اسطنبول.. المدينة المتواطئة..

قبل ثلاث سنوات غادرت دبي إلى اسطنبول بعد حصولي على عرض عمل جيد، كنت وقتها في أوج شعوري بالنجاح والتميز في العمل. لكن هذا لم يمنعني من الدخول في حالة اكتئاب بشعة لأسباب أخرى لا تتعلق بالعمل.. شعرت وقتها أن المدينة ستبتلعني.

خرجت من دبي دون أن يعنيني وداع المدينة، غير آبهة بأني ربما لن أراها مجددا. دبي مدينة جميلة وحيوية، لكنها لا تقيم علاقة إنسانية معك. كأنها تسخر من الأشخاص الذين يشبهون المدن بالنساء أو يحمّلونها صفات إنسانية وعاطفية ليست من وظيفتها.
دبي مدينة تقدم لك كل ما تريد وبأسهل طريقة، تحترمك كإنسان مسالم قادم للعمل فيها، وتفتح ذراعيها لك بكل حيادية ومهنية، طالما احترمت قوانينها وحدودها السياسية والاجتماعية. لا معنى للروح هناك، لا سعادة استثنائية هناك، لا تعلق بالمكان.

الأماكن في دبي كلها تشبه بعضها، بعكس الناس. لا أحد يشبه الآخر ومع الوقت لا يشبهون أنفسهم حتى. لو لم تزر دبي في حياتك، ودخلت إلى أحد المولات، لا يمكنك معرفة البلد الذي أنت فيه.
لدى دبي قدرة على التنكر بزي أي مدينة تنافسها. تغار من شكل كل المدن. تحاول تقليدهن كلهن. لا تتردد في إجراء عمليات التجميل مهما كانت باهظة ومكلفة. لا ترتدي دبي إلا الماركات وتجبر سكانها على مجاراتها وإلا فهذه المدينة لا تليق بهم.

أحتاج لعشرات الصفحات لأصف دبي، لكني أفضل توفيرهم لوصف اسطنبول، دبي أصلا لا يعنيها كلامي هذا وتنظر إليه بسخف. قلنا إنها تكره الإسقاطات الإنسانية على المدن. لهذا فسكان هذه المدينة لا تربطهم بها أي علاقة عاطفية، يرتبطون بخدمات المكان والحياة السهلة والرغيدة التي يتمتعون بها، ويكتفون بالفرح والسرور الذي تقدمه لهم شرط أن يطلبوه. لهذا، الخروج من دبي أشبه بخسارة عقار أو مبلغ في البورصة. لا شعور بالفقد هنا ولا حزن يقفر القلب، هو فراق بارد للمكان دون جلبة.

وهكذا خرجت من دبي، أحمل أحلامي وفرحي وحماستي لتحقيق إنجاز جديد في العمل. وإلى أين؟ إلى اسطنبول الفاتنة التي سبق لي زيارتها والسكن فيها لفترة قصيرة، كانت كفيلة بأخذ ألبابي بجمالها وسحرها وامتدادها، وأنا ابنة الخليج المدللة التي كانت لا تعرف ما هي المواصلات العامة.

هنا السماء ملونة وفيها غيوم، تلك التي كنا نرسمها أنا وأخوتي في حصة (الفنية). النظر إلى الأفق يعني النظر إلى طبقات من الجغرافيا والتاريخ والفن.
جبال ومسطحات مائية ونوارس محلقة وأبنية عمرانية قديمة وحديثة.. شوارع كثيرة متقاطعة وسكك مواصلات. كل هذا في مشهد واحد.

في كل مرة نعبر الجسر الواصل بين اسطنبول الأوروبية والآسيوية، ننبهر بمشهد بديع، يختلط به إعجاز الخالق بمهارة المخلوق، هذا الأفق الممتد والواسع يصل نقيّ روحنا ويربطنا بهذه المدينة إنسانيًا وبالضرورة مكانيًا.

لماذا نحب اسطنبول؟
مبدأ حبنا لاسطنبول قائم على فكرة المشاركة، وهي أكثر ما يؤلم في الفقد. نحن نشعر بألم الفقد عندما لا نستطيع مشاركة فرحنا وحزننا مع من ارتبطت بهم أرواحنا، وهذا برأيي أنضج حالات الحب. أن تشارك من تحب كل مشاعرك وكل تفاصيل حياتك بحلوها ومرها، وكذلك هي اسطنبول، مدينة متواطئة مع مشاعرنا بسبب روحها الطاغية والمتوغلة في نفسياتنا المتقلبة.

نحن أهل اسطنبول متورطون في حب هذه المدينة رغم إرادتنا لأنها تشاركنا كل شيء دون استئذان. في سعادتنا، ترقص لنا المدينة.. يتلألأ البوسفور وتزداد زُرقته، تغني النوارس وتتفتح أزهار التوليب، تصنع الدهشة في كل زاوية يقع عليها ناظرنا، وتصحبنا في أقصى حالات الجنون والطيش الطفولي الجميل، لا توفر أي فرصة لتؤكد لنا أنها أيضًا سعيدة وتشاركنا هذا الفرح بكل ما تجمع من فتنة وسحر.

تحملنا فوق سحابها المتناثر إلى أقصى حالات الفرح لتهبط بنا داخل ثقبها الأسود إذا انقلب الفرح همّا وتعاسة.
إذا ضاق صدرك في اسطنبول وصرت تعيسًا لأي سبب ما، وهنا لا أتحدث عن التقلبات المزاجية أو الهموم اليومية ومشاق الحياة، بل أقصد الصحة النفسية.
إن شعرت أن سماء وأرض اسطنبول قد ضاقت بك بما رحبت، فاعلم أنها البداية فقط، ستشاركك حزنك حتى تكاد تقتلك، ستبكي معك شوارعها وسيزيدك اتساعها وأفقها الممتد ضياعًا ووحدة، ستجد الهم يعلو محيا مقيميها وزائريها، ستجوع قططها وتتشرد كلابها، ستصبح كل فصولها خريفًا تتساقط أوراقه على قلبك فتزيد ثقله، لن تستطيع النجاة ولا مفر من الهروب إلّا منها. بقاؤك يعني فناؤك، فناء روحك على الأقل. روحك الممزوجة والمتماهية مع ذكرياتك في هذه المدينة.

المشاركة مجددًا .. حتى لو تحسّنت نفسيتك، عليك التحرر من روح هذه المدينة الغدارة.. ابتعاد يعافي روحك ويطبب جرحك ويوقف نزفك، انعتاق من هذا الحبل السري الذي ظل يسحبك إلى غياهب جب لا تصل قراره. وأنت المسلوب من أي قوة تنجيك.

غدرت بي اسطنبول مرتين في ٤ سنوات عشتهم فيها.. الأولى كانت الأصعب لأني لم أكن أفهم سبب انقلاب المدينة عليّ بهذا الشكل.. أمّا الثانية فكانت قبل أيام، عندما غادرتها في أوج استبدادها الكئيب الفاتك في النفس.

لا أستطيع الآن النظر إلى شوارعها وأزقتها حتى في (ستوريات) أصدقائي على انستاغرام.. مازلت أسمع نحيبنا بمجرد النظر إليها. عاجلًا أم آجلًا سأتعافى من هذا الحزن وأعود لمشاركتها فرحًا وسعادة جديدين.

تبقى اسطنبول في عيني أجمل مدينة رغم قسوتها وتناقضها ورعونة مشاعرها وحبها الطفولي الناضج.
نور حداد