الإحساس بالفنون يجعل الحياة نعيماً
ياسين رفاعية
"تاريخ علم الجمال" كتاب ريمون باير من أهم كتب الفلسفة والنقد والفن، صدر عن دار نلسن في السويد بترجمة مشتركة لكل من الدكتورين ميشال عاصي وميشال سليمان، وهو الترجمة الكاملة، والمتقنة، والجديرة بالتنويه، كما أنجزها الدكتوران المترجمان. وريمون باير المؤلف هو أستاذ مادة الجمالية في جامعة السوربون ـ باريس.
وهذا الكتاب يفيض عن مجراه، ليدخل في أرض الفلسفة وتاريخ الفن والنقد والفكر. وكذلك في الرموز والأسماء والتيارات والمراحل والاتجاهات، ومنطلقاً من مرحلة ما قبل التاريخ والعصور الإغريقية وصولاً الى الآن.
تاريخ الجمالية هنا هو تاريخ الجماليين، نظرياتهم وأفكارهم وقيمهم، وأيضاً التأمل العميق في الفن والجمال عبر العصور.
إنه الكتاب المرجع، والجميل فيه تلك الترجمة الراقية بلغة عربية مشرقة أنجزها المترجمان بتؤدة وأمانة وتعمّق، ليحقق هذا العمل وجوده، وليغدو مرجعاً بين أيدي المفكرين والأدباء العرب والطلاب والباحثين والمهتمين، خصوصاً أن المكتبة العربية تتسع لهذه المراجع، وتفتح لها قلبها وفكرها، كل ذلك من أجل "ثقافة مبحرة مع الحياة" حسب تعبير الراحل ميشال عاصي.
الكاتب الموسوعة، يجمع في الحقيقة، خمسة كتب إن صح التعبير. الكتاب الأول: مرحلة ما قبل التاريخ والعصور الإغريقية، وهو في ستة فصول. الكتاب الثاني: النهضة والقرن السابع عشر، في أربعة فصول. أما الكتاب الثالث: الجمالية الفرنسية في القرن الثامن عشر، هو أيضاً في أربعة فصول، فيما الكتاب الرابع: القرن التاسع عشر. في خمسة فصول. أما الكتاب الأخير والخامس يتناول الجماليات في أوروبا وأميركا والاتحاد السوياتي (روسيا) هو أيضاً في ستة فصول. وتجدر الإشارة هنا أن الدكتور ميشال عاصي قام بترجمة الكتاب الأول والثاني والثالث، فيما قام الدكتور ميشال سليمان بترجمة الكتابين الرابع والخامس.
وبإلقاء نظرة عجلى على مواضيع هذا "السفر العظيم"، نرى هنا كلمة جمالية نأخذها بمعنى التفكير النظري أو التأمل في أعمال الفن، ولكن التأمل في أعمال الفن لم يكن على الدوام مقروناً بهذه التسمية. فلفظة جمالية لم تظهر إلا في القرن الثامن عشر، وهي الى ذلك لم تكن لتعني عهدئذ سوى نظرية الإحساس بالجمال أو الشعور الجمالي طبقاً لأصل اشتقاقها في اللغة اليونانية وهو (أحسّ) و(شَعَرَ) على آن الجمالية. وإن لم تحمل قبلاً هذا الإسم، قد وُجدت منذ العصور القديمة، وحتى في عصور ما قبل التاريخ، وهذا التأمل في الفن، وفي الجمال، هو الغرض الذي يتوخى الكاتب فيه دراسته عبر الحقب والقرون.
