها علم "المال والنقود" بما يلي:
- حافظ للقيمة: انحفاض الدولار المتواصل افقده صفة الحافظ للقيمة.
- مقبول دوليا: التخلي التدريجي عن الدولار اصبح مهدداً لقبوله في المستقبل
- وحدة قياس ومقاصة للعملات: كون الدولار بدأ يفقد المعيارين الاساسيين: حافظ للقيمة والقبول الدولي سيفقده صفحة المقاصة.
وكلما وجدت الصين واليابان وغيرها أسواقا خارج الولايات المتحدة، فانها ستجد نفسها غير مضطرة للدفاع عن "قوة" الإقتصاد الأمريكي. وحيث ان هذا الإقتصاد يتجه إلى الركود أصلا، فان الدفاع عنه سيكون بمثابة دفاع عن سد تتسع فيه الشروخ، بينما هو ينتظر الزلزال.
ان تعثر الاقتصاد الامريكي ما هو الا "نعي مسبق" يؤذن بان الدولار يلفظ أنفاسه الأخيرة، وهو وإن كان يبدو حياً شكلياً فهو ميت سريريا بقيمته وبكل مقاييس الفناء الأخرى. انه عملة الماضي التي تنتظر التشييع والدفن.
وتقبلوا تعازينا. فاقرأوا الفاتحة، يرحمكم الله.
وإنا لله، وإنا إليه راجعون.

ــــــــــــــــــــــــــ
× مدير تحرير صحيفة "العرب الأسبوعي"