عندما أقرأ قصيدة شعر أو أستمع إليها ، أشعر أنني أتأمل لوحةً فنيةً بينما تترامى إلى سمعي أنغامٌ موسيقية . هذه هي الحالة الفنية التي يضمُّني فيها الشعر . وما هذا إلا نتيجة كلمات موفقة تم انتقاؤها بعنايةٍ بالغةٍ . ثمَّ إن هذا التأمل في اللوحة .. والاستماع إلى الموسيقى المصاحبة من شأنهما أن يرسِّخا في وجداني حالةً من إدراك الجمال وتذوقه و اجتلاء معانيه.

إذن فللشعر عندي عناصر خمسة : اللغة ـ الصورة ـ الموسيقى ـ الجمال ـ المعنى .....، والجمال والمعنى ناشئان عن الصورة و الموسيقى ، و الصورة والموسيقى نتيجة اللغة و تنظيمها في علاقات.

وهذه العناصر الخمس التي تؤلف قصيدة من القصائد تتفاوت فيما بينها من حيث الجلاء و قوة التأثير .... وقد وجدت عند قراءتي لكتاب أحمد أبو بكر أن اللغة هي أكثر العناصر جلاء ً ووضوحاً ، دون إغفال العناصر الباقية . وحتى أكون موضوعياً ... وجدت نفسي مجذوباً نحو اللغة أكثر من انجذابي نحو بقية العناصر.

الكتاب ينضح بالتصوُّف منذ العنوان ( للمذهب آياتٌ أعشقها ) ....فكلمات (مذهب ـ آياتٌ ـ أعشقها) .... تضعنا في حالة من التصوُّف ... وترتيب الكلمات الثلاثة فضلاً عن أنه شكَّل جملة موسيقية افتتاحية إلا أنه وضع المعاني طبقاً لأولوياتها، فالمذهب أولاً ثم الآيات التي يتكون منه المذهب ، ثم موقف الشاعر من هذا المذهب ، وهذه الآيات ، وهو العشق .

وإذا ما وصلنا إلى العشق ، فإننا نكون قد وضعنا يدنا على النغمة الرئيسية و النتيجة الأساسية ، والحالة الوجدانية التي تتجلَّى في صفحات هذا الكتاب حتى تفيض على حواشيه.

الشاعر يؤكد العشق في مفتتح الكتاب حين يقول في أول سطر :

( ألف ..... أمير العشق يسبح في دمي)

والألف هو الحرف الأول من اسم الشاعر ، وبهذا العشق الذي يسبح في دم الشاعر كتب شعره ، فهو قد غرف من هذا العشق وسقانا.

يسأله الناس:

هل كان يعشق ذي الفراشة؟

ما سرُّ عشقه ..... يا ترى؟

لدلالها .... جمالها .... أم شكلها؟

ويقول الشاعر : أن الليالي تسائل الأطيار

هل لي حُجَّةٌ في عشقها؟!

أ أنا ملكت غرامها؟!

ويقول أحمد أبو بكر في ( تمتمات ما قبل البوح):

أنا أتمتم بالدعاء

كذا أرتِّل أغنيات العشق و العشاق

في الزمن السحيق

و يفرد الشاعر كثيراً من القصائد للعشق ... فهذه قصيدة بعنوان ( آية العشق ) ... وقصيدة بعنوان ( آي الحب إيمان ) ... والحب كما نعلم درجة من درجات العشق ، وأن الشاعر قد وضع مفردة الحب بين كلمتين هما ( آي ) ، و ( إيمان ) ... وبهذا حمَّل مفردة الحب بطاقة صوفية ... هو يريد أن يقول : إن الإيمان هو دليل الحب وعلامته ، ... ولست أرى تعريفاً أوجز من هذا ... وأبلغ من هذا .... وأصدق من هذا.

وللشاعر قصيدة بعنوان ( إرهاصات صلاة العشق ) ، وهكذا هو يسمو بالعشق حتى يجعل له صلاةً .... وما هذا إلا العشق الإلهيّ.

وقصيدة أخرى بعنوان ( أنشودة مدينة العشاق) ثم قصيدة المنتهى والمبتدأ ، ثم قصيدة ( للمذهب آياتٌ أعشقها) ، ويقول أحمد أبوبكر في قصيدة ( آية العشق):

"وعَشَّاق الهوى الأوحد....

وليل العشق المفرد.....".

ثم بعد حين :

أعانقها .... تنازلني

بأنسام ...... إذا اقتربتْ

ترتّل آية العشاق

ثم في ذات القصيدة:

أشركني .... بعشق العاشق العَشَّاقْ.

كلُّ اشتقاقات العشق.... كلُّ صيغ المبالغة من العشق، ففي ذات القصيدة أيضاً:

و جاءت سكرة العُشَّاق ... تدركنا

فالعشق وصل عنده إلى درجة السكرة ... وهي ما يسبق الموت .... وهذا أكثر إمعاناً في العشق من الموت بالعشق ... فالموت بالعشق يعني انتهاء العشق ... أما سكرة العشق فتبقى أقصى درجات العشق.

وفي قصيدة ( آي الحب إيمان ) ، يقول أحمد أبو بكر:

فالعشق أشرق ... والليل البهيم ... أتى

وفي القصيدة نفسها :

يا صاحبيَّ ... سألت الله منجاة...

لكلِّ عَشَّاقٍ بالحب ........ يلتحف

ونلاحظ في لغة الشاعر تأثره بالقرآن الكريم في مواضع كثيرة .... فهذه ( يا صاحبيّ) تأثراً بــ ( يا صاحبي السجن ) " من سورة يوسف".

ثم يقول : ( ترتيل أي الحب ـ للعَشَّاق ـ إيمان)

وتذخر القصيدة بكلمات ( عاشق ـ عشق ـ عشقي ـ عَشَّاق ).

أما في ( سيمفونية الذوبان) فينوِّع على الفعل فيقول: ( تعاشقها ـ تُعَشِّقها ـ تَعْشَقُها ) .

و في قصيدة ( متقاطعات أزلية) وهو عنوان يوحي بأزلية العشق ... وأزلية الوجود و تقاطعهما معاً ، فيقول:

فأبي ....

تعشَّق في البحار وسحرها....

قد صار يبحث عن شراع نجاتنا...

من عشقها ....

والبحر يأبى أن يُزيحَ عباءة العشق ....

التي ألقاها .... عند نواظري.....

ثم يمضي فيقول:

حتى اكتويت ... بصوت ... عشق .... حروفها

ثم يقول:

أنانيٌّ أنا؟!

أن أعشق الكلمات تغرق ...

في بحارٍ من جوى....؟!

ثم انظر إليه حين يقول:

و النورس المعشوق

حلَّق في سماء العشق يبحث عن حبيب

غيري أنا...

ماذا جنيت ... من البحار ؟ من العيون ؟ من التعشُّق و الهوى؟!

هذا جناه أبي عليَّ و ما جنيت على أحد...!!

وحتى لا أكون مملاً أكتفي بالقول أن اشتقاقات مادة ( ع. ش. ق) وردت في هذا الديوان خمساً وستين مرة.... فالشاعر أغرقنا عشقاً ولست أدري ... هل هو بذلك قد عمَّق إحساس العشق فينا؟ أم تراه قد جعله مبتذلاً من كثرة التكرار.

ويحتوي الكتاب على سبع عشرة قصيدة ... إذا استثنينا منه قصيدة ( حجرٌ شهيد) ، وقصيدة ( منمنمات رداء الليل) ، يصير الكتاب بعدهما قصيدة واحدة على تنويعات مختلفة ... هي قصيدة العشق .... ولست أعني عيباً ... وإنما أعني به ملمحاً رئيساً يشكِّل تجربة أحمد أبو بكر الشعرية.

والشاعر يكثر من استعمال مرادفات العشق و اشتقاقاتها ، فهو يستخدم كلمات ( الغرام ـ الهوى ـ الوداد ـ الحب ـ الحبيب ـ يهوى ـ الولهى ـ الجوى ـ الودّ ـ الوجد ـ الوالهات ـ الوله ـ ولهان ـ التودُّد ـ المحبة ـ اللوعة) .

ويحدد الشعر موضع العشق ، و محله ، فهو أحياناً القلب ، وحيناً الروح ، وأحياناً المهجة ، فيحدثنا عن محراب القلب ، وحنايا القلب ، وثنايا الروح ، ويخاطب فؤاده الذي هو موضع العشق ومحله ، ويقول لنا : إن الحب "يغلي في مراجل قلبه " أو " الشوق يهمس للفؤاد" أو " أنا الحبيب ترنُّمي للروح .... يشعل في الفؤاد صبابةً " إلى غير هذا.

و للعشق أعراض تعبِّر عنه ... وتدلُّ عليه ... يقول في قصيدة ( ظرف الزمن الماضي):

وشربت من ماءٍ معينٍ من جداولها

لأطفئَ لوعتي

لكنه ... ما زادني إلا اشتياقاً

واشتعالاً ........ فاحتراقاً......

وفي قصيدة ( تمتمات ما قبل البوح):

تلك الليالي الساهراتُ على معازف مهجتي

يسألنني.....

فتطير أسئلة بأجنحة الخيال

وتستقرُّ على غصون شجيرة الأحلام دهراً

وتسائل الأطيار:

هل لي حجةٌ في عشقها؟!!

وعندما يزداد به العشق ، فيلجأ إلى ربه فيرجوه:

ربَّاه غوثاً من الطوفان أنقذني

فالعشق أشرق

و الليل البهيم ....... أتى

فالماء يشتاق للأرض التي اقفرَّت

لا يستكين ..... فإن السيل دفَّاقُ....!!

ثم يختتم القصيدة بالإعلاء من شأن العشق ، فيقول:

لكنَّ عشقيَ ..... صنف ٌ من دعائكمُ

فإن عشقيَ يبقى دائماً أبداً

لأن عشقىَ ...... يعلو ..... ليس يعلوه

ويكثِّف الشاعر تجربته الشعرية أيَّما تكثيف في مفتتح الكتاب حين يعبِّر عن كلِّ حرف من حروف اسمه بسطرٍ شعريٍّ يوغل في العشق ويتوغَّل ، فيقول:

ألـــــفٌ ..... أمير العشق يسبح في دمي

والحاء .... حـــرف العـند عندي يشتهي

شـــوق الغــــرام الســــرمديّ

و الميم ... مفـــتاح الـــــهوى الـــــعذريّ

يســــرح في ثــــنايا جعبتي

والدال .... دربٌ فـــي خــــــيال العــاشق

الولـــــهان حـــتى المـــنـتهى

هذه هي تجربة أحمد أبو بكر الشعرية ملخصةً مكثفةً في هذا المفتتح ( كل سطرٍ شعريٍّ فيه ينضح بالعشق و الغرام و الهوى و الوله).

غير أن ما يحمد لهذا الشاعر ـ وقد أوضحنا أن تجربته الشعرية هي عشق وحب وغرام وهوى ـ أن العشق عنده سامٍ منزهٌ عن الجسد يسمو و يحلِّق في عالم الروح حتى يكاد يصل إلى مدارج العشق الإلهي.

فكيف تأتَّى له هذا وهو شابٌّ في منتصف العشرينات من العمر ، والعشق الجسدي في هذه المرحلة من العمر يكون في أشد حالاته وتوهجه . إن العشق عند شاعرنا ليس عشقاً جسدياً ، ولا هو عشق رومانسيّ ، بل هو قد فاق الرومانسية ، و اتجه نحو الروحانية، إن هذه محمدة للشاعر ، ونحن نعيش تردّي الكثير من الشعر في أيامنا هذه نحو مزالق الجسد و التلذُّذ الشبقيّ . الغريب أنه يجيء من شعراء جاوزوا سن الشباب ، وشاعراتٍ في مرحلة الكهولة ، في هذا الأوان الذي تشهد الساحة الشعرية تردِّياً نحو لذائذ الجسد ، نشهد شعراء ، ومنهم شاعرنا ، ينقذون الشعر من وهدة الجسد ، و يربأ ون به عن الشبق ، ويحلِّقون به نحو سماوات الروح . ما أظنُّ إلا أن الشعر قد جُعِل للسموِّ بالإنسان ومشاعره و التجرُّد من كلِّ ما يثقل الروح.

تحيةً لأحمد أبي بكر إذ يعقل هذا ، واستنكاراً لكل شاعرٍ يهبط بالشعر إلى وحل الجنس ، وإن نسيت قصائد الكتاب ، فلن أنسى قصيدة ( أنشودة مدينة العشاق) حيث يقول:

تسكت الأرواح فينا

تصرخ الأشواق غضبى

اجعل التعشاق ديناً

نشتهيه ..... نرتضيه ..... تحتوينا دون تيهْ

يصدر الوالي قضاءه :

اقتلوا من ينشد العشق ..... سبيلاً

ذاك إفتاء المدينة

..............

تزعق الأرواح .... تجأر

نجِّنا مما نخاف ْ ..... رغم كيد الكائدينْ

جاء سلطان المدينة

لفَّه طوق السكينة

قائلاً :

من يفتديكم ... من عذاب العشق يوماً؟!!

قد شجبتم ...... فاستبحتم ......

اقتلوهم ..... حرِّقوهم ....

اصلبوهم عند أبواب المدينة

ذا جزاء المفسدين

باتت الأرواح ذكرى ....!!

صارت الأشواق ...... و الأرواح ....

شهداء المدينة........!!!