قراءة في قصّة "والنخلة أرض عربيّة.. " للكاتب سعيد محمد الجندوبي

بقلم الكاتب والنّاقد المغربي محمد داني



قصة قصيرة للأديب التونسي الكبير سي محمد سعيد الجندوبي( والنخلة أرض عربية).. يستهلها بنص مواز كعتبة للنص، عبارة عن شعر يثبت ويوحي بمضمون القصة. وثباتية العنوان.. كما أن الإهداء يحيلنا إلى مقصدية الرسالة( القصة) كإهداء إلى أديبين تحدثا عن النخلة في أشعارهما. واتخذاها رمزا للعراق.. ليحيلنا العنوان والنص الموازي والإهداء إلى العراق.. ويعدنا للحديث عنه.
وأول ما يستعرضنا ، هو العنوان( والنخلة أرض عربية)، وهذا يبين لنا مدى اهتمام سي سعيد بالعنوان ن واعتبار أهميته. فهو يلخص القصة، ويكثفها. فالعنوان نص صغير يصف النص الكبير. يثير به سي سعيد مجموعة من الأسئلة، والافتراضات والرؤى، والاختيارات، التي توحي وتساعد على دخول مضامين النص/ القصة.
والعنوان يتكون من ( الواو) كحرف ابتداء، و( النخلة) التي تدل على نوع من الشجر الذي يميز المنطقة العربية عن سواها من المناطق،والذي يرتبط اسمه بالعربية والعروبة. فهو كدال له مدلوله في الثقافات الأخرى...
(أرض) لها دلالات كثيرة، وهي توحي هنا إلى المكان، والأصالة، والتبعية، والانتماء، والهوية.( عربية) وصف لهذه الأرض وتحديد هويتها، وانتمائها، وإعطائها أبعادها الجيو سياسية والتاريخية والإنسانية.
وعندما نجمع هذه الكلمات بعلاقة الإسناد والوصفية، فإنها تؤدي إلى خرق الانتقاء، وتكسير المجهول، وتحقيق نوع من التعادلية، ونوع من الانتماء والترابطية. وهذا يؤدي إلى الانزياح الذي ينتج عنه المطابقة والتلاؤم. الشيء الذي يحتم اخذه كدلالة جديدة ، استشرافية، ناطقة. تتضمن امتلاك الأرض العربية للنخلة. وان النخلة توجد في ارض من مواصفاتها العروبة واليعربية.
وتجليات العنوان كحقائق يريد إبلاغها سي سعيد لمتلق متعدد ومتنوع، يطرح نوعا من التسمية والعنونة، وبالتالي نوعية السرد. وهذه التجليات لن تكشف أسرارها إلا قراءة واعية ومتأنية للقصة، والتي نكتشف من ورائها كاتبا ينظر للواقع من زوايا متعددة.
وعندما نقف أمام مسرود سي سعيد، نجد أن تحديده الأجناسي تؤكده التسمية التي أعطاها لها( قصة قصيرة)، والتي لها إمكانية التمدد أكثر.. بما أن لها مساحات كبيرة للتعبير.. وولادة أحداث ومواقف لها ارتباط بالذاتي كسياق قصصي ينتسب إلى معمارية النص.
ومن هنا يمكن الجزم بأن قصة( والنخلة ارض عربية) تنتمي كعمل أجناسي إلى القصة الواقعية الجديدة.. والتي تتنوع خطاباتها، وأصواتها ، متحدية الإطار السارد، والنظرة السردية الأحادية.
والقصة كحدث ووقائع متتابعة تتعرض لقصة شابين( رندا) و( سامي) تجمع بينهما الظروف في حدائق فيلا بورقيزي بروما.. وتنسج بينهما الساعات حبا،وارتباطا ولقاءات تتوالى من خلاله أحداث ووقائع وحوارات شاهدها واقع الحال العربي.. ويفترقان دون أن يتم التلاقي، فنعيش لحظات يأس روميو جولييتي.. لتنتهي القصة ببدايتها ليتركنا الكاتب حائرين، طارحين عدة أسئلة من بينها عل السائل هو سامي: أم أن السائل عربي آخر؟ هل القبر الذي زارته في جناح الشهداء المغاربيين يوجد فيه قبر الشهيد (سامي)؟...أسئلة متعددة تنفتح عليها نهاية القصة.
