سلطة الحرف وسَطوة العبارة
في منجز منير الشعراني
ــــــــــــــــــــــــ
ما طبيعة العلاقة بين الحرف والعبارة في لوحات الفنان منير الشعراني الخطّية؟ من يسبق من في أعماله: هل اختيار الخط يسبق العبارة عنده، أم إن مضمون العبارة وأشكال الحروف في كلماتها هو ما يحدد نوعية الخط الذي يستعمله لتشكيلها؟ ثم كيف يختار الشعراني العبارات التي يرسمها؟ وكيف يحل فنيا وإبداعيا إشكالية العلاقة بين الشكل والمضمون في فن الخط العربي؟ هذه أهم الأسئلة التي ستحاول هذه المقاربة التحليلية النقدية الإجابة عليها.
في البدء ينبغي التأكيد بإن العبارات الجميلة والبليغة التي يرسمها منير الشعراني لا يمكن فصلها بأي حال عن الشكل البديع الذي صيغت به. فالنص الفلسفي أو الشعري أو الديني أو الصوفي في لوحاته يرتبط ارتباطا عضويا بالخط الذي كُتب به. لهذا السبب لا يفضل هذا الفنان المجدد خطا عربيا على آخر، كما يصعب علينا أن نتحدث عن خط عربي معين أثير لديه وأقرب إلى روحه من غيره؛ ويخطئ أيضا من يحكم عليه بأنه سجن نفسه في قفص خط محدد. فلكل عبارة يختارها للتشكيل خطّها الذي يلائمها، ولكل خط يستعمله عبارات بعينها تناسبه ليعبر عنها أكثر من غيره. وبالتالي "فالخط الأقرب إليّ هو الذي يتناسب في لحظة معينة مع العبارة التي أخُطّها ومع المضمون الذي أرغب في إيصاله"، كما عبر عن ذلك في أحد حواراته (1). ولا شك أن هذا التصور الإبداعي الشعراني ينبع من إدراكه الدقيق وفهمه العميق للطاقة الإبداعية الكامنة في الخطوط العربية الكلاسيكية وتلك التي طوّرها عموما، ووقوفه بالتجربة والخبرة على الإمكانات التعبيرية والأسرار الجمالية الهائلة التي يزخر بها كل خط على حدة، والأبعاد البصرية والتشكيلية اللانهائية التي ينطوي عليها.
هناك إذن وحدة عضوية صلبة في اللوحة الشعرانية بين الشكل والمضمون، بين المبنى والمعنى، وهي علاقة جدلية رفيعة بين الخط والعبارة، أعبر عنها بسلطة الحرف وسطوة العبارة. تتحالف الحروف والمعاني وتتقاطع وتتعانق في منجزه لتشيد بناء فنيا رفيعا وعمارة هندسية متينة كل عناصرها وطوابقها ومداخلها ومنافذها كافة مفتوحة بعضها على بعض، بأسلوب فريد يبهج العين ويسر الخاطر ويحث على التأمل. ولعل النقاط الحمراء في لوحاته تمثل ملتقى هذا التلاحم الساحر البديع، إلى جانب وظيفتها الإيقاعية البصرية. وكلما كانت الصواعد كما يرسمها سامقة جد سامقة كلما أوحت لنا بالرقص والتمايل، لتصير في نهايتها لينة ورهيفة تكاد تتعانق وتتصاهر، كما يتجلى ذلك مثلا في لوحاته العديدة بأسلوبه المطوَّر بالديواني، أو مع الكوفي النيسابوري الذي كان منسيا ومقصيا من أكاديمية الخطوط العربية كما أقرتها الدولة العثمانية لقرون إلى أن أحياه وبعثه من تحت الرماد.
تمدنا عمارة الشعراني الخطية بمتعة مزدوجة: حسية تجريدية مصدرها الشكل والحرف، وعقلية فكرية قوامها العبارة ومعناها. وهو يصف هذه المتعة المزدوجة "بالجرعة البصرية المعرفية"(2). ومما يضاعف هذه المتعة أن النصوص التي يختارها للتشكيل تكون في غالبيتها مُوفّقة، غير مكررة، وليست نمطية، وأحيانا ليست مألوفة ومتداولة. مما يفتح الباب لإشراك المتأمل في لوحاته ليبذل جهدا خلال فعل القراءة وعملية التذوق.
إن اللوحة الشعرانية أشبه بامرأة جميلة حسناء لا تبوح بكل أسرارها من النظرة الأولى، ولا تمنح نفسها بسهولة لمشاهد متسرع ولكل من هب ودب منذ اللقاء الأول. وبقدر جمالها وحسنها يكون سحرها وغموضها. ورغم أنها لا تبوح بكل شيء من النظرة الأولى، فمن السهولة بمكان الوقوع في عشقها وأسْرها منذ تلك النظرة. من هنا ينبع سحرها وجمالها، ويتجلى حسنها وألقها. (لا إمام سوى العقل) عبارة من أربع كلمات فقط باتت حاليا لوحة كلاسيكية مكّنت شاعر المعرّة ورهين المحبسَيْن من أن يكون معاصرا لنا، فأخرجته من محبسه رغم أنفه وسافرت به عبر الزمن، ولا يمكن تخيل هذه العبارة مرسومة بغير قلم الشعراني، بحيث باتت اليوم مقترنة في أذهاننا تلقائيا بلوحته.
وإذا طرحنا السؤال: من يسبق من، ومن يحدد من في لوحة الشعراني؟ هل اختيار العبارة يسبق تحديد الخط، أم إن الخط يحدد مسبقا شكل العبارة؟، فينبغي ألا نخشى من السقوط في شرك اللغز المحير: هل البيضة تسبق الدجاجة، أم إن الدجاجة تسبق البيضة؟، وذلك لسبب بسيط: لا يؤمن منير الشعراني بأطروحة الفن من أجل الفن، وإنما يرى بأن الفنون بشكل عام، ومن ضمنها فن الخط العربي، تعبر عن رسالة واضحة وبأسلوب جميل وفي إطار تشكيلي. إن للفن وظيفة تتجلى أكثر في اختيار العبارة، وبالتالي فإن عبارته، قبل تشييد عمارته، تسبق ما عداها عن سابق إصرار وترصد. وبَعد إيمانه بالعبارة وتأمله فيها (وفعل الإيمان بالعبارة ومدلولها هنا حلقة هامة في عملية الإبداع عند الشعراني وخطوة حاسمة، لأنه لا يخط عبارة لا تنسجم مع فكره وقناعته الشخصية وتوجهه العام في الحياة والفن) يحاول أن يقرأ بين سطورها ومفرداتها وحروفها ماذا بإمكانه بصفته تشكيليا خطاطا أن يبرزه فيها من أبعاد جمالية وبصرية وتشكيلية. يعبر عن ذلك بوضوح فيقول: "تُشيَّدُ عمارتي الخطية على عبارات أختارُها بقصديّة تقوم على معانيها، لا على أشكال حروفها(...) قصديتي تقوم على اقتناعي بأن الخط العربي يمكنه الجمع بين التجريد الجمالي والرسالة، أي يمكنه حل معادلة الشكل والمضمون التي أثارت ولا تزال الكثير من الجدل(...) فأنا أختار العبارة الجميلة المعنى، وأستنطقها لتبوح لي بمواطن الجماليات البصرية التي تنطوي عليها حروفها وكلماتها لأستخرجه وأقيم عليه بناء اللوحة البصري، محاولا أن أبرز الشعرية الكامنة في معنى العبارة وتجليها البصري". ثم يستشهد في معرض حديثه ببيت شعري معبر لعمر ابن الفارض يلخص منهجه في هذا الصدد:
ولُطْفُ الأواني في الحقيقة تابع / للُطْفِ المعاني والمعاني بها تنْمو.(3)
من جهة أخرى يجدر التذكير بأن القطب منير الشعراني يستقي معظم عباراته من قراءاته الكثيرة، سواء التراثية منها أو الحديثة. وقد اشتغل مدة طويلة في تصميم أغلفة الكتب، وفي دور النشر. فهو قارئ نهم، جيد ومُكـثِّـر، يحتفظ بدفاتر خاصة يسجل فيها مختاراته ليتأمل فيها طويلا، قبل أن تنضج في ذهنه فكرة تشكيل إحداها وإخراجها خطيا وبصريا. لهذا السبب ربما لا تبدو في لوحاته أدنى علامة على التسرع ولا تظهر في ثناياها أبسط ملامح الارتجال (وإنما دقة لامتناهية واهتماما دقيقا بأصغر التفاصيل)، لأنه يترك العبارة تختمر طويلا في مخيلته قبل توليدها على الورق، ويُقلِّبها مليّا قبل إخراجها من حال الوجود بالقوة إلى حال الوجود بالفعل. وغالبا ما ترتبط عباراته المختارة بقضايا الحق والعدل والإنسان والحب والجمال والحرية والعقل، بحكم التزامه بقضايا وطنه وأمته والعالم. لهذا تمتد نصوصه الخطية من القدامى إلى المحدثين، من المتنبي والمعري وابن عربي إلى أحمد شوقي ومحمود درويش ووليد خازندار، مرورا بطبيعة الحال بآيات القرآن الكريم والإنجيل المقدس وملحمة جلجامش...
ولعل الحديث عن سطوة العبارة في منجز الشعراني لا يستقيم بدون الإشارة ولو بتلميح مقتضب إلى ما اكتسبه فن الخط العربي من تقدير واحترام من طرف جمهور لا يعرف اللغة العربية، وذلك بفضل أعمال الشعراني التي عُرضت عليه في باريس ولندن وسيدني وبرلين وغيرها من العواصم، فتمكن من تذوقها وعشقها واقتنائها، لأنه جمهور يعي معنى الفن ويفهم لغته العالمية، ويقدر الفنان وشغله. وإنَّ جلب مزيد من الاهتمام والاحترام لفن الخط العربي على المستوى العالمي يعني تلقائيا وضمنيا الإعلاء من قيمة اللغة العربية وأهميتها. ويعد الشعراني بحق أحد كبار الفنانين المدافعين بقوة عن لغة الضاد، وأحد الغيورين الأشداء عليها. وقد خصص لهذا الغرض لوحات مدهشة تحتفي بلغة الضاد وتشيد بجمالها وأمجادها. ولا غرابة في ذلك بما أنه سليل مدرسة عريقة في النحو وعلوم اللغة اسمها المدرسة الشامية العتيدة. لكننا اليوم بتنا نعيش في زمن نرى ونسمع فيه نساخين مقلدين لا يفرقون بين حركتيْ الكسرة والضمة، ولا يميزون بين الفاعل والمفعول به مع كامل الأسف، ثم يصدِّعون رؤوسنا بترّهاتهم عن الخط والفن والتصميم والنقد الفني، بدون أن تكون لهم مرجعية علمية متينة وأرضية لغوية صلبة. وتلك مفارقة أخرى من مفارقات زمن الرداءة والاحتيال باسم الخط والفن...!
