حول علمية النقد الأدبي

عبدالجواد خفاجي

إذا كان هناك ما يُسمَّى بعلمية النقد الأدبي فمن البديهي أن نسأل : بماذا صار النقد علماً ؟ ، فثمة خرافة أكاديمية قديمة ـ على حد تعبير تيري إيجلتون ـ تدَّعى أن النقد علم ، وأنه لكي يكون كذلك يجب أن نكرس له أكبر قدر من المنهجية . والحقيقة أننا ـ ومهما كان ادعاؤنا بأن النقد علم ـ يجب أن نتوقف عند إمكانية أن يكون المنهج النقدي هو سبب علمية النقد. والإشكالية يجب أن تبدأ بالتساؤل : ما المنهج ؟
فالملاحظ أن المفاهيم مختلطة حول هذه الكلمة ، فالبعض يخلط بين المنهج بمعناه اللغوي ( المنهاج ) وبين المنهج بمعناه الاصطلاحي ، والبعض يخلط بين المنهج بمعناه العام ، والمنهج النقدي بمفهومه الخاص ، ومن ثم عندما نقرأ دراسات هؤلاء نستشعر أنهم لا يفرقون بين الطريق المعبَّد الذي ستسير فيه الدراسة ( الخطوات الإجرائية) التي يهتمون بتوصيفها وبين المنهج النقدي . وقد نلتفت إلى تساؤل طرحه د. عبد الله أحمد بن عتو ، وهو على أية حالة نفس تساؤلنا : ـ ما المنهج ؟ وفي الإجابة قال : " إننا ننظر إلى المنهج ليس باعتباره مجرد أسلوب ، أو وسيلة تضبطها خطة وقواعد تيَسِّر السير في البحث عن الحقيقة ، وتساعد على الوصول إلى نتائج معينة ، ولكن ننظر إليه كمنظومة مكتملة بالوعي والرؤيا المشكلين لروح المنهج وكنهه اللامرئي ، وتنتهي بالعناصر اللازمة لتحقيق ذلك الوعي ، وتلك الرؤيا من خلال الكشف والفحص والدرس والتحليل والبرهنة ، للإثبات أو النفي " (1) وإن كان د. عبد الله بن عتو قد اعتمد في إجابته عن السؤال على رأي آخر هو د. عباس الجراري في كتابه " خطاب المنهج " بما يعكس قناعة الاثنين بالإجابة المقدمة إلا أننا لو تأملنا رأيهما للاحظنا أنهما بدءا بنفي ما هو خاطئ من مفاهيم عن المنهج ، وانتهيا إلى تفسير الماء ـ بعد الجهد ـ بالماء .
وما هو خاطئ كرسته الجامعة المعاصرة إذ تضع حدوداً صارمة وهمية في الغالب رغبة منها في ترسيم معالم الدراسات المقدمة لنيل الدرجات العلمية ، وهو أمر لازم وضروري للمتتلمذ حيث لابد من ترسيم الطريق الذي سيسير فيه حتى لا يضل، ومن جهة أخرى يَسهُل على أستاذه المشرف أن يحاسبه على حياده عن الطريق المحدد سلفاً ، وفي رأيي أن ذلك ضروريًا لضبط خطوات الدارس / التلميذ إذ يسير في دراسته ، وهي خطوة استثنائية في حياة التلميذ العلمية قد يجتازها ويتجاوز عنها إذ يمارس عمله النقدي في مراحل حياته التالية ، وقد أصبح محترفاً . فمما لاشك أن قارئ الدراسات الأدبية ليس بحاجة لمعرفة الطريقة أو الطرق التي سار أو سيسير فيها الدارس للوصول إلى " روما " / النص ؛ طالما أن كل الطرق تؤدى إلى روما فما يعنى قارئ الدراسات أن يعاين ـ مع الدارس ـ روما نفسها. ثم .. ما علاقة ذلك الإجراء بالمنهج ؟ ألم أقل إنهم يخلطون بين المنهج والمنهاج ؟! إن أي استراتيجية يمكن أن يستعين الدارس بها ـ ومن دون توصيفها بداية للقارئ ، أو العناية بإثباتها خطاً ـ تظل ضرورية للدارس نفسه لإتمام دراسته الأدبية ، بل لابد أن تكون من ضمن التزاماته الضمنية ... هذه الاستراتيجية يمكن أن تسمى منهاجاً أو سبلاً إجرائية ، وهي شيء مختلف عن المنهج النقدي . وفي رأيي أن هذه السبل الإجرائية لا علاقة لها بكون الدراسة الأدبية المنجزة مكتسِبةً لصفة العلمية أو مجردة منها ، لسبب بسيط يبدو بديهياً : فكل الدراسات الأدبية تسير ـ بشكل علني أو ضمني ـ في إطار استراتيجية ما ، واضحة أو شبه واضحة المعالم ، وهي التي تحدد كيفية سير الناقد / الدارس إجرائياً في دراسته . وبمعاينة أية دراسة سنكتشف كيف تَنقَّل الدارس في دراسته من جزئية إلى أخرى ، وكيف أنه انتقل من الأجزاء إلى الكليات أو العكس ، وكيف أنه استنبط واستنتج ، وكيف حلل هذه الجزئية وعلى أي أساس ، وكيف أنه تساءل ثم أجاب ، أو كيف أنه ابتدأ بالفرضيات وأثبت صحتها أو خطأها وبأي وسيلة تم ذلك وكيف ، وكيف؟ ولاشك أن مثل هذه الإجراءات المتوارثة منذ أرسطو حتى يومنا هذا ، تظل من مكتسبات أي ناقد أو دارس للأدب ، أو أي باحث في المجالات الأدبية وغير الأدبية ، وهي ليست منهجاً أيضاً ، وفي رأيي أن هذه الإجراءات والسبل في حد ذاتها ليست دليلاً على علمية المضمون ، لأنها باختصار شكلية، وقد أكون شكلياً ملتزماً بأصول البحث العلمي في بحثي عن " الخرافة " وكيف أنها تزاحــم العقائد الدينية ـ مثـــلاً ـ ومن دون أن يكون لدىّ تعريف علمي قاطع للخرافة باعتبارها مادة البحث . كذلك لا يمكنني أن أدعى أن ما قلته (مضمون البحث ) علم بالمعنى الدقيق للكلمة لسبب بسيط هو أن مفهوم الخرافة نفسه يظل ملتبسا ويتوقف في جانب كبير منه على ما أعتبره أنا خرافة ، حتى لو استعنت بآراء مئات الفلاسفة والمفكرين والعلماء حول مفهوم الخرافة ، ومن ثم فالجانب الذاتي في البحث سيظل هو المتحكم في جوهر ما قلت ، وليس في شكله ، وعليه فإنني ملتزم شكليًّا بأصول العلمية فيما أقول ، بيد أن ما قلته يدق خازوقاً في العلم نفسه ، ليس لأننا عجزنا منذ البداية عن تحديد معنى الخرافة وحسب ، بل لأننا فوق هذا عاجزون عن تحديد ما نقصده بقولنا " علم " ، فما كانت الفيزياء الكلاسيكية التي قادها نيوتن تدعيه علماً ، تحول عند أينشتين إلى أدوات يضرب بهـــا عرض الحائط ، وفي الحالتين نحن أمام علم ، ومن ثم : هل العلم هو الثابت الذي لا يتحول ، أم أنه المتحول الذي لا يَثْبُت ؟.
بنفس المنطق ننتقل إلى موضوع الدراسة الأدبية ، فقد يلتزم الدارس شكليًّا أثناء سيره في دراسة عمل أدبي أو نقده، وهو يعي أن عمله يتعلق ضمنياً بضرورة تنظيم أفكاره بجانب وعيه بالنص المنقود ، ومن ثم سيقوم بتأطير عمله في إطار ينظم علاقتة بالنص ، وسيختار أيّاً من الطرق التي عليه أن يتجه فيها للوصول إلى أغوار النص ، وما الذي يمكنه استخلاصه من هذه السياحة الجمالية ... لكنما هل سيظل ـ رغم هذا التنظيم ـ مدعياً بأن ما قاله علم ، ليكون الشكل حكماً على المضمون؟ ... أو بعبارة أخرى استدعاء المضمون العلمي لشكل علمي منظَّم يتناسب معه ... في هذا الإطار يمكنني أن أدَّعى أنني عالم ، لا لشيء إلا لأنني أستطيع تنظيم أفكاري ، وسيكون ادعائي شكليًّا ؛ لأن ما سأقوله في إطار هذا الشكل سيظل موضع جدل حول موضوعيته . وسيظل السؤال مطروحاً : هل ما قلته علم لأنني قرأت الأدب باستقامة تتفق مع الطرق العلمية المتبعة أكاديمياً، أم لأنني حقيقة قلت علماً ؟!
في هذا الإطار نفسه يمكننا أن نعيد السؤال من جديد : ما الذي نقصده بعلمية النقد الأدبي في ضوء الخرافة الأكاديمية التي تدَّعى أن النقد علم دون أن تحدد هل هو علم من حيث الإجراءات أو الممارسات الشكلية وفق أطر محددة أم لأنه يتناول حقيقة موضوعات علمية ، أم لأنه أحكامه وتفسيراته وتعليلاته و شروحاته علمية ، أم لأنه يتبنى نظرية أدبية ما تتمسح هي الأخرى في الموضوعية ؟ .


وعودة إلى التساؤل : ما المنهج ؟

المنهج كما أعيه ، وكما وعاه الدكتور صلاح فضل في كتابه " المذاهب الأدبية " هو الطريقة التي تتم بها معالجة القضايا الأدبية ، والنظر في مظاهر الإبداع الأدبي بأشكاله المختلفة باستخدام أدوات منهجية تتعلق بهذه الطريقة . ولعل هذا الاستخدام يتم في ثلاثة مستويات . الأول : " النظرية الأدبية " إذ إن كل منهج لابد له من نظرية أدبية . الثاني : مجموعة السبل والإجراءات التي يتخذها أصحاب أية نظرية لتحليل الأعمال الأدبية ، والبرهنة على توافق القوانين الداخلية والخارجية لها . الثالث : مستوى الجهاز الاصطلاحي المتداول في إطار النظرية .
هذه هي ـ إذن ـ المستويات أو الأطراف الثلاثة : ( النظرية الأدبية ـ السبل والإجراءات ـ المصطلح ) التي تمثل منظومة متكاملة تبدأ من الإطار الشامل (النظرية ) وتنتهي إلى التقنية المتداولة التي يستعملها أصحاب المنهج في ممارساتهم العملية. لكنما ونحن نعى ذلك .. ألا يجب أن نسأل أنفسنا ما علاقة ذلك بعلمية النقد الأدبي ؟ وقبل أن أجيب أتوجه وجهة أخرى لأسأل : ـ ما الأدب ؟


ـ ما الأدب ؟ :

اعتقد أنه سؤال مشروع أن نبدأ بتعريف الأدب باعتباره مادة الدرس النقدي الأدبي ، غير أنى لا أظن أن ثمة إجابة محددة ـ علمية على نحوٍ ما ـ يمكن أن تكون مرجعاً تاريخيًا ثابتاً للحكم على أدبية أي نص أو لتحديد ماهية الأدب .
بالطبع يمكنني أن أُعرِّف الأدب على طريقة عشاق الفيزياء الكلاسيكية أو فيزياء نيوتن عندما قالوا إن الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين ، إلى أن جاء أينشتـــين وضرب بهذا الكلام عرض الحائط ، متخيلاً أنه سينظر إلى الأرض من الفضاء ، فإذا هو يرى سطح الأرض بيضاوياً ومن ثم فكل الخطوط فوق سطحها تبدو محدبة أو محنية، ومن ثم يصعب أن نرسم على سطحها خطاً مستقيماً حتى وإن كان أقصر مسافة بين نقطتين .
والمسألة على هذا نسبية ، فالشخص ( س) يرى أن المسافة بين النقطتين أ ، ب على سطح الأرض مستقيمة لأنه يعيش على سطح الأرض والشخص (ص) لا يرى نفس المسافة مستقيمة لأنه ينظر إلى الأرض من المريخ . وقد يكون التعريف قريباً من الصحة لو قلنا إن الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين في الفراغ . ولكن لأننا لا نعيش في الفراغ . والطبيعة برمتها تأبى الفراغ لذلك نحن مضطرون لتقبل الخطأ العلمي طالما أنه يتفق مع ما ائتلفنا معه .
ثمة ثوابت كثيرة يمكن أن يصدقها العقل لفترة حتى يكتشف عدم دقتها ، تماماً مثلما نقول مع نظريات الأدب كافة إن الأدب هو الاستخدامات المخصوصة للغة ، " ووفقاً لهذه المقولة يكون الأدب نوعاً من الكتابة يمثل ـ كما يقول الناقد الروسي رومان ياكوبسون ـ عنفاً منظماً يُمارس على لغة الحديث العادي " (2) وربما إلى هذا ذهب أيضاً . أ. وارين وهـ . ويليك في كتابهما " نظرية الأدب " عندما تعرضا للإجابة عن السؤال : ما الذي يُعَدُّ أدباً ، وما الذي لا يُعَدّ كذلك ؟ في محاولة لتحديد مادة البحث الأدبي ، فأي منهج نقدي للأدب ينطلق من فرضية أساسية تتصور أن هذا المدروس أدب ؛ لذلك قالا : " إن أبسط وسيلة لحل المسألة هي في تمييز الاستعمال الخاص للغة في الأدب " لكن هذا الثابت يمكن أن ينهار تماماً لو تساءلنا : مخصوص أو خاص بالنسبة لمن ؟ فما يراه شخص استخداماً مخصوصاً للغة قد لا يراه آخر كذلك ، بل قد يراه مبتذلاً أو شائعاً أو مألوفاً أو مأنوساً أو مبتذلاً أو مستهلكاً أو ما شابه ذلك من نعوت، ومن ثم سينزع عن النص أدببته ، ويرتاح إلى قناعاته ، ويتركنا نضرب أخماساً في أسداس ، فقد اتفقا على تعريف الأدب واختلفا حول أدبية النص ، شأن فى ذلك شأن الشكلانيين الروس الذين اتفقوا على تعريف الأدب واختلفوا حول "الأدبية " لكأنهما اتفقا إذن على تعريف الأدب في الفراغ ، ويظل التعريف مقبولاً حتى يقتربا من النص. ولكي يتفقا على أدبية النص لابد لأحدهما أن يتقبل خطأ علمياً في وجهة نظر الآخر.
ثمة تعريف سلبي للغة الأدب بأنها ضد علمية . هذا التعريف أيضاً يظل مُشْكِلاً ؛ فاللغة العلمية لغة نفعية تسعى إلى توصيل معانٍ محددة ، ومن ثم فهي قاطعة ، وتخاطب العقل بطريقة مباشرة ، وعلى العكس من ذلك فإن لغة الأدب لا تسعى إلى توصيل معانٍ محددة ، ومن ثم فهي ضد النفعية ، ولا تخاطب العقل ، وإنما تخاطب الوجدان بطريقة غير مباشرة ، وبناءً هذا التعريف يكون الأدب قابلاً للتعريف وفقاً لكونه خيالياً أو تخيلياً ، وليس صادقاً حرفياً ، ولغته تحمل بعداً تحتياً يخفي كثيراً من المعاني التي لا يُتَوصل إليها مباشرة .
وهكذا قادنا التعريف السلبي للأدب إلى تعريف إيجابي ، بيد أن هذا التعريف لو صَحًّ فإنني ـ وفق ما به ـ سأقرأ ما هو مكتوب على تذكرة الباص " الأتوبيس" من أرقام وحروف ورسوم مجموعة في إطار مستطيلي على أنه أدب . سأنظر إلى هذا التشكيل على أنه عنف منظم ضد لغة الكلام العادي .
صحيح أن المصمم لهذا الشكل الاصطلاحي صاغه ورتب مكوناته بهذه الكيفية على صفحة صغيرة بيضاء مستطيلة ؛ لأداء مهمة نفعية هي ضبط العلاقة بين مستخدم الباص والشركة الناقلة ، وبين موظفي الشركة أنفسهم وجهازهم الحسابي و الإداري ... هذا صحيح أن ما هو مكتوب على التذكرة خطاب سائر ينظم العلاقات ، فيما نعتبره دستوراً عاماً . والإشكالية ليست في هذا طالما أنني سأظل أنظر إلى هذا المكتوب في إطاره النفعي ـ لكنما قد تنشأ الإشكالية عندما أتوجه إليه بغرض غير نفعي لأرى فيه انتظام الإنسان المعاصر في مجموعة من الإشارات والرموز والخطوط والأرقام والحروف التي تحدد مسيرته ووجهته ونهاية مشواره ، كما يمكنني أن أرى ما يدل على تداخلات البعد الأفقي في الفكر الإنساني المعاصر ( بالنظر إلى ما هو مكتوب أفقياً ) مع البعد الرأسي ( بالنظر إلى ما هو مكتوب رأسياً ) تلك التداخلات التي تجعل من الصفحة البيضاء ( الحياة / الطبيعة ) سواداً لا يطاق وتحصر قيم الحياة وانطلاقتها وطلاقتها في إطار مستطيلي صارم يدل على التناهي والانغلاق، ويؤطر الأفق الرؤيوي للإنسان المعاصر بزوايا أربعة للمستطيل ، تعطى دلالتها هي الأخرى في الحصار والانغلاق ، وإن كل ذلك دالة في الحالة المأساوية التي يعيشها هذا الإنسان ( بالنظر إلى خارج النص ) مقارنة بالإنسان البدائي الذي عاش حياة سعيدة ؛ إذ كان يركب القرود والحمير والجمال ، وكان إلى حد كبير مكتفياً بنظرة إلى الظل المترامي أمامه ؛ ليعرف وجهته ، أو نظرة إلى الشمس الساطعة فوقه ليقول إنني هاهنا حرُُّ إذ يمكنني أن أثبِّت أوتاد خيمتي هاهنا ، ولم يكن بحالة مضطراً للحصول على تذكرة الباص / النص ، ومن ثم لم يكن خاضعاً لدستور معقد ينظم على نحو ما حالات السفر والإقامة والمبيت والدفع والمواعيد ، أو ـ باختصارـ ينظم له حياته في مجموعة إشارات وحروف ورموز صغيرة منشورة على صفحة صغيرة ، تتحكم في حريته وتجعله خاضعاً لغيره ، فيما يعد كل هذا انتشاراً وتضاؤلاً لمعنى حياتنا العصرية التي تدعى الانضباط ، وإن كان كل ذلك دالة على تأقزم الإنسان العصري رغم إمكانياته وادعاءاته بأنه أكثر انفتاحاً على الحياة . والى هنا سأكتفي ، وسأكون قد قدمت قراءة لما هو مكتوب على تذكرة الباص معتمداً ـ كما يقول الأكاديميون ـ على منهج تكاملي . إذ لم تنسَ القراءة أن توظف السميوطيقا والبنيوية بجانب المنهج التاريخي والنفسي ولم تهمل البلاغة التقليدية في الطريق . ومن ثم فقد جمعت بين الأصالة والمعاصرة ! وإن كنت قد اتكأت على حدوسى الخاصة وتذوقي الشخصي فقد اتكأت على نظرية التلقي ، أو نقد استجابة القارئ !
هل يمكنني أن أقرر بعد هذا أن ما هو مكتوب على تذكرة الباص قصيدة عصرية رائدة ، وإن شئنا حداثية فذة ، أو يمكنني أن أقرر أنني حققت أو أكسبت النص ( ما هو مكتوب على التذكرة) صفات إغرابية لا يستهدفها منتج النص ( الموظف الذي صمم التذكرة بداية ) ، وإن كان من حقي أن أقرر أنني قرأت نصاً ينتمي إلى الأدب الشعبي مجهول المؤلف ، باعتبار أن المصمم الأول للتذكرة مجهولا ، وإن ظل التصميم مملوكاً للشركة الناقلة وهي بدورها مملوكة للشعب ( قطاع عام ) .
على أية حالة يمكنني أن أنتهي إلى أن طريقة القراءة قد أكسبت النص أدبية ، ومن دون أن يهدف كاتبه إلى إنتاج أدب ما ؛ لأعيد ـ إذن ـ التساؤل من جديد – هل يوجد حقيقة ما يمكن أن أسميه أدباً ؟! وعلى نحوٍ ما في معرض إجابته على هذا التساؤل أتى كتاب " تيرى ايجلتون" : " مقدمة في نظرية الأدب " بما يؤكد في النهاية أنه سيضطر إلى وضع كلمتي ( الأدب ـ الأدبي ) حين يستخدمها تحت علامة شطب غير منظورة ليشير إلى أن هذين المصطلحين ليسا صالحين تماماً لكننا لا نملك أفضل منها في الوقت الراهن.
لقد قدم الدكتور شوقي ضيف في كتابه ( البحث الأدبي ) تعريفاً متشعب المداخل والمخارج والاتجاهات للأدب ، وقد نسب ما قاله للذيوع والشيوع والشهرة إذ بدأ: "والأدب ـ كما هو ذائع مشهور ـ " (4) في محاولة منه لتقديم تعريف أكثر شمولية وإحاطة بكلمة ( الأدب ) باعتباره مادة البحث الأدبي ، وباعتباره ذا طبيعة ـ إلى حدٍ كبير ـ مختلفة . ورغم كل ما قدمه د. شوقي ضيف من تعريف يحاول أن يكون مانعاً جامعاً دقيقاً ، إلا أنه كان خلف ذلك يثبت وبشكل آخر عميق أن الأدب لا يزال معنى مراوغاً وملتبساً وعصيًّا على التحديد والتأطير ، ومن ثم فهو ـ علمياً ـ غير موجود ، رغم أننا نراه كما نرى ضوء الشمس ، الفارق الوحيد أننا عندما نرى ضوء الشمس نعرف من خلال خلفياتنا الحياتية وخبراتنا أن هذا الذي نراه هو ضوء الشمس ، أما في حالة الأدب فنحن نعاين ما نحب أن نراه أدباً ، أو ما أسميناه نحن ـ وعلى نحو غير علمي ـ أدباً .
ولنبدأ مع د. شوقي ضيف في تعريفة للأدب ، يقول : " والأدب ـ كما هو ذائع مشهور ـ يُقصد به إلى إثارة الانفعالات في قلوب القراء والسامعين ، ولذلك كان يعتمد على الخيال ، يعتمد عليه في التركيب الكلى لآثاره ، كما يعتمد عليه في عناصره الجزئية " (5) ثم وبعد شرح وتفسير لهذه الجزئية أضاف : " والأديب يؤدى معاني وخواطر وخوالج وأفكاراً ، وهو ما يفرق بينه وبين الموسيقار ، إذ تؤثر فينا الموسيقى مباشرة ، بدون حاجة إلى فهمها، وقد تؤدى ذلك كله ولكننا لا نحتاج إلى معرفة كي نتمتع بها " (6) ثم وبعد شرح وتفسير لهذه الجزئية أضاف : "من أجل ذلك كان الأديب لا يرتبط بحقيقةٍ ، ولا بصدق وكذب ، وليس معنى هذا أن الأدب لا يؤدى حقيقة البتة ، فقد يؤدى بعض الحقائق ، ولكن هذا ليس غايته ، إذ كل ما فيه إنما مشاعر وأحاسيس وعواطف لا تعبر عن حقيقة ولا عن باطل ، ولاعن صدق ولاعن كذب ، وهو ما يفرق بينه وبين العلم " (7)
إلى هنا نتوقف ـ مرحلياً ـ عن الاسترسال مع الدكتور شوقي ضيف في تعريفه للأدب، لنقف معه بشيء من التأمل لهذه الجزئيات التي سقناها لنكتشف إنها انتهت إلى المفارقة مثلما بدأت بالادعاء .
أما عن المفارقة فإن التعريف جرنا إلى نمط أخلاقي : " الصدق والكذب " للتفريق بين العلم والأدب . وإن كان الدكتور شوقي ضيف قد قرر بعد ذلك أن الصدق والكذب إنما هما نمطان أخلاقيان ولا علاقة للأخلاق بالأدب . وإذا كان الأمر كذلك فكيف نسوغ أن ثمة علاقة بين العلم الأخلاق ؟! لنقول : إن 2+2=4 صادقة ومن ثم فهي أخلاقية بدرجة أكبر من 2+2=5 وإذا كان النمط الأخلاقي يهدف إلى ممارسة الوعظ والتربية الخلقية في المجتمع ومن ثم فلا علاقة له بالأدب أو العلم ، فكيف نجعله في الوقت نفسه هو الفيصل بين العلمي والأدبي ؟! هذه هي المفارقة التي أوقعنا فيها الدكتور شوقي ضيف ، أما عن الادعاء فقد بدأت الفقرة بتعريف الأدبي على أنه الكتابة أو المقولة التخيلية أو تلك التي ليست صادقة حرفياً ، لكن أبسط تأمل فيما يضمه الناس تحت عنوان الأدب ، أو ما تضمه الكتب الأكاديمية تحت مسمى أدب ، أو الكتب المدرسية تحت مسمى نصوص أدبية ـ سيكون كافياً للإيحاء بأن تعريف د. شوقي ضيف للأدب ليس كافياً حتى الآن ؛ فالأدب العربي يضم خطبة لقس بن ساعدة إلى قصيدة لامرئ القيس ، لكنه يتسع فيما بعد لينضم إليه القصص القرآني وألف ليلة وليلة ، ورسالة الغفران للمعرى ، والرسائل والإخوانيات على غرار ما كتب عبد الحميد الكاتب ، ثم لينضم إلى ذلك أخبار العرب التي جمعها الأدباء فيما بعد لاسيما " أبو عبيدة " و التي بقيت لنا مادة غراء في شروح نقائض جرير والفرزدق ، زيادة على كتاب الأغاني للأصفهاني يضاف إلى ذلك الأحاديث النبوية بجانب مآثر علىِّ بن أبى طالب ، ثم ليتسع أكثر لينضم إليه ما كتبه بديع الزمان والحريري من مقامات ، يضاف إلى كل ذلك يوميات نائب في الأرياف لتوفيق الحكيم وبعض مقالاته الأخرى في كتاب " فن الأدب " أو ما كتبه في أواخر حياته من مقالات تحت عنوان " حوار مع الله " ، ثم ليضاف إلى ذلك مقالات يوسف إدريس الصحفية تحت عنوان " مفكرتي " إضافة إلى ذلك ما كتبه طه حسين في حديث الأربعاء.
كل هذه التشكيلة التي أثرت جمعها من غير المحتمل أن تقودنا إلى التمييز بين الحقيقة والخيال ، وليس السبب الوحيد أن التمييز نفسه موضوع شك ، بل لأن التعارض بين الصدق التاريخي ، و الصدق الفني لا ينطبق على الكثير منها ، وكثير منها لا يمكن الحكم عليه إن كان حقيقة أم خيالاً بصورة واضحة ، وكثير منها كُتب على أنه حقيقة وقد يقرأ الآن على أنه خيال ، و العكس صحيح ، و التاريخ الأدبي حافل بالكتابات (الحقيقية ) و إن كان قد استبعد كثيرًا من الكتابات الخيالية ، يكفي ـ كما يقول تيرى ايجلتون ـ أن نعرف أن كلمة "راوية " كانت تستخدم لكل من الأحداث الحقيقية و الخيالية لنقف عند مدى التشويش الذي سنصاب به للفصل بين الحقيقي و الخيالي . و يؤكد تيرى ايجلتون ذلك بقوله : " صحيح أن كثير من الأعمال التي تدرس على أنها أدب في المعاهد الأكاديمية قد أنشئت لكي تُقرأ على أنها أدب ، لكنه صحيح أيضا أن الكثير منها ليس كذلك ، فقد تبدأ قطعة من الكتابة حياتها على أنها تاريخ أو فلسفة ثم توضع في مصاف الأدب ، أو قد تبدأ حياتها على أنها أدب ثم تكتسب قيمتها بسبب دلالتها الأركيولوجية (الأثرية ) . بعض النصوص تولد أدبية ، وبعضها تحقيق الأدبية ، و بعضها نضفي عليه الأدبية ، والتنشئة في هذا الصدد قد تكون راجعة إلى أشياء كثيرة غير الميلاد " .(8)
هل لي بعد كل هذا أن أتساءل : ما الأدب ؟ و قد سبق أن نفيت و جوده ، وأرى أن التساؤل لا يزال مشروعاً أمام محاولات تعريفه .
لا أظن أيضاً أن ما قام به الشكلانيون الروس من استثناء المضمون الأدبي ، والتركيز على دراسة الشكل سيحل المعضلة ؛ " فقد بدأوا ينظرون إلى العمل الأدبي على أنه تجميع اعتباطي "للأدوات "بدرجة أو بأخرى ، في وقت لاحق توصلوا إلى هذه الأدوات على أنها عناصر مترابطة فيما بينها أو " وظائف " ضمن نسق نَصيٍّ كلىَّ ... وكان العامل المشترك بين كل هذه العناصر هو تأثير " الإغراب " أو " نزع الألفة " فالشيء النوعي بالنسبة للغة الأدبية ( ما يميزها عن أشكال الخطابات الأخرى ) هو أنها تشوه اللغة العادية بطرق متنوعة " (9) .
الحقيقة أن المقصود بـ " اللغة العادية " يظل مُشْكِلاً ، هل هي لغة الشارع ، أم لغة الصحافة ، أم لغة التلفاز ، أم لغة المسرح التجاري ، أم لغة الفلاسفة ، أم خطباء المساجد ، أم لغة العمال ، أم ماذا ؟ .
من ناحية أخرى إن صفة الإغراب قد تكون نابعة من الموقف الخارجي الذي يوضع النص في سياقه لا من سياق اللغة نفسها . فمثلاً عبارة من عينة : " إنه عبور مرعب " لو قالها شخص ما وهو يشاهد فيلماً تسجيلياً عن عبور الجنود المصريين لقناة السويس يوم 6 أكتوبر لما تضمن استخدامه اللغة هنا أي صفة إغرابية ، في حين أن نفس العبارة لو قالها طبيب نساء وهو يعاين الجروح والتهتكات التي أحدثها عريس بعروسه ليلة الزفاف لكانت إلى حد كبير إغرابية ، وشعرية تماماً بسبب الحيودات التي أحدثتها الجملة عن اللغة الاعتيادية التي من المفترض أن يقولها طبيب النساء ، ليس هذا فحسب بل لأنها انطوت على بعد استعاري يضع العريس موضع الجندي والفرج موضع قناة السويس والعلاقة الحميمة موضع العلاقة العدائية العنيفة ، أو بالمعنى وضعت المستبعد موضع المفترض ومن ثم فهي مدهشة لكسرها لتوقعاتنا.
إذا كان الأمر هكذا ... وإذا كان الجدال يبدأ من اعتبار الأدب عصياً على التحديد والتعريف ، وينتهي إلى أن الأدب لا وجود له ، فكيف يمكن في هذه الحالة أن توجد (نظرية الأدب ) بدورها؟


ناقد بغير خرافة :


في كتابة " قضايا أدبية عامه" يوضح " إيما نويل فريس" الفارق بين النقد والقراءة : " وبدهي القول أن النقد هو ردة فعل على قراءة ، وفى الغالب هو كتابة عن قراءة " وبهذا المعنى فإن النقد يبدأ بالقراءة التي تعنى التأويل . إذن ليس كل قارئ ناقدًا ولكن يمكن أن يتحول إلى ناقد .
وإذا كانت نظريات النقد الأدبي معنية بتأطير أفكار الناقد وتوجيهها وجهة محددة للوصول إلى نتائج محددة فما شأنها إذن بالقارئ المعنى ُّ بتقديم حصيلة وعيه بالنصوص.
قارئ النصوص ليس معنياً بالعلم إن كان الصيد أمام بيته و لا شيء مما يفعله قريب من الاحتراف. وربما هكذا صرح " مونتانى " ( القارئ النموذجي ) ، كما صوره لنا " فاغيه أوألان " (1868 ـ 1951) :" إن مونتانى مهمل ؛ فهو يتسلى بنسخ قصائد الشعراء والتعليق عليها باسترخاء إلى أن تأخذ عقبة ما بتلابيبه ، عند ذاك يصبح حيوياً وشديداً ، فيدهش ، وينفذ . ومن يقر أ مونتانى يسر معه ، ويشعر باندفاع مفاجئ كاندفاعه " (10) إنه نموذج للقارئ الذي يتحرك بحرية ومرونة تسمحان بتأويلات مختلفة ، ربما أنه لاهتمامه بالسياسة والحكمة والحرية قادر على أن يكون ـ على حد تعبير مترجم كتاب إيما نويل فريس (قضايا أدبية عامة ) ـ " مع التغلبيين هو من بكر ، ومع البكريين هو من تغلب " ، هو نقبض القارئ الأكاديمي المحروم من المتعة والحرية الذي يغلق نفسه وربما يقهرها على استقبال وقراءة نصوص بعينها ، ومن ثم يغلق نفسه عليها لأنها تتعلق بموضوع بحثه المزمع . ولنستمع إلى مونتانى وهو يتحدث عن نفسه : " أتمنى أن أفهم الأشياء تماماً ، ولكنني لا أريد أن أشترى هذا الفهم بسعره الغالي ، فخطتي أن أمضى ما تبقى من عمري في الراحة لا في الجهد ، فلا شيء عندي يستحق أن أتعب رأسي لأجله ، حتى العلم ، مهما غلا ثمنه . لا أبحث في الكتاب إلا عن اللذة التي توفرها تسلية شريفة ، وإذا درست فإنني لا أبحث إلا عن العلم الذي يتناول معرفة الذات ويعلمني كيف أموت جيداً ، وكيف أعيش جيداً " (11) .
إن قارئاً مثل مونتانى صالح لإبداء رأيه في النصوص لا من منطلق قراءته للأدب باستقامة ، ولا من خلال انتظام أفكاره في منهج محدد ، بل من خلال ما ترسخ لديه من وعي بعلم النص ، إن معاقرته الدائمة للنصوص بجانب ثقافته المتنوعة وحيويته الدائمة تؤهله للحكم على النصوص ، ومن ثم فهو إلى حدٍ كبير قادر على ممارسة النقد ، هو قارئ نموذجي تحوَّل إلى ناقد ، وهو صورة للناقد الذي يمارس التفسير الذاتي الشخصي المؤهل للحكم على النصوص ، والنظر فيها ، ومن هذه الناحية هو ناقد ، وإن كان بغير حاجة إلى نظرية نقدية تؤطر له أفكاره في إطار ممنهج ،هو ليس في حاجة إلى هذا لسبب بسيط يتعلق بعدم ادعائه بأن ما يقوله علم ، أو يخضع لصفة العلمية . ودعونا نستمع إلى " فولتير " وهو يدافع عن مونتانى ، أمام من اتهموه بأنه لا يفعل سوى التعليق على القدماء : " أي ظلم صارخ أن نقول إن مونتانى لم يفعل سوى التعليق على القدماء ! إنه يستشهد بهم في الوقت المناسب ، وهذا ما لا يفعله المعلقون ، هو يفكر وهؤلاء السادة لا يفكرون، وهو يدعم أفكاره بأفكار كل الأقدمين الكبار ، ويحكم عليهم ويجادلهم ويحادثهم ، ويحادث قارئه ، ويحادث نفسه ، إنه أصيل دائماً في طريقة تقديم الأشياء ، وواسع الخيال ، ومصور ، وما أحبه فيه أنه يعرف دائماً أن يشك " ( 12 )
وإذا كان الشك يؤدى إلى اليقين ، فهو أصل ، وهو منهج للوصول إلى اليقين ومن ثمَّ فإن المنهجة تتحول عند مونتانى إلى طبع ، وإلى تلقائية ، وليس تخطيطاً إجرائياً خارجياً يظل ينظر إليه في الطريق، وإن كان الأحرى أن يقال إن الشك " نتيجة الفعل النقدي ؛ لأن الحكم ـ بحسب المعنى الاشتقاقي لكلمة نقد ـ يفترض أن نفحص ، أن نسأل ، وأن نهتم ، لهذا لا يمكن أن يقوم النقد من دون قراءة وتأويل " (13 ) إن مونتانى ـ إذن ـ نموذج للقارئ الناقد المتفلِّت من الالتزام الشكلي بفكرة المنهج الخاضع لنظرية نقدية ما ، مثل هذا القارئ الناقد هو في حد ذاته كان أساساً لنظريات أدبية كثيرة تنظر إليه وتحلل عمله والكيفية أو الآلية التي يعمل بها مثل نظريات " التخاطب " و " جماليات التقبل " و " التأثير والاتصال " و " نقد استجابة القارئ " ... الخ
إنه نوع من النقاد المفنين ، الخارجين عن الأطر المكبلة لحرياتهم ، وهم لذلك أقرب إلى الأدب باعتباره فنًا ، وباعتباره وليد الحرية ، ربما لذلك هو معنيٌّ بتقبل النص واستكناه أغواره ، قبل أن يكون معنيًّا بخدمة منهج ما ، أو الإخلاص له ، أوـ كما يقول تيرى ايجلتون ـ هو نوع من النقاد الذين ينفرون من فكرة المنهج برمتها " ويفضلون أن يعملوا بواسطة الومضات والإحساسات الباطنة ، بواسطة الحدس والإدراكات المباغتة " ( 14 )
ومع هذا يجب ألا يؤخذ هذا التبرؤ من المنهج بجدية تامة " لأن الومضات والإحساسات الباطنة التي تعتريه ستعتمد على بنية كامنة من الافتراضات تعادل في عنادها بنية أي بنيوي " (15 ) .
كثير من النقاد يعدلون مونتانى في ثقافتهم الموسوعية ، وفى قدرتهم على الفهم والتحليل للنصوص ، وفى نفورهم من المنهج في الوقت نفسه لكنهم إذ يخجلون أمام سلطة الأكاديمية من إعلان تبرئهم من فكرة المنهج يضطرون إلى الإعلان عن تبنيهم للمنهج التكاملي حيث استضافة النصوص وممارسة النظر إليها من جميع الجوانب مستفيدين من جميع المناهج ، ولا أراهم بذلك إلا فارين من الخرافة إلى خرافة أوسع .


( يُتبع )




تابع : حول علمية النقد الأدبي


خرافة المنهج التكاملي :

في بداية حدثيه عن المنهج التكاملي يقول د. شوقي ضيف في كتاب " البحث الأدبي " : وكأن البحث الأدبي أعقد من أن يخضع لمنهج معين ، أو قل إنه لا يمكن أن يحتويه منهج بعينه ، ولذلك كان من الواجب على الباحث أن يفيد من هذه المناهج والدراسات جميعاً ، وهو ما نسميه بالمنهج التكاملي " (16) ثم استعرض بعض المناهج الأدبية لتوضيح مقدار ما يمكن أن نصيبه من كل منهج على حدة ، ومدى ما يمكن أن ينتفع بكل منها في البحث الأدبي وانتهى إلى أن كل هذه المناهج مجتمعة لن تغنى الباحث أو لن تؤهله لبحث جيد ما لم يلتفت الباحث الأدبي من خلال قراءاته للدراسات التأثيرية إلى ما ينبغي عليه من تغذية ذوقه وإعداده للحكم البصير على النماذج الأدبية بحيث تكون انطباعاته عنها انطباعات سليمة ، ثم إن عليه بعد هذا بالدراسات الموضوعية التي من شأنها أن تعمق صلته بالتراث الماضي ... ثم أقرِّ في نهاية حدثيه عن المنهج التكاملي بالقول :" و واضح من كل ما سبق أن الباحث الأدبي الحديث ينبغي أن يستضئ في عمله بكل المناهج و الدراسات السابقة ، إذ لا يكفى منهج واحد ولا دراسة واحدة لكي ينهض بعمله على الوجه الأكمل " (17 ) .
والإشكالية فيما عرضه د. شوقي ضيف ليس فيما عرضه من ضرورة الإلمام بالمناهج النقدية و من ضرورة الثقافة الشاملة المتسعة للناقد ، فهذه أمور بديهية أن يصبح كل ذلك جزءًا من مشروع كبير يمكن أن يسمى ثقافة الناقد ، وهو مشروع لاشك مطرد الاتساع والنمو ، أو هكذا يجب أن يكون .
الإشكالية في كيفية أن تجتمع كل هذه المناهج لدراسