الديمقراطيون: ترومان على خطى ولسون (5)
إن كان الرئيس الأمريكي الديمقراطي وودور ويلسون وضع أسس إستراتيجية السياسة الأمريكية الحديثة، وحدد أهدافها نحو وطننا أثناء وأعقاب الحرب العالمية الأولى، في العمل على إنشاء الكيان الصهيوني في قلب الأمة والوطن، والانطلاق للسيطرة على منابع النفط، فإن الرئيس هاري ترومان أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية شكل الاستراتيجية السياسية، ووضعها موضع التنفيذ والتطبيق. تلك السياسة التي لا زال يعاني منها وطننا، وجاءت لتفي بوعد ولسون لليهود برعاية كيانهم في فلسطين والحفاظ عليه، حيث جعل مصلحة وحماية الكيان الصهيوني محور ومركز السياسة الأمريكية في وطننا.
وفي الحقيقة أن قادتنا طوال تاريخ الصراع ولنقل منذ صدور وعد بلفور إما أنهم كانوا أغبياء ﻻ يفقهون في السياسة شيء، أو أنهم أذكياء ويفهمون كل شيء، ويمهدون لتحقيق مضمون الوعد في نهاية المطاف! ﻷنه ﻻ يعقل وهم الذين يمارسون السياسة لم يدركوا أبعاد مخططات أعدائنا، وﻻ من تصدروا للتنظير الفكري للصراع والتأليف والتأريخ طوال مائة عام، المصيبة ومازالوا ...!
ﻷن أي غبي يقرأ نص وعد بلفور دون اﻻطﻻع على أي شيء غيره يدرك أن اﻷمر أبعد من وطن قومي لليهود، والوعد يحول اﻷكثرية إلى أقلية، والقلة القلية ﻷكثرية، وأصحاب اﻷرض المقيمين عليها منذ آﻻف السنين إلى غرباء أجانب والمستجلبين اليهود من كل شتات اﻷرض يجعل منهم أصحابها، و.. وقد كتب أجانب وعرب عن أبعاد الوعد الخطيرة لكن ناديت لو أسمعت حيا!
منذ أربعينيات القرن الماضي رسم الحزب الديمقراطي اﻷمريكي النهاية التي سيكون عليها وضع الفلسطينيين، (قضايا الحل النهائي) التي تم ركنها على الرف أو أرشفتها منذ خمسة عشر عاما ولم تعد تناقش، ولكن يتم ترجمة نهاياتها عمليا وشطبها على اﻷرض!
صحراء النقب بين التقرير والتنفيذ
إن كانت فلسطين كلها في حدودها التي رسمتها المخططات اليهودية والغربية مهمة لمشروع الهجمة التوراتية الغربية على وطننا بأبعادها الدينية، والحضارية، والجغرافية، والسياسية، والإستراتيجية، فإن صحراء النقب ذلك الجزء الجنوبي من فلسطين هي أخطر ما في المشروع بعد القدس، وذلك لأن صحراء النقب هي القطعة الأرضية التي تمثل الجسر الأرضي وهمزة الوصل الأرضي بين شطري الوطن، الذي تحاك المؤامرة لشطره وضرب عقيدة شعوبه، من خلال اقتلاع هذا الجزء وفصله كليا عن بقية الوطن حتى تتحقق إمكانية العزل الكاملة بين شطري الوطن، وتصبح عملية الاتصال بينهما صعبة، وهكذا يضمن الغرب عدم قيام أي وحدة حقيقية أو قوة في المنطقة يمكنها أن تهدد مصالحه في وطننا، وذلك ما أوصى به لويس التاسع وتقرير كامبل بنرمان!
لذلك عندما قررت الأمم المتحدة اليهودية عام 1947م تقسيم فلسطين بين المسلمين واليهود، "وأثناء مناقشة حدود الدولتين المقترحين اقترح الوفد الأمريكي منح القسم الأكبر من صحراء النقب للعرب، للتعويض عن بعض التعديلات التي أدخلت حول مسألة تقسيم يافا والقطاع الغربي من الجليل الأعلى وغيرها. ولهذا الغرض بالذات قام الزعيم الصهيوني حاييم وايزمان بزيارة خاصة للبيت الأبيض في 19 نوفمبر"!
وقد اعترف وايزمان أنه كان قادماً لإقناع ترومان بأن يكون التقسيم في النقب على أساس خط عمودي بين العرب واليهود فوجد ترومان أكثر منه حرصاً على تسليم النقب كلها لليهود!
إنه توارث الأجيال والعداء الصارخ للإسلام واتحاد الكلمة والهدف للقضاء عليه وتدميره، والنقب أهم وسائل تحقيق ذلك الهدف الذي اتفقت وتوحدت كل القوى الغربية من سياسية، وفكرية، واستعمارية، وتبشيرية، واستشراقية، على تحقيقه!
ومما يدل على أهمية هذه القطعة من فلسطين لتحقيق الأهداف اليهودية الصليبية ضد الإسلام، ما قام به اليهود من اغتيال الكونت برنادوت) موفد الأمم المتحدة لحل المشكلة الفلسطينية عام 1948م، ولم تكن جريمته إلا أنه وضع مشروعه لحل المشكلة ونص فيه على اقتطاع النقب والقدس من قرار التقسيم وإعادتها للعرب، وهذا لم تكافحه إسرائيل فقط لأنه يتعارض وأطماعها في المنطقة بل كافحته كل الدول الغربية الأعضاء في الأمم المتحدة بكل ما أوتيت من قوة، بما فيها روسيا البلشفية التي كان "صوتها هو صوت الغالبية التي رجح قرار التقسيم عام 1947 لدى التصويت في اللحظة الأخيرة"!
وإذا ما نظرنا إلى مطلب إسرائيل بعد حرب أكتوبر وتعطيل المفاوضات مع مصر لإصرارها على الاحتفاظ بشريط حدودي يمتد بطول ساحل خليج العقبة الغربي إلى شرم الشيخ جنوباً، وبعمق عشرة كيلو مترات داخل سيناء، لأدركنا عمق المخطط وأهمية تلك القطعة من الأرض في المشروع اليهودي الغربي لإحكام عملية الفصل بين شطري الوطن الإسلامي.
بعد الإعلان عن قيام الكيان الصهيوني
في فلسطين ليلة 15 من أيار/مايو 1948م، سارع ترومان وبدون التشاور مع أركان إدارته بإعلان اعترافه بهذا الكيان، فما ضرورة التشاور والرئيس ولسون تعهد بذلك لمؤتمر الصلح قبل 30 سنة؟! ومنذ ذلك التاريخ ألقت الولايات المتحدة بكامل ثقلها وتأييدها وراء الكيان الصهيوني غير عابئة برد الفعل الغربي، كما لم تقم وزناً لخطورة هذا الموقف المتحيز على مستقبل مصالحها في وطننا.
كما حدد الحزب الديمقراطي ثلاثة محاور رئيسة للعمل عليها لدعم الكيان الصهيوني. تمثلت في: إكساب هذا الكيان صفة الشرعية الدولية. إغداق المساعدات عليه حتى يقف على قدميه. ودفع الدول الغربية لضمان حدود ووجود هذا الكيان تحت غطاء إقامة التوازن في الشرق الأوسط، كسبيل وحيد للاستقرار في نظرهم.
والذي يقارن كثير من السياسات الأمريكية منذ ذلك الوقت، وخاصة الأعوام الثلاثة التي تلت قيام العدو الصهيوني، بكل المواقف والممارسات السياسية الأمريكية عبر العقود التي تلتها، وخاصة أثناء مفاوضات ما يسمى بالسلام، فإنه سيجد أنها متطابقة إلى حد كبير، إن لم يكن تماماً. فأمريكا لم تتوانَ في تنفيذ هذه الإستراتيجية نحو العدو الصهيوني لحظة واحدة منذ ذك التاريخ:
ففي 29/11/1948م دعت أمريكا مجلس الأمن للاعتراف بالعدو الصهيوني، ولكنها فشلت في ذلك! ثم دعت مجلس الأمن مرة ثانية في 11/5/1949م، ونجحت في استصدار توصية من الجمعية العمومية! وفي خط متوازٍ كانت تمارس سياسة الضغط على العرب من أجل تأمين الظروف للكيان الصهيوني في ظل حرب 1948م لتثبيت وجوده في الأراضي التي اغتصبها، فقد دفعت العرب تحت الضغط للموافقة على الهدنة الأولى في حزيران/يونيو 1948م، ثم ضغطت مرة أخرى للموافقة على الهدنة الثانية في تموز/يوليو، و قد كانت الهدنتين لمصلحة العدو الصهيوني!
كما أن أمريكا في الفترة من أيار/مايو 1948م وحتى نهاية ذلك العام، حققت للعدو الصهيوني أشياء كثيرة، منها:
قرار أمريكا بعدم إرسال ضباط مراقبة الهدنة، ومعارضة أمريكا مناقشة بند فلسطين في الجمعية العمومية، ووعد الإدارة الأمريكية العدو الصهيوني بالاعتراف بحدوده عند النقطة التي تصل إليها قواته. نفس السياسة مارستها كل الإدارات الأمريكية على رأسها الجمهورية منها!