التأمل
إن الجمالية كانت دوماً ممتزجة بالتأمل الفلسفي، وبالنقد الأدبي أو بتاريخ الفن، وهي لم تتكوّن علماً مستقلاً له طريقته الخاصة به، إلا منذ عهد قريب جداً، لذلك نحسب سوى الرغبة في أن ننشئ عرضاً منهجياً لجمالية القدماء، بل للجمالية عبر العصور، ما لم نتعرض بكلمة للإطار، أي للتأملات الفلسفية والثقافية والتاريخية والأدبية التي تداخلتها الجمالية وانتظمت في سلكها. فتاريخ الجمالية هذا سيفيض عن مجراه ـ كما فعلت الجمالية ذاتها ـ ليدخل الى أرض الفلسفة من جهة، وتاريخ الفن من جهة أخرى. وإن ذلك ليبدو أمراً لا مفر منه، بل لازماً أيضاً لأن القيم الجمالية ليست منعزلة عن القيم الخلقية والسياسية في أي حال. ولأنه من العسير، في التاريخ، وبدرجة أولى، في التاريخ الأدبي، أن نحدّد مرحلة ما بصورة قاطعة، لأن المرحلة، أي مرحلة، لا بداية لها في الواقع ولا نهاية فاعتمد المؤلف في الكتاب التقسيم الى أطوار، أو الى قرون، من أجل الوضوح على أن هذه الأقسام تواضعية، وغير متساوية، وإرادية إعتباطية، فوق ذلك لم يعدد في أي طور، أسماء الجماليين جميعاً، وإنما سعى المؤلف الى عرض مذهب الذين كانت آراؤهم، أبعد تأثيراً وأوفى أصالة مما عداها، متجهاً الى وصف نظرياتهم وأفكارهم بحيث إن تاريخ الجمالية على نحو أدقّ تاريخ الجماليين، مثلما أن تاريخ الفلسفة هو خصوصاً وجوهراً تاريخ الفلاسفة.
يقول فريار ده شامبراي: "إن الجمال كامن في تقليد الطبيعة، ومحاكاتها على أتم وجه، ولكن الجمال لا يتحقق كلياً إذا اكتفى الفنان بملاحظة الشبه الموجود في كل أثر من آثار الطبيعة، بدلاً من الاهتمام بتفحّص ما قد تشتمل عليه هذه الطبيعة من أشياء أكثر جمالاً، تتيح له أن يدرك بذهنه المثل الأعلى للكمال، فينبري بعدئذ ملتزماً قانون "بوليكليت" المحكم الدقيق، الى إبداع رسوم وصور ذات جمال خارق أخّاذ. وبكلمة أخرى موجزة إن كل ما يتفق مع المذهب الطبيعي جدير بريشة الرسام، إلا أن طريقة الرسم الخاصة بالفنان هي وحدها التي يجب أن تظل مسيطرة سائدة. إن الفنان الحقيقي ليس أمامه فقط سوى طريق الاختيار من الطبيعة، بل إن له الحق في تجاوز الطبيعة، والتوغل على هواه بعيداً، حيث تقود المخيّلة خطاه الى خلق الصور خلقاً مبتكراً، وإلى تنظيم العناصر التي قد يستعيرها لعمله من هنا وهناك دونما تردد أو حرج".
المشهد
يعني بذلك أن على الفنانين من أهل الرسم إيجاد المشهد الملائم والبيئة والموضوع الذي ينبغي تناوله، وهي أمور بالنسبة إليهم تدخل في نطاق ما هو أدبي تنظيمي تأليفي على غرار ما يقوم به المسرح من أعمال مشابهة. فالطبيعة ليست هنا إلا حافزاً ومنطلقاً فقط، أي مادة للعمل لا غنى عنه أبداً ولكن يجب على الفنان أن يستكملها بالمفهوم النبيل، والوعي العقلي، والشعور النفسي، أما ما عدا ذلك من مباهج اللون والضوء فخاضع لما ذكرناه سابقاً ومتروك لمطاوعته وخدمته.
إن الجمال يكمن في الخلق والإبداع عن طريق المحاكاة والتقليد وبواسطتهما شرط أن يعي الفنان حقيقة المحاكاة تمام الوعي، وأن يظل متفرداً أصيلاً إذ يقتبس من القدماء أحسن ما عندهم، ويعرف كيف عليه أن يتجنّب أخطاءهم فلا ينزلق وراءها. ثم إن عليه أن يحاول إيجاد الخصائص التي يمكن أن تضاف الى آثار القدماء التي ظلّت خافية عن أنظارهم، وهي ما أسماها المؤلف "التألق والسطوع". وذلك قد يوافق ما سُمّيَ بالرقة في القرن الثامن عشر، أو ما عرف بالبهاء في القرن السابع عشر. إنه "التزيين" على حد تعبير "بوالو" في النشيد الثالث من "كتاب الشعر" يجب، في الاختصار، أن يبقى الأثر الفني قابلاً لتناوله بالإدراك والعقل. ولذلك، يجب ألا يكون مناقضاً للطبيعة.
وقبل مجيء "بوالو" زعم "شابلان" أنه استطاع إرساء قواعد النتاج الشعري، إذ عرض وجهات نظره الجمالية في التأكيد على إيجاد قواعد للخلق الشعري، إذ يجب علينا ألا نستند الى علم القدامى بالشعر، إنما يجب التذرع بالعقل وحده والركون الى سلطانه، وشابلان هو القائل: "إنني أقرر المنطلق الأساسي التالي وهو أن التقليد في كل عمل شعري يجب أن يكون على درجة من الكمال لا يبدو معها أي فرق بين الصورة والأصل ان مبدأ التقليد والمحاكاة هذا. وقد بدا لشابلان كأنه نتيجة ملازمة للرؤيا العقلانية، يجب أن يتمادى أثره ويعمّق حتى ينتزع من المشاهد جميع ملابسات الحقيقة والواقع، لأن الرؤيا العقلانية هي مبعث ما يتوخى الشعر أن يثيره في نفوسنا، وأن في المأساة المسرحية، مثلاً، أي نوع من المأساة، عنصرين هما عنصر العمل أو الحادثة، وعنصر التمثيل. فالزمن الذي يجب أن تستغرقه الحادثة في التمثيل يتعيّن، إذاً، ألا يكون غير عادي، أي أن يكون مقداره أربع ساعات، ومثلما أنه لا يصح رسم زمانين ومكانين مختلفين في اللوحة الواحدة، كذلك لا يصح هذا في الشعر المسرحي. وهذه حجة واضحة ودليل بيّن على وجوب التزام الوحدات الثلاث في المسرح.
حس مشترك
وفي موضوع الجمال، ثمة ما هو أوفى من الأصل الحسي للجمال. فللجمال إحساسه الخاص به، وهو إحساس صادر عن حس مشترك أو داخلي، وهو إحساس متميّز، ومناقض للحواس الخارجية، وليس الحس الخلقي سوى نوع منه، وبمعنى آخر إن الجمال والانتظام والتناغم ترتبط جميعاً بقوة تبصرية مختلفة عما ندعوه عادة بالإحساس، إنها قدرتنا الخصوصية على الابتهاج والاستمتاع. ومفهوم الإحساس هو ما يثيره حضور الأشياء الخارجية في نفوسنا، ويترتب على ذلك أن الذهن هو في وضع سلبي محض أمام هذا النوع من الحالات، وهو لا يمتنع عن أن يتمثل صورة الإثارة وأن يُجري فيها ما يشاء من التعديل حال تمثّلها، والقوى المنوط بها تلقّي التمثلات ندعوها القوى المتخالفة، أو المتمايزة، ذلك أن ثمة من التطابق بين تمثل الألوان الأشد تناقضاً أكثر مما هو بين اللون والصوت أياً يكن ذاك اللون وهذا الصوت، ومعنى هذا أن التمثلات هي تمثلات نوعية ولها عضوها الخاص المتميّز.
ولا بد من القول بأن الناس تختلف أذواقها حول جمال الأشكال، مع أن لهم الأفكار نفسها بالنسبة الى الصفات الأولية والثانوية للأشياء، وذلك لأن إقامة التشابه والنسب والمقايسة هي من أغراض الإدراك التي تتوسلها المعرفة بالضرورة، فمهما تكتمل معرفتنا للأشياء التي نكتشفها بحواسنا الخارجية قد لا تحدث فينا غالباً المتعة نفسها التي يشعر بها أمام الجمال والتناغم إنسان رهف ذوقه، وقلّت معرفته، وما ذلك إلا لأن هذه الإدراكات الرهيفة لا تصدر إلا عن الحس الداخلي.
ومع ذلك، يبقى أن هذه الإدراكية السامية هي حس من الحواس أيضاً، وهي لا تختلف عن الحواس الأخرى في شيء، من حيث رنها تثير فينا متعة مغايرة للتي تثيرها فينا معرفة المبادئ، وإدراك ما بين الأشياء من نِسَب. وما يكمن خلفها من دوافع وأسباب وما يتهيأ لنا فيها من طرائق الاستعمال، وفي هذا الصدد يقول "هيتشيسون": "إن الأفكار التي يبعثها الجمال والتناغم في نفوسنا تثير فينا ما تثيره الأفكار المنبثقة عن الحواس من متعة لازمة بالضرورة، وبهجة آنية مباشرة". كل ذلك إن الإحساس بالفنون يعطينا شكلاً آخر من حب الحياة والتنعم بمباهجها.