ومجمل القول يُعد الشعراني أحد ألمع أقطاب الحداثة الخطية التي تستند على الأصول وتحترم القواعد وترتكز على الأسس في فن الخط العربي، دون أن تستسلم للتقليد والسلفية والقدامة. وتُمثل أعماله الخطية أفقا فنيا لكوكب فن الخط في زمننا لا يمكن حاليا تجاوزه، أو ادعاء ذلك. لهذا سوف يُخلّد المستقبل فنه ويحفظ ذكراه وأسلوبه لمدة طويلة. ولا أبالغ في هذا الشأن إذا كتبت بأن لوحاته ستعيش لعشرات وعشرات السنين المقبلة، وسوف تفوق قيمتها ما يستطيع أن يتصوره اليوم خيالنا المحدود، وستحرص العائلات على توريث أبنائها وبناتها لوحاته، إذ سيأتي حين من الدهر سيكون فيه من يمتلك لوحة ما من لوحاته الجميلة كمن يرقد فوق كنز نفيس. آنذاك، وآنذاك فقط سيُجمع النقاد والدارسون على القول بمناسبة افتتاح (متحف منير الشعراني) في مسقط رأسه سَلميّة:
"كان الشعراني قطبا مُشعا وسابقا لعصره، يبدع ويجدد وينقب في ظل مناخ ثقافي بليد وملوث اتسم بالرداءة والتقليد والانحطاط، وفي ظروف سياسية صعبة وسيئة وقاهرة للغاية. نعم، عرفت الأوساط الثقافية والفنية في زمنه قيمة أعماله مبكرا، ووقفت عند مواطن الجدة فيها ومدى فرادتها، لكنها لم تقدّر ذلك حق قدره، وبالتالي لم تمنحه رسميا القيمة التي يستحقها، لأن الفن عموما كان في عصره ترفا حضاريا ونشاطا ثانويا. لذلك لم تستفد المؤسسات التعليمية والثقافية كثيرا من فنه وأفكاره وأطروحاته في هذا الباب؛ كما أن المنابر والمنتديات السلفية التقليدية حاربته وضيقت عليه؛ مثلما استهدفته آلة القمع والاستبداد لسنوات طويلة. حتى تلامذته أيضا، وما أكثرهم، لم يكونوا في مستوى تطلعاته وآماله، إذ لم يستوعب أغلبهم أفكاره الثورية التجديدية في هذا الباب بسبب محدودية تعليم بعضهم، وضحالة ثقافة وضيق أفق بعضهم الآخر، فسقطوا بسرعة في آفات التقليد والسلفية والجمود والاجترار التي نهض كامل مشروعه ضدها، فحرصوا على الكسب المادي فزاد حسهم التجاري، فنصبوا من ثمة الإعلانات والعلامات التجارية وطلبات الشركات هدفهم الأسمى، على حساب نبل الرسالة وهاجس تجديد الصنعة وتطوير الأداة الذي أرّق معلمهم. وبذلك خيبوا ظنه وخذلوه، وسقطوا في رِبْقة الرداءة والهجانة والتكرار، بعدما ألهتهم تجارتهم ولغة البيع ولغو السوق عن تذكر شيخهم واستحضار توجيهاته ووصاياه".
وأخيرا وليس آخراً سيخلص هؤلاء الباحثون إلى القول في تقرير الجلسة الختامية للملتقى الدولي لفن الخط العربي في دورته السابعة التي ستعقد استثنائيا في بلاد الشام تكريما له: "كان الشعراني في زمنه بمثابة عدّاء كبير، كثير المِران، تمكن جاهدا وبمجهوده الشخصي من تحطيم الرقم القياسي في إحدى المسافات الطويلة متحديا شتى الصعاب. ثم بقي في حلبة السباق بمفرده، بدون منافس حقيقي، يسابق ظله لتجاوز ذاته وتحطيم رقمه القياسي الذي ظل بحوزته لمدة طويلة. لهذا السبب يستحق منا اليوم كل تكريم..."

© نجيب مجذوب
ــــــــــــــــــــ
*هذه الورقة عن جانب من تجربة الفنان منير الشعراني هي نسخة مزيدَة ومُنقحة لمقال كنت قد كتبته في أواخر أيام فبراير من العام الجاري، وتم نشر نسخة مقتضبة منه بتاريخ 5 مارس 2020 على موقع (خمسة نجوم) الذي يشرف عليه الإعلامي سامي كليب تحت عنوان: (منير الشعراني المبدع الذي حوَّل الحرفَ إلى سلطة واللوحة إلى حسناء). وهذه نسخة كاملة للمقال.

(1) منير الشعراني: (شغلي الشاغل)، حوار أجرته معه "هارفارد بزنس ريفيو"، بتاريخ 14
ماي 2019.
(2) منير الشعراني: (منير الشعراني يخرج الخط من قفص القدسية الذهبي)، حوار على موقع
"صفحات سورية، 19 نونبر2017.
(3) منير الشعراني: المرجع السابق.

******