وفي كانون الثاني/يناير 1949م رفعت درجة اعترافها بالعدو الصهيوني من الاعتراف الواقعي إلى القانوني، ورفعت درجة التمثيل الدبلوماسي معها إلى درجة سفارة. كما بدأت تقدم له مئات الملايين من الدولارات لدعم وجوده واقتصاده تحت مسميات عدة. ومنذ عام 1950 بدأت توقيع الاتفاقيات الثنائية معه في المجالين العسكري والأمني. وهذا الدعم الواسع يدل على أن العدو الصهيوني بدأ يكتسب أهمية في الإستراتيجية الأمريكية، إذ صرح وزير الدفاع الأمريكي في عام 1949م قائلاً: "إن (إسرائيل) مهمة إستراتيجياً ويجب دعمها". وابتداء من عام 1951م قررت وزارة الدفاع الأمريكية بلسان وزيرها أن يكون للعدو الصهيوني دور متميز على أساس: "أن تقوية (إسرائيل) تساعد الدول الغربية على المحافظة على التوازن والاستقرار في (الشرق الأوسط) ... فبالإمكان الاعتماد على (إسرائيل) لمعاقبة واحدة أو أكثر من الدول المجاورة، التي تجاوزت تصرفاتها تجاه الغرب، حدود اللياقة المسموح بها"!
أمريكا ترفض حق عودة اللاجئين
إن العصا التي تتكئ عليها الولايات المتحدة للتدخل في شئون وطننا الداخلية هي الصراع العربي - الصهيوني، وقد كان ومازال المعضلة الرئيسة فيه هي إصرار اللاجئين الفلسطينيين على احتفاظهم بحق العودة إلى أراضيهم وبيوتهم التي شردوا منها عام 1948م. إن هذا الحق مسقط في السياسة الأمريكية منذ بداية النكبة، ولا تؤمن الإدارات الأمريكية المتعاقبة به. وذلك الذي أزم حل قضية عودة اللاجئين منذ ذلك التاريخ، حيث اعتمدت حكومة ترومان سياسة تقوم على توطين اللاجئين، ودمجهم الاقتصادي في المحيط العربي. وهذا ما أعلن عنه ممثل أمريكا في لجنة التوفيق الدولية الثلاثية، التي شكلتها الجمعية العامة للأمم المتحدة من ممثلي فرنسا وتركيا وأمريكا، وأقرها بروتوكول لوزان في 12 أيار (مايو) 1949م، فقد أعلن في اجتماع اللجنة في بيروت:
"إن (إسرائيل) لا تقبل عودة اللاجئين، والخير أن تنفذ قرارات الأمم المتحدة عملياً بدلاً من التمسك بها نظرياً، وهناك حقيقة واقعة وهي أن جميع اللاجئين لن يعودوا ... فمن الصعب أن يعود هؤلاء اللاجئون لأقاليم يسكنها قوم غرباء عنهم. فيجب التفكير في إعادة استيطانهم من جهة، وإعداد المشروعات اللازمة لعودتهم للحياة العادية).
ومن أجل ذلك أيدت الحكومة الأمريكية إنشاء وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين كفرصة لتوطينهم في غير ديارهم، ودفعت غالبية ميزانيتها. وضغطت على الدول العربية البترولية خاصة كي تفتح أبوابها أمام الفلسطينيين للعمل فيها وبأجور مغرية جدا، وتسهيل كل السبل أمامهم لنسيان الوطن والقضية، كما حاولت أن تغري بعض الدول العربية لتوافق على توطين اللاجئين في بعض أراضيها.
كما حددت أمريكا منذ ذلك التاريخ، تاريخ معين تتوقف عنده أمريكا عن تقديم المساعدات للاجئين، وذلك لإكراههم على الاندماج في البلدان التي هُجروا إليها. وهذا ما حدث من أمريكا منذ سنوات، وأدى إلى توقف كثير من أوجه الدعم والخدمات التي كانت تقدمها الوكالة للاجئين نتيجة النقص الحاد في موارد تمويلها. وكذلك التضييق من الدول العربية على الفلسطينيين الذين سبق لها أن فتحت لهم أبوابها على مصراعيها للعمل والعيش فيها، ونسيان وطنهم وعدم التفكير في الخروج من هذه البلدان.
سـلاح النفط
وما دمنا قد ذكرنا بالموقف الأمريكي الثابت في قضية اللاجئين الفلسطينيين، لا بد لنا أن نذكر بالموقف الثابت للدول النفطية منذ بداية القضية لعدم استخدام سلاح النفط من أجل الدفاع عن الحقوق العربية، ذلك الموقف الذي شجع الولايات المتحدة أن تمضي قدماً في دعم العدو الصهيوني، وليس الأصوات الانتخابية اليهودية، ولا قوة النفوذ اليهودية في الإدارات الأمريكية، التي يدعونها لتبرير دورهم في ذلك.
والأدلة على ذلك كثيرة، وسنذكر بعضا منها: لقد كان الرئيس الأمريكي (هاري ترومان) مجنوناً في تأييده للصهيونية من قبل توليه الرئاسة عام 1945م، وقد كان ترومان لا يلتفت إلى تحذيرات وزارتي الخارجية والدفاع من عواقب سياسته المؤيدة للصهيونية بدون تحفظ، إلا بعد أن دق له وزير دفاعه "فورستال، على وتر أهمية البترول العربي في الاقتصاد الأمريكي، في اجتماع مجلس الوزراء الأمريكي في يناير 1948م، حيث قال : "بدون نفط العرب، لا نستطيع أن نحارب، أو أن نبني اقتصاداً قوياً في وقت السلم. وخلال عشر سنوات (إذا استمر هذا الموقف) علينا أن نعود لاستخدام السيارات الصغيرة (4 سلندر)"!
كما أن (فورستال) ونائب رئيس شركة أرامكو قد أدليا بشهادة في 19 يناير 1948م أمام اللجنة البرلمانية الخاصة بشؤون الدفاع، تحدثا فيها عن تأثير موقف أمريكا من قرار التقسيم على المصالح الأمريكي بالشرق الأوسط، وخاصة البترول، مما جعل ترومان يقبل لأول مرة منذ عام 1945م، بتوصيات وزارتي الخارجية والدفاع، ويعلن عزم الولايات المتحدة تجميد التقسيم، ويطلب وصاية دولية على فلسطين، ولكنه سرعان ما تراجع عن قرار الوصاية! والسبب هو الموقف العربي.
فعندما طالبت بعض الدول العربية في اجتماع مجلس الجامعة العربية في 8/12/1947م في القاهرة، باستخدام سلاح النفط لتغيير الموقف الأمريكي من قرار التقسيم، رفض رئيس إحدى الدول العربية البترولية الاقتراع، وعارض اتخاذ امتيازات النفط في بلاده سلاحاً لحل القضية المركزية للأمة. وأعلن وزير خارجية الدولة نفسها في 20/12/1947م، عبر المذياع، أن رئيس هذه الدول "لا يريد الخلط بين الاقتصاد والسياسة"، وأنه لا ينوي فسخ الامتياز الممنوح للشركات الأمريكية، وأنه يرى من واجبه حماية أرواح الأمريكيين الذين يعملون في بلاده!
وعندما عادت مسألة استخدام سلاح البترول واحتلت الصدارة في أبحاث الجامعة العربية، وأصدرت اللجنة السياسية في 22/2/1948م، قراراً أوصت فيه حكومات الدول العربية بالمحافظة على الوضع الراهن في البلاد العربية، والامتناع عن منح امتيازات تتعلق بأنابيب البترول أو تنفيذ الامتيازات التي منحت بالنسبة لهذه الأنابيب، التي تمتد داخل البلاد العربية لمصلحة شركات أجنبية ما دامت دول هذه الشركات تسعى لإرغام العرب على قبول التقسيم، رفض مندوب تلك الدولة التوقيع على القرار، محذراً من اتخاذ قرار في مسألة امتيازات البترول الأنجلو- أمريكية. ليس هذا فحسب، بل إن رئيس هذه الدولة راح يستخدم نفوذه على سوريا ولبنان كي يسمحوا بمرور الأنابيب إلى شواطئ بلادهما، وتوقيع الاتفاقيات مع هذه الشركات، فما اضطر الرئيس السوري (شكري القوتلي) إلى الرد عليه : "إن المصلحة القومية أرفع من المصلحة الاقتصادية"، فغضب ذلك الرئيس، وبدأ يكيد للقوتلي!
وإذا ما عملنا أن الثورة الصناعية الثانية – ما بعد الحرب العالمية الثانية – في الغرب كله، لم تستفيد من (طاقة) البترول العربي فحسب، وإنما استفادت من سعره الذي وصلت نسبة إسهامه في تمويل تقدمها إلى ما يوازي الثلث تماماً. إذا ما علمنا ذلك أدركنا كم هو حجم الجريمة التي ارتكبها العرب النفطيين – ولا زالوا – في حق الأمة والوطن، قبل فلسطين وأهلها.
ورغم كل هذا، لازال العرب يصرون على الفصل بين السياسة والاقتصاد، ويرفضون التصالح مع الداخل، وعدم محاربة أنفسهم نيابة عن الولايات المتحدة والعدو الصهيوني!

إن كان الرئيس الأمريكي الديمقراطي وودور ويلسون وضع أسس إستراتيجية السياسة الأمريكية الحديثة، وحدد أهدافها نحو وطننا أثناء وأعقاب الحرب العالمية الأولى، في العمل على إنشاء الكيان الصهيوني في قلب الأمة والوطن، والانطلاق للسيطرة على منابع النفط، فإن الرئيس هاري ترومان أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية شكل الاستراتيجية السياسية، ووضعها موضع التنفيذ والتطبيق. تلك السياسة التي لا زال يعاني منها وطننا، وجاءت لتفي بوعد ولسون لليهود برعاية كيانهم في فلسطين والحفاظ عليه، حيث جعل مصلحة وحماية الكيان الصهيوني محور ومركز السياسة الأمريكية في وطننا.وفي الحقيقة أن قادتنا طوال تاريخ الصراع ولنقل منذ صدور وعد بلفور إما أنهم كانوا أغبياء ﻻ يفقهون في السياسة شيء، أو أنهم أذكياء ويفهمون كل شيء، ويمهدون لتحقيق مضمون الوعد في نهاية المطاف! ﻷنه ﻻ يعقل وهم الذين يمارسون السياسة لم يدركوا أبعاد مخططات أعدائنا، وﻻ من تصدروا للتنظير الفكري للصراع والتأليف والتأريخ طوال مائة عام، المصيبة ومازالوا ...!ﻷن أي غبي يقرأ نص وعد بلفور دون اﻻطﻻع على أي شيء غيره يدرك أن اﻷمر أبعد من وطن قومي لليهود، والوعد يحول اﻷكثرية إلى أقلية، والقلة القلية ﻷكثرية، وأصحاب اﻷرض المقيمين عليها منذ آﻻف السنين إلى غرباء أجانب والمستجلبين اليهود من كل شتات اﻷرض يجعل منهم أصحابها، و.. وقد كتب أجانب وعرب عن أبعاد الوعد الخطيرة لكن ناديت لو أسمعت حيا!منذ أربعينيات القرن الماضي رسم الحزب الديمقراطي اﻷمريكي النهاية التي سيكون عليها وضع الفلسطينيين، (قضايا الحل النهائي) التي تم ركنها على الرف أو أرشفتها منذ خمسة عشر عاما ولم تعد تناقش، ولكن يتم ترجمة نهاياتها عمليا وشطبها على اﻷرض!
صحراء النقب بين التقرير والتنفيذ
إن كانت فلسطين كلها في حدودها التي رسمتها المخططات اليهودية والغربية مهمة لمشروع الهجمة التوراتية الغربية على وطننا بأبعادها الدينية، والحضارية، والجغرافية، والسياسية، والإستراتيجية، فإن صحراء النقب ذلك الجزء الجنوبي من فلسطين هي أخطر ما في المشروع بعد القدس، وذلك لأن صحراء النقب هي القطعة الأرضية التي تمثل الجسر الأرضي وهمزة الوصل الأرضي بين شطري الوطن، الذي تحاك المؤامرة لشطره وضرب عقيدة شعوبه، من خلال اقتلاع هذا الجزء وفصله كليا عن بقية الوطن حتى تتحقق إمكانية العزل الكاملة بين شطري الوطن، وتصبح عملية الاتصال بينهما صعبة، وهكذا يضمن الغرب عدم قيام أي وحدة حقيقية أو قوة في المنطقة يمكنها أن تهدد مصالحه في وطننا، وذلك ما أوصى به لويس التاسع وتقرير كامبل بنرمان!لذلك عندما قررت الأمم المتحدة اليهودية عام 1947م تقسيم فلسطين بين المسلمين واليهود، "وأثناء مناقشة حدود الدولتين المقترحين اقترح الوفد الأمريكي منح القسم الأكبر من صحراء النقب للعرب، للتعويض عن بعض التعديلات التي أدخلت حول مسألة تقسيم يافا والقطاع الغربي من الجليل الأعلى وغيرها. ولهذا الغرض بالذات قام الزعيم الصهيوني حاييم وايزمان بزيارة خاصة للبيت الأبيض في 19 نوفمبر"!وقد اعترف وايزمان أنه كان قادماً لإقناع ترومان بأن يكون التقسيم في النقب على أساس خط عمودي بين العرب واليهود فوجد ترومان أكثر منه حرصاً على تسليم النقب كلها لليهود!إنه توارث الأجيال والعداء الصارخ للإسلام واتحاد الكلمة والهدف للقضاء عليه وتدميره، والنقب أهم وسائل تحقيق ذلك الهدف الذي اتفقت وتوحدت كل القوى الغربية من سياسية، وفكرية، واستعمارية، وتبشيرية، واستشراقية، على تحقيقه!ومما يدل على أهمية هذه القطعة من فلسطين لتحقيق الأهداف اليهودية الصليبية ضد الإسلام، ما قام به اليهود من اغتيال الكونت برنادوت) موفد الأمم المتحدة لحل المشكلة الفلسطينية عام 1948م، ولم تكن جريمته إلا أنه وضع مشروعه لحل المشكلة ونص فيه على اقتطاع النقب والقدس من قرار التقسيم وإعادتها للعرب، وهذا لم تكافحه إسرائيل فقط لأنه يتعارض وأطماعها في المنطقة بل كافحته كل الدول الغربية الأعضاء في الأمم المتحدة بكل ما أوتيت من قوة، بما فيها روسيا البلشفية التي كان "صوتها هو صوت الغالبية التي رجح قرار التقسيم عام 1947 لدى التصويت في اللحظة الأخيرة"!وإذا ما نظرنا إلى مطلب إسرائيل بعد حرب أكتوبر وتعطيل المفاوضات مع مصر لإصرارها على الاحتفاظ بشريط حدودي يمتد بطول ساحل خليج العقبة الغربي إلى شرم الشيخ جنوباً، وبعمق عشرة كيلو مترات داخل سيناء، لأدركنا عمق المخطط وأهمية تلك القطعة من الأرض في المشروع اليهودي الغربي لإحكام عملية الفصل بين شطري الوطن الإسلامي.
بعد الإعلان عن قيام الكيان الصهيوني
في فلسطين ليلة 15 من أيار/مايو 1948م، سارع ترومان وبدون التشاور مع أركان إدارته بإعلان اعترافه بهذا الكيان، فما ضرورة التشاور والرئيس ولسون تعهد بذلك لمؤتمر الصلح قبل 30 سنة؟! ومنذ ذلك التاريخ ألقت الولايات المتحدة بكامل ثقلها وتأييدها وراء الكيان الصهيوني غير عابئة برد الفعل الغربي، كما لم تقم وزناً لخطورة هذا الموقف المتحيز على مستقبل مصالحها في وطننا.كما حدد الحزب الديمقراطي ثلاثة محاور رئيسة للعمل عليها لدعم الكيان الصهيوني. تمثلت في: إكساب هذا الكيان صفة الشرعية الدولية. إغداق المساعدات عليه حتى يقف على قدميه. ودفع الدول الغربية لضمان حدود ووجود هذا الكيان تحت غطاء إقامة التوازن في الشرق الأوسط، كسبيل وحيد للاستقرار في نظرهم.والذي يقارن كثير من السياسات الأمريكية منذ ذلك الوقت، وخاصة الأعوام الثلاثة التي تلت قيام العدو الصهيوني، بكل المواقف والممارسات السياسية الأمريكية عبر العقود التي تلتها، وخاصة أثناء مفاوضات ما يسمى بالسلام، فإنه سيجد أنها متطابقة إلى حد كبير، إن لم يكن تماماً. فأمريكا لم تتوانَ في تنفيذ هذه الإستراتيجية نحو العدو الصهيوني لحظة واحدة منذ ذك التاريخ:ففي 29/11/1948م دعت أمريكا مجلس الأمن للاعتراف بالعدو الصهيوني، ولكنها فشلت في ذلك! ثم دعت مجلس الأمن مرة ثانية في 11/5/1949م، ونجحت في استصدار توصية من الجمعية العمومية! وفي خط متوازٍ كانت تمارس سياسة الضغط على العرب من أجل تأمين الظروف للكيان الصهيوني في ظل حرب 1948م لتثبيت وجوده في الأراضي التي اغتصبها، فقد دفعت العرب تحت الضغط للموافقة على الهدنة الأولى في حزيران/يونيو 1948م، ثم ضغطت مرة أخرى للموافقة على الهدنة الثانية في تموز/يوليو، و قد كانت الهدنتين لمصلحة العدو الصهيوني!كما أن أمريكا في الفترة من أيار/مايو 1948م وحتى نهاية ذلك العام، حققت للعدو الصهيوني أشياء كثيرة، منها:قرار أمريكا بعدم إرسال ضباط مراقبة الهدنة، ومعارضة أمريكا مناقشة بند فلسطين في الجمعية العمومية، ووعد الإدارة الأمريكية العدو الصهيوني بالاعتراف بحدوده عند النقطة التي تصل إليها قواته. نفس السياسة مارستها كل الإدارات الأمريكية على رأسها الجمهورية منها!وفي كانون الثاني/يناير 1949م رفعت درجة اعترافها بالعدو الصهيوني من الاعتراف الواقعي إلى القانوني، ورفعت درجة التمثيل الدبلوماسي معها إلى درجة سفارة. كما بدأت تقدم له مئات الملايين من الدولارات لدعم وجوده واقتصاده تحت مسميات عدة. ومنذ عام 1950 بدأت توقيع الاتفاقيات الثنائية معه في المجالين العسكري والأمني. وهذا الدعم الواسع يدل على أن العدو الصهيوني بدأ يكتسب أهمية في الإستراتيجية الأمريكية، إذ صرح وزير الدفاع الأمريكي في عام 1949م قائلاً: "إن (إسرائيل) مهمة إستراتيجياً ويجب دعمها". وابتداء من عام 1951م قررت وزارة الدفاع الأمريكية بلسان وزيرها أن يكون للعدو الصهيوني دور متميز على أساس: "أن تقوية (إسرائيل) تساعد الدول الغربية على المحافظة على التوازن والاستقرار في (الشرق الأوسط) ... فبالإمكان الاعتماد على (إسرائيل) لمعاقبة واحدة أو أكثر من الدول المجاورة، التي تجاوزت تصرفاتها تجاه الغرب، حدود اللياقة المسموح بها"!
أمريكا ترفض حق عودة اللاجئين
إن العصا التي تتكئ عليها الولايات المتحدة للتدخل في شئون وطننا الداخلية هي الصراع العربي - الصهيوني، وقد كان ومازال المعضلة الرئيسة فيه هي إصرار اللاجئين الفلسطينيين على احتفاظهم بحق العودة إلى أراضيهم وبيوتهم التي شردوا منها عام 1948م. إن هذا الحق مسقط في السياسة الأمريكية منذ بداية النكبة، ولا تؤمن الإدارات الأمريكية المتعاقبة به. وذلك الذي أزم حل قضية عودة اللاجئين منذ ذلك التاريخ، حيث اعتمدت حكومة ترومان سياسة تقوم على توطين اللاجئين، ودمجهم الاقتصادي في المحيط العربي. وهذا ما أعلن عنه ممثل أمريكا في لجنة التوفيق الدولية الثلاثية، التي شكلتها الجمعية العامة للأمم المتحدة من ممثلي فرنسا وتركيا وأمريكا، وأقرها بروتوكول لوزان في 12 أيار (مايو) 1949م، فقد أعلن في اجتماع اللجنة في بيروت:"إن (إسرائيل) لا تقبل عودة اللاجئين، والخير أن تنفذ قرارات الأمم المتحدة عملياً بدلاً من التمسك بها نظرياً، وهناك حقيقة واقعة وهي أن جميع اللاجئين لن يعودوا ... فمن الصعب أن يعود هؤلاء اللاجئون لأقاليم يسكنها قوم غرباء عنهم. فيجب التفكير في إعادة استيطانهم من جهة، وإعداد المشروعات اللازمة لعودتهم للحياة العادية). ومن أجل ذلك أيدت الحكومة الأمريكية إنشاء وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين كفرصة لتوطينهم في غير ديارهم، ودفعت غالبية ميزانيتها. وضغطت على الدول العربية البترولية خاصة كي تفتح أبوابها أمام الفلسطينيين للعمل فيها وبأجور مغرية جدا، وتسهيل كل السبل أمامهم لنسيان الوطن والقضية، كما حاولت أن تغري بعض الدول العربية لتوافق على توطين اللاجئين في بعض أراضيها.كما حددت أمريكا منذ ذلك التاريخ، تاريخ معين تتوقف عنده أمريكا عن تقديم المساعدات للاجئين، وذلك لإكراههم على الاندماج في البلدان التي هُجروا إليها. وهذا ما حدث من أمريكا منذ سنوات، وأدى إلى توقف كثير من أوجه الدعم والخدمات التي كانت تقدمها الوكالة للاجئين نتيجة النقص الحاد في موارد تمويلها. وكذلك التضييق من الدول العربية على الفلسطينيين الذين سبق لها أن فتحت لهم أبوابها على مصراعيها للعمل والعيش فيها، ونسيان وطنهم وعدم التفكير في الخروج من هذه البلدان.
سـلاح النفط
وما دمنا قد ذكرنا بالموقف الأمريكي الثابت في قضية اللاجئين الفلسطينيين، لا بد لنا أن نذكر بالموقف الثابت للدول النفطية منذ بداية القضية لعدم استخدام سلاح النفط من أجل الدفاع عن الحقوق العربية، ذلك الموقف الذي شجع الولايات المتحدة أن تمضي قدماً في دعم العدو الصهيوني، وليس الأصوات الانتخابية اليهودية، ولا قوة النفوذ اليهودية في الإدارات الأمريكية، التي يدعونها لتبرير دورهم في ذلك. والأدلة على ذلك كثيرة، وسنذكر بعضا منها: لقد كان الرئيس الأمريكي (هاري ترومان) مجنوناً في تأييده للصهيونية من قبل توليه الرئاسة عام 1945م، وقد كان ترومان لا يلتفت إلى تحذيرات وزارتي الخارجية والدفاع من عواقب سياسته المؤيدة للصهيونية بدون تحفظ، إلا بعد أن دق له وزير دفاعه "فورستال، على وتر أهمية البترول العربي في الاقتصاد الأمريكي، في اجتماع مجلس الوزراء الأمريكي في يناير 1948م، حيث قال : "بدون نفط العرب، لا نستطيع أن نحارب، أو أن نبني اقتصاداً قوياً في وقت السلم. وخلال عشر سنوات (إذا استمر هذا الموقف) علينا أن نعود لاستخدام السيارات الصغيرة (4 سلندر)"!كما أن (فورستال) ونائب رئيس شركة أرامكو قد أدليا بشهادة في 19 يناير 1948م أمام اللجنة البرلمانية الخاصة بشؤون الدفاع، تحدثا فيها عن تأثير موقف أمريكا من قرار التقسيم على المصالح الأمريكي بالشرق الأوسط، وخاصة البترول، مما جعل ترومان يقبل لأول مرة منذ عام 1945م، بتوصيات وزارتي الخارجية والدفاع، ويعلن عزم الولايات المتحدة تجميد التقسيم، ويطلب وصاية دولية على فلسطين، ولكنه سرعان ما تراجع عن قرار الوصاية! والسبب هو الموقف العربي.فعندما طالبت بعض الدول العربية في اجتماع مجلس الجامعة العربية في 8/12/1947م في القاهرة، باستخدام سلاح النفط لتغيير الموقف الأمريكي من قرار التقسيم، رفض رئيس إحدى الدول العربية البترولية الاقتراع، وعارض اتخاذ امتيازات النفط في بلاده سلاحاً لحل القضية المركزية للأمة. وأعلن وزير خارجية الدولة نفسها في 20/12/1947م، عبر المذياع، أن رئيس هذه الدول "لا يريد الخلط بين الاقتصاد والسياسة"، وأنه لا ينوي فسخ الامتياز الممنوح للشركات الأمريكية، وأنه يرى من واجبه حماية أرواح الأمريكيين الذين يعملون في بلاده!وعندما عادت مسألة استخدام سلاح البترول واحتلت الصدارة في أبحاث الجامعة العربية، وأصدرت اللجنة السياسية في 22/2/1948م، قراراً أوصت فيه حكومات الدول العربية بالمحافظة على الوضع الراهن في البلاد العربية، والامتناع عن منح امتيازات تتعلق بأنابيب البترول أو تنفيذ الامتيازات التي منحت بالنسبة لهذه الأنابيب، التي تمتد داخل البلاد العربية لمصلحة شركات أجنبية ما دامت دول هذه الشركات تسعى لإرغام العرب على قبول التقسيم، رفض مندوب تلك الدولة التوقيع على القرار، محذراً من اتخاذ قرار في مسألة امتيازات البترول الأنجلو- أمريكية. ليس هذا فحسب، بل إن رئيس هذه الدولة راح يستخدم نفوذه على سوريا ولبنان كي يسمحوا بمرور الأنابيب إلى شواطئ بلادهما، وتوقيع الاتفاقيات مع هذه الشركات، فما اضطر الرئيس السوري (شكري القوتلي) إلى الرد عليه : "إن المصلحة القومية أرفع من المصلحة الاقتصادية"، فغضب ذلك الرئيس، وبدأ يكيد للقوتلي!وإذا ما عملنا أن الثورة الصناعية الثانية – ما بعد الحرب العالمية الثانية – في الغرب كله، لم تستفيد من (طاقة) البترول العربي فحسب، وإنما استفادت من سعره الذي وصلت نسبة إسهامه في تمويل تقدمها إلى ما يوازي الثلث تماماً. إذا ما علمنا ذلك أدركنا كم هو حجم الجريمة التي ارتكبها العرب النفطيين – ولا زالوا – في حق الأمة والوطن، قبل فلسطين وأهلها.ورغم كل هذا، لازال العرب يصرون على الفصل بين السياسة والاقتصاد، ويرفضون التصالح مع الداخل، وعدم محاربة أنفسهم نيابة عن الولايات المتحدة والعدو الصهيوني!