الزواج عبر الإنترنت

سامي بن عبد العزيز الماجد 17/10/1424
11/12/2003



ورد إلى نافذة الفتاوى سؤال يتعلق بموضوع الزواج عبر الإنترنت، فأجاب عنه فضيلة الشيخ/سامي بن عبد العزيز الماجد - حفظه الله - وكان عنوان الفتوى (الزواج عبر الإنترنت) ذكر فيها بعض الضوابط للمراسلة، وحذر فيها النساء من الانخداع بالطرف الآخر، ثم وردنا تعقيب من أحد قرائنا الأعزاء على هذه الفتوى، وذكر أن المراسلة خطوة أولى من خطوات الشيطان؛ لأن المرأة ضعيفة، فعرضنا هذا التعقيب على الشيخ المجيب، فتفضَّل بالإجابة. جزاه الله عنا خيراً، فإليكم التعقيب والتوضيح.


التعقيب:


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
أسأل الله أن ينفع بكم وبعلمكم، وأن يهدينا وإياكم إلى سواء السبيل، عندي استفسار يا شيخ بخصوص فتوى الزواج من خلال الإنترنت، وقد ذكرتم بعض الضوابط للمراسلة، وحذرتم النساء من الانخداع بالطرف الآخر، ولكن مع ذلك ألا ترى أن هذه هي الخطوة الأولى من خطوات الشيطان؛ لأن المرأة أضعف من أن تتصدى للهجوم بمعسول الكلام، ولو تركت مراسلته فقد يستمر هو، ثم هل يرضى أحدنا لابنته مثل هذه الرسائل؟ أو لأخته مثلاً؟ لا أظن ذلك، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يعينكم على كل خير، وأن يعينكم علي وعلى أمثالي. والله يرعاكم.


*****


التوضيح

الأخ الفاضل: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
جزاك الله خيراً على نصحك لأخيك، وعلى حسن أدبك ولطفك في حوارك.
ما تساءلت عنه أمر وجيه، جدير أن يحترم مهما كانت درجة الاختلاف.
لكن ألا ترى يا أخي أن المرأة التي ترتاب في رسائل التعارف قبل الزواج هي غير تلك المرأة التي تنساق بلا تردد ولا تساؤل إلى تلك المراسلات، بل برغبة ملحَّة وتلهف لا يني.
ألست تجد الأولى يحيط بها شعور الحذر والاحتياط، بينما الأخرى لا يحيط بها إلا الشعور بالزهو والإعجاب، بثناء الطرف الآخر واللهث وراء معسول كلامه؟.
إن من تأتيك لتستفتيك في هذه المكاتبات التي يعني كل طرف فيها أن يتعرف على شخصية الآخر وصفاته- لا تحتاج إلى هذا الاحتياط والتحرز الذي تطالب به، لأنها لم تسأل إلا وهي متخوفة مرتابة في نوايا الطرف الثاني.
وهل يجسر أحد على تحريم هذه الرسائل ما دامت لم تند عن هذه الضوابط؟.
والمرأة إذا هي انهزمت وانساقت للرجل في رسائل خارجة عن المقصود، فإنما ذلك لأنها قد أخلَّت بشيء من ضوابط المراسلة المباحة.
أجده سائغاً أن تمنع المرأة من محادثة الرجال مباشرة بواسطة ما يعرف بـ (الماسنجر)؛ لأن هذه المخاطبة المباشرة كثيراً ما تفضي بالمتحاورين إلى الاستطراد والخروج عن الهدف المقصود، وقد يستجرهما الشيطان بعد حين إلى الخوض في أمور لا تحمد عقباها.
ولكن ثمة فرقاً بين هذه المحادثة المباشرة وبين المراسلة عبر البريد الإلكتروني؛ فخطورة الاستطراد والاستدراج في المكاتبة المباشرة أشد منها في المراسلة غير المباشرة إلى حد بعيد، ففي الحديث المباشر يسهل على الشاب أن يختلق للفتاة أجواءً من الرومانسية، فيسيطر على مشاعرها ويستدرجها إلى مآرب غير معلنة بادئ الأمر، كما أن الفتاة قد تسرع إلى الاستجابة لمعسول كلامه من غير تفكير ولا روية، لأنهما يتداوران الكلام كما لو كانا يتحادثان عبر الهاتف، فمجال التروي والتفكير فيه قصير قصر ما بين تعاقبهما في الحوار.
فالقول بتحريم المراسلة عبر البريد الإلكتروني بغرض الزواج -سداً للذريعة وخشية على المرأة أن تضعف وتستجيب لحبال أهل الشهوات - أراه من البالغة في العمل بسد الذرائع، فليس هو بمظنة الفتنة، وفي ذلك تضييق لمساحة المباحات والرخص.
إن الإذن للمرأة بمراسلة الشاب فيما يخص موضوع الزواج ليس هو الذي يجعلها تضعف أمام تلك الرسائل التي تخرج عن الموضوع المقصود إلى العلاقات العاطفية المريبة.
إنما الذي جعلها تضعف لمعسول الكلام، وتستجر لأهداف مريبة هو التقصير في توعيتها بالخطاب المؤثر، حتى خبت جذوة الإيمان في قلبها، وهان عليها مخالفة أمر الله.
إن الأولى من انتهاج المبالغة في سد الذرائع أن نضاعف جهودنا في تجديد خطاب الوعظ، وأساليب الترهيب والترغيب، وأن نتوخى في ذلك ما هو أشد تأثيراً وأعذب لفظاً وألين أسلوباً، بحيث يبرز فيه احترام ذات المرأة وإحسان الظن بها بقدر ما تختفي فيه لغة الاتهام وإطلاق الأحكام جزافاً، وبحيث يجمع بين مخاطبة العقل وإحياء العاطفة، وبين المنطق العقلي والأسلوب البليغ المؤثر، والمرأة بحاجة إلى من يقنعها لا إلى من يقرعها ويضفي عليها الأوصاف المشنوءة.
إن المرأة قد تخطئ وتزل قدمها في مزالق الشيطان، فيتعين حينئذ الأخذ بيدها وتخويفها،غير أن تحذيرها من هذه المزالق المردية لا يضطرنا أبداًَ إلى أن نسيء بها الظن، أو نطلق عليها الأحكام جزافاً، ونرميها بالتهمة، ونؤاخذها بالظنة.
وأحسب أننا نخطئ التقدير حين نظن أن المرأة أضعف من الرجل أمام المغريات وذرائع الفتنة، وأنها أسرع استجابة وأيسر استدراجاً إلى مهيع الفاحشة.
والذي يظهر أن الرجل هو الأضعف والأسرع استجابة،والأيسر في الاستدراج بشهادة الواقع.
وخطاب الوحي المقدَّس يشي بهذا، كما في قوله تعالى: "الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما...الآية"، فبدأ بالأنثى قبل الذكر، لأن الإغواء والإغراء أكثر ما يقع منها هي، يظهر أمامه ضعف الرجل، فيسارع للاستجابة والمطاوعة، ولكن في السرقة بدأ بالذكر قبل الأنثى، لأن حب المال في جنس الرجال أكثر منها في جنس النساء: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما...الآية".
وإنما توهمنا أن المرأة هي الأضعف، لأن الرجل في الغالب طالب، والمرأة مطلوبة، ومن كان شأنه أن يكون مطلوباً ليس بمستغرب أن يرى الضعف والاستجابة والمطاوعة أكثر مما يرى من الرجل؛ لأنه في الغالب هو الذي يطلب الطرف الآخر، ويسعى للاستحواذ عليه.
وحتى يستبين لك هذا جلياً: انظر إلى كيف هو ضعف الرجل حين يكون مطلوباً تتعرض له المرأة بالإثارة والإغراء فهو- بلا شك- أمام إغراء المرأة أضعف وأقل صبراً وأسرع استجابة من المرأة أمام دعوته وتسويله.
إننا لا نعترض على العمل بسد الذرائع، فهو دليل من الأدلة الشرعية، ولا على الغيرة على الأعراض، فقد أثنى النبي –صلى الله عليه وسلم- على بعض الصحابة – رضي الله عنهم- غيرتهم، ولا على حماية المرأة من وسائل الإغواء، فزماننا قد كثر فيه الفساد وتسلَّط فيه أهل الشهوات، لكن الاعتراض يتوجه إلى المبالغة المفرطة في سد الذرائع، وفي المنع والتحرز إلى حد تشعر فيه المرأة أنها مسلوبة الثقة،وأنا هنا لا أتكلم بخصوص مراسلتها عبر البريد الإلكتروني فقط، بل عن أسلوب معاملتنا لها على وجه العموم، فمنعت من الإفادة من الإنترنت، وأحياناً من اقتناء الجوال، وكأن دخولها لعالم الإنترنت واقتناءها للجوال هو في ذاته وقوع في شرك الذئاب البشرية التي تتصيد النساء، وتستدرجهن إلى درك الفاحشة، نفعل ذلك في الوقت الذي منحنا فيه أبناءنا الشباب حق الإفادة والاستمتاع بهذه الوسائل، أحياناً برقابة، وأحياناً بلا رقابة!.
يجب أن يضبط العمل بسد الذرائع؛ حتى لا نقع في دائرة التشديد وتحريم الحلال، وفي هذا السبيل يجب أن نحقق النظر بتأمل وتجرد وموضوعية في كل وسيلة من الوسائل، هل هي مظنة للفتنة وذريعة إلى الحرام؟
فمثلاً ذهاب الفتاة وحدها إلى الأسواق غير النسائية مظنة للفتنة يجب أن تمنع منه، ودخول الإنترنت باستخفاء في آخر الليل مدعاة للريبة يجب أن يمنع منه الابن والبنت على السواء، وخلوتها ب- الأجنبي حتى ولو كان سائقاً على كفالة والدها - ذريعة للفساد يجب أن تسدَّ.
ومع كل ذلك يبقى من المبالغة في سد الذرائع، منع الفتاة من الإفادة من الإنترنت مطلقاً حتى ولو بمرآى من جميع الأسرة وفي وضح النهار، ومن الإفراط في الحذر وسلب الثقة أن تحرم من الجوال وهي محتاجة إليه، في الوقت الذي يمنح الابن حق الإفادة من الحاسوب والجوال بحرية مطلقة أو رقابة غير جادة.
وهذا لعمر الحق من التناقض العجيب،وهو يدل على أن أسلوب تعاملنا مع المرأة فيه شيء من الإفراط والحذر وعدم الثقة، وأننا نأخذ بالرقابة وأسباب المنع أكثر مما نأخذ بأساليب التوعية ودعائم تحصين الفكر، فبالغنا في الاحتياط والرقابة والمنع، وأهملنا الجوانب الأخرى من التوعية والتثقيف والتحصين والتهذيب.
والحاصل أن هذه المبالغة في سد الذرائع هي بلا شك مجانفة واضحة عن المنهج الوسط، لا يمكن تقويمه إلا بأن ينقص من هذه المبالغة بقدر ما يزاد من الحرص على تنويع الخطاب وتهذيبه والارتقاء بأسلوبه؛ حتى يكون مقنعاً لعقل المرأة مؤثراً في وجدانها.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.