براءة الأصمعي مِن «صفير البلبل» مرّ الشعر العربي بمراحل كثيرة من رفعةٍ وانحدارٍ وقوةٍ وضعفٍ، خاصة بعد ذهاب جيل الفصحاء وأصبح الناس يتعلمون العربية الفصحى من الكتب وليست سليقة وطبيعة، فوقعت الأخطاء وانتشر اللحن اللغوي وصار من كان لا يخطئ من العرب العرباء يقع فيه، وكذلك المتعلمون من عامة الناس حتى لم يعد أحد يسلم من نقد علماء اللغة له، كما فعلوا مع كبار الشعراء من مثل أبي تمّام والبحتري والمتنبي.ومن جاء من بعدهم ولكن هؤلاء الفحول بسبب جزالة أشعارهم وقوة صنعتهم الشعرية تقلُّ لديهم هذه الأخطاء اللغوية جدا، منذ وقتهم حتى عهد الجواهري شاعر العراق الأول، ولهذا استحقوا البقاء والخلود في ذاكرة الأدب العربي، ويتم قياسهم لمن أراد المفاضلة بينهم والقياس حسب عصورهم فلا يقاس المتقدم بالمتأخر، لأنّ فيه ظلما كبيرا.وخارج هذه الدائرة البليغة ما يسمى بالشعر وليس بشعرٍ ولا شعورٍ، فهو لا يتجاوز كونه قصائد مكسورة وزنا ومملوءة بالأخطاء لفظا ومعنى، ومن أكثر هذه القصائد أو قل (المصائب) الشعرية انتشارا قصيدة "صوت صفير البلبل"، المنسوبة كذبا وزورا إلى إمام لغوي وثقة راوية وهو عبدالملك بن قريب الأصمعي الباهلي (١٢١-٢١٦هـ)، ولا أدري لماذا دعاتنا الأفاضل تعلقوا بهذه القصيدة الركيكة؟ وجعلوها ديدنهم في أمسياتهم وصار لا يخلو حفل زواج منها بل يحثون الشبَبَة الصغار على حفظها ويتسابقون فيما بينهم ويتعجبون لمن يلقيها، وكان ـ فيما علمت ـ الشيخ القطان أول من أنشدها وتم تسجيلها وبثها وأضحك الحضور جدا فطارت من بعده واشتهرت وإن كانت موجودة من قبله منذ زمن بعيد.قصيدة "صفير البلبل" المكذوبةتقول القصة إن الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور كان يحفظ الشعر من مرّةٍ وخادمه يحفظه من مرتين وجاريته من ثلاث مرات وقد أعجز الشعراء الذين يلقون أشعارهم أمامه لأخذ هداياهم منه فكان يقول لهم: هذه القصيدة أحفظها ويحفظها خادمي وجاريتي ثم يقومون بإنشادها للشاعر فيرجع خائبا من عند الخليفة، حتى فطن الأصمعي لهذا الأمر وكان من ندماء الخليفة فجاء بلباس بدوي ولم يعرفه المنصور وأنشد: صوتُ صفير البلبلِ هيج قلبي الثملِالماء والزهر معا مع زهرِ لحظِ المُقَلِوأنت يا سيدَ لي وسؤددي ومولي ليفكم فكم تيمني غُزَيلٌ عقيقَليقطَّفتَه من وجنَةٍ من لثم ورد الخجلِفقال لا لا لا لا لا وقد غدا مهروليوالخُوذ مالت طربا من فعل هذا الرجلِ إلي آخر هذه القصيدة الطويلة والغريبة التي لم يستطع حفظها المنصور، ثم طلب القصيدة فأخرج الأصمعي القصيدة مكتوبة على حجر من الرخام فأسقط في يد الخليفة وأمر صاحب الخزينة أن يعطيه بوزنها ذهبا ففعل حتى لم يبق للخليفة مال.أقول أولاً: هذه القصيدة ركيكة جدا لفظاً ومعنى ومكسورة وزنا، ولا يصح أن تنسب لزمن المنصور والأصمعي، لأن المتتبع للأدب العربي يعرف أنها من مفتريات القرون الهجرية المتأخرة.ثانياً: الأصمعي من أئمة اللغة العربية ولم يعُرف بقول الشعر ولم يروَ عنه، بل كان هو من كبار رواة الأشعار وعلماء اللغة الذين حفظوها من الضياع فكيف ينسب له هذا الشعر الغث المكسور.وليت هذه القصيدة المنحولة كانت سليمة اللفظ والمعنى، ولكنها غلب عليها الضعف والأخطاء اللغوية وضياع الوزن ولعمرالله إن واحدا منها لكفيل لإسقاطها من قائمة الشعر فكيف إذا اجتمعت هذه العيوب في قصيدة واحدة. ومن يبحث عن أسباب ولع الناس بهذه القصيدة أو قل المصيبة الشعرية سيجد هذه النتائج:- جهل الناس بالتاريخ واللغة والوزن الشعري من عامتهم ودعاتهم فهم يظنونها مستقيمة صحيحة ولايخطرعلى قلوبهم غير ذلك.- حبهم للقصص الخيالية وخاصة من مثل هذه الحكاية التي فيها ما فيها من الغرابة والطرافة.- أسلوب الشيخ أحمد القطان الذي أضحك الجمهور كثيرا، عندما رواها أول مرة منذ عقودٍ فجعلتها مثار اهتمام الناس من بعده. ومتابعةً لمقالتي أمس سأثبت لكم براءة الأصمعي بما تسمح لي مساحة المقالة هذه فأقول:الأخطاء التاريخيةروى أهل التاريخ أنّ الأصمعي اتصل بالخليفة هارون الرشيد وكان من ندمائه ولم يرد أبدا أنه كان من جلساء المنصور ولو وقع ذلك حقا لذكره المؤرخون، فقد ولد الأصمعي سنة 121هـ، وتولى المنصور الخلافة من سنة 136 هـ حتى 158هـ فيكون الأصمعي أدرك عهده في أول شبابه ومن قرأ سيرته سيعلم أنه في هذا الوقت كان يحصّل العلم ويجمع الأخبار ويلتقي الأعراب ولم يتصل بعدُ بأحد من الأمراء والخلفاء. ومن المعلوم أيضا أن الأصمعي كان من كبار رواة أشعار العرب ولم يذكره أحدٌ بقول الشعر كما هو موجود في كتب التراجم، وليت من كذب عليه ألصق به قصيدة تليق بمكانته العلمية بدل "صفير البلبل" التي لا أعدها في الشعر العربي أصلا. كذلك مما عُرف به أبوجعفر المنصور بأنه حريص جدا على مال المسلمين يحسبها بالفلس كما نقول حتى لُقّب بالدوانيقي، وهو الذي يستقصي في الحسابات فكيف يصحُّ أن يقوم رجلٌ هذا لقبه بإفراغ بيت المال لرجلٍ لا يعرفه!!الأخطاء النحوية واللغويةكل من يقرأ القصيدة "البلبلية" وهو لغوي سوف يضحك من كثرة أخطائها وجمعها لمفردات لم ترد أصلا في اللغة وهذه الأخطاء لا يقع فيها مبتديء في علم اللغة فكيف نصدّق أن يقع فيها رجل كالأصمعي من أكبر علماء اللغة؟! وهذه بعض الأمثلة من مطلعها، يقول:صوتُ صفير البلبلِ هيّج قلبي الثملِوالصواب : هيج قلبي الثملا وهو تابع لقلبي المنصوب بهيّج، ثم قال:فكم وكم تيمني غزيّلٌ عقيقلِوالصواب: غزيلٌ عقيقلُ بالضم تابع للفاعل المرفوع فكيف يجوز كسره، وكذلك لا توجد في العربية مفردة عقيقل، وقد حاول أحدهم وشرحها بأنها مكونة من كلمتين أي عقيق لي أي مثل العقيق فأقول له هذا من أعجب الشروح المضحكة! وهناك مثلها في هذه القصيدة كثير لا أستطيع في هذه العجالة حصرها لكم وهي مفردات ليست من العربية في شيء مثل الدمدملي والطبطبلي والعرنجل وغيرها ليست موجودة في معاجم العربية وكم أتعجب من اجتهاد بعضهم في شرحها وهي ساقطة لغة وقواعد إعرابية وليست على قياس لغتنا الفصحى، إضافة إلى أنها مكسورة الوزن في بعضها أو من أوزان مختلفة. وإني لأصم آذاني عن سماعها عندما أحضر بعض الأعراس ويقوم أحدهم باستعراض عضلاته الأدبية وينشدها ويصفق له الحضور ويشكرونه عليها، مما يجعلني آسف لحال الفصحى التي باتت مضيعة بين أبنائها.تاريخ القصيدة المنحولةهناك قصائد كثيرة مكذوبة على فحول الشعراء وأعلام الأمة ولكنها قصائد موزونة راقية في لفظها ومعانيها وقد بيّن العلماء صحتها من عدمه عندما جمعوا أشعار العرب ولكني آسف للأصمعي الذي ابتلاه هؤلاء بمثل هذا الشعر الغث الذي لا يؤلفه إلا جاهل بالتاريخ والشعر والنحو والصرف ومفردات اللغة ولو خرج الأصمعي من قبره وسمع هذه الفرية لقال: لو اخترتم لي قصيدة أخرى تناسب مقامي في اللغة لأن هذه كذبة سوف يكشفها أي مطلع على العلم!!وقد حاولت أن أجد مصدرا لها فلم أجد إلا ما قاله شيخو في مجاني أدبه بأن هذه القصة رويت في كتاب "حلبة الكميت " للنواجي وهو من أدباء القرن التاسع الهجري ثم تابعه الإتليدي في كتابه "إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس"، وهو رجل لا نعرف عنه إلا أنه من القُصّاص وتوفي بعد سنة 1100هـ مما يدلُّ على تهاوي هذه القصة من أصلها وهناك من ينسبها إلى غيره، والحديث طويل وفي هذا كفاية للقراء الكرام بأن يعلموا حقيقة "صفير البلبل" بأنها لا تصح لغة ولا وزنا ولا تاريخاً.البيان