والعجيب في القصة، أنها تختلف عن السرد القصصي المألوف. إذ اعتمد فيها سي سعيد كسر مألوفية السرد، وتتابعه. واعتمد التداخل، والتشابك، والاسترجاع والارتداد، والوقفات الوصفية كمستنسخات.. وذلك بالاعتماد على ساردين مختلفين هما: البطلة( رندة) والسارد الراوي/ الكاتب مكملا بعضهما البعض. مع اعتماد ضميرين في نسج الخطاب القصصي هو ضمير المتكلم، وضمير الغائب.
وهذا يؤكد لنا شيئا هاما، وهو أن سي سعيد الجندوبي يعدد وجهات النظر حول موضوع واحد بؤري هو( عربية الأرض والنخلة). فقصة الحب تتلونها أحداث العراق، وأوضاع العالم العربي والإسلامي، ونظرة الآخر التي أصبح ينظر بها إلى كل ما هو عربي ومسلم. وبالتالي خرج سي سعيد عن المألوفية الكلاسيكية والتي تعطي خطا أفقيا هو( البداية والعقدة والحل). فالقصة لها لحمة وسدى متعدد، متشابك . الشيء الذي أعطاها نوعا من الفنية والجمالية. وهذا كله مقصود من سي سعيد. فهو يريد يذلك تبديد حيرة كبيرة يعرفها العالم.. وهي : هل كل ما هو عربي ومسلم هو إرهابي؟. هل يمكن اعتبار ارض السواد وبلاد النخل غير عربية.، لما تعرفه من غزو للأجنبي؟ خاصة وان مطامع الإقليمية الفارسية والشيعية تحاول تجريد المنطقة من عروبتها.
إن القصة تتضمن قصصا شابك سي سعيد بين خيوطها، وهي رؤيا بدأت تهتم بها الآن السينما العالمية في فيلم( بابل) و( أسود وخرفان). قصة حب وقصة هوية، وقصة ذكريات ، تسير جميعها في خط متواز إلى النهاية، وبفنية كبيرة. الرابط بينها هما الشخصيتان المتناميتان. بالإضافة إلى السارد/ الكاتب.
إنها لوحات مترابطة في طياتها، تظهر لنا عقدة الأمير، والتي تصارع الشخوص فيها والمواقف والأحداث للجنوح نحو الاكتمال برؤى متباينة، ولكن يجمعها شيء واحد : هو العروبة، والانتماء، والهوية، والمشاعر الإنسانية. والتي استعمل في طرحها سي سعيد أسلوب التنضيد enfilage، باعتماد تناصات رائعة تحيلنا إلى قصيدة السياب( أنشودة القمر) وديوان( وتريات ليلية) للشاعر العراقي( مظفر التواب)، للتنبيه من خلالهما ومن خلال هذا التناص إلى عراقية العراق، وان العراق باق ما دام هذا الشعر باق لأنه جزء من العراق وتاريخه المجيد.
إن القصة تشتمل على بنيتين سرديتين جميلتين: بنية سردية استرجاعية، تصور وتركز على ذكريات قديمة، وعلى عهد بائد( حزب البعث- المشاكل الداخلية- حالة العراق قبل الغزو الأمريكي)، ثم بنية سردية مرتبطة بالواقع اليومي، والترصد اليومي في العراق وخارجه، وحتى في بلد الآخر. وكلا البنيتين يتخللهما صراع درامي قوي.
فالأولى ينتابها صراع العودة، والاكتمال، والحسرة، والتمني. والثانية، يتخللها صراع الهوية، وإثبات الذات، والإحياء والانبعاث.
وهذا الصراع هو ما أعطى للقصة بعدها الإنساني والفني والجمالي، وحتى الأدبي، رغم أسلوب الاختزال الذي اعتمده الكاتب للتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي تعرفها العراق والمنطقة العربية وحتى أوربا.
وهذا الاختزال هو واقع رهان دخله الكاتب. رهان متعدد الأوجه . من جانبه المضموني( المحتوى)، ومن جانبه الخطابي( السرد). لأنه يضع في همه قبل الكتابة المتلقي والمتعدد والمختلف الجنسية. فالجانب المضموني يلح فيه سي سعيد على إعطاء الصورة كما يشاهدها هو بتعدد أوجهها، راصدا التحولات والتغييرات والميتامورفوزات التي انتابتها عبر فترات. فيبين لنا الصراع الذي تعيشه الشخوص ككائن عربي مسلم، والشرخ الذي أحدثته هذه الهزات، والأفكار الثورية المستوردة، والقيم المختلفة التي كانت سائدة ، والتي تغيرت مفاهيمها لما يعرفه العالم من تحول إيديولوجي. ليشير لنا من خلال السطور إلى : كيف تغير مفهوم الثورة، والثورة المضادة، والحالة التي تعيشها هذه الشخوص لاسترجاع نوع من الثقة، ونوع من إثبات الذات ونوع من الهوية. وهذا كله يؤدي إلى عقدة الأمير التي تنبني على الصراع للوصول إلى التكامل.. و البارفيتيزم.
فالشخوص تعيش صراعا ما بين ماض مجيد، وذكريات وحاضر وغياب اضطراري، ومحو للهوية مقصود، وإقصاء مرير.. تتيه فيه الروح.
أما في الجانب الخطابي، فإننا نكتشف الطريقة التي يبلغنا فيها بهذا المضمون، والطريقة التي يستعرض بها الأحداث والوقائع والمواقف. وهذا سيجرنا إلى طريقة الكتابة عند سي محمد سعيد الجندوبي. فهو بما انه مقيم في فرنسا، فهو يرفض الطرق الكلاسيكية، ويميل إلى كل ما هو جديد حداثي. لان الكلاسيكية عنده لن تستطيع احتواء هذه الأوجه كلها، وذلك لمحدودية إطارها. لذا يعتمد أسلوبا جديدا يعتمد الطرح والاستذكار والاختزال والتوضيح، والتشويق، والتأويل، والبتر والاختزال. وبالتالي يعدد رؤاه وأنماطها، وزواياها. وبذلك تتحرر كتابته من النمطية ، وتدخل عالم طرح السؤال، وصياغة الواقع كما تشاء من خلال تعدد الأصوات وتفجيرها.
ويظهر تجديد سي سعيد في هذه القصة في الزمن. حيث القصة تحكي على لسان بطلتها، والراوي/ الكاتب/ السارد عن زمن لم يعد موجودا. الكل يسعى إلى استعادتهن واستذكاره عن طريق الذاكرة، واللاوعي والأحلام ، والإبحار في التفكير والتمعن والقراءة. وبذلك يصبح هذا الزمن متشابكا، مستغلقا في حاجة إلى مستنسخات يستعان بها على إضاءة هذا الزمن، وتوضيحه. ولذا يعتمد سي سعيد مجموعة من التناصات المقدسة القرآنية، والشعر والعناوين ن والأسماء والشخصيات الأدبية، والأماكن.. وهذا كله لإزالة مباهم الزمن، وتكسير خطيته وخطية السرد.
والأحداث القصصية التي تتضمنها القصة عندما نستشف أبعادها، فإننا نقف توا على ملابسات كتابة هذه القصة، والظروف التي رافقتها، وبالتالي نقف وبكل وضوح على المثبتات أو المرسخات في القصة. وهي مشكّلات ( بفتح الشين وتشديد الكاف) سياسية، واجتماعية واقتصادية وانتروبولوجية.. واتخذتها القصة خلفيات لتقول للمتلقي كيفما كان نوعه: العراق ارض عربية.. وهذا زكاه موقف الشخصيتين، وسلوكياتهما، وحتى التناصات الموظفة، كإقناع للقارئ على عروبة الأرض ونخلها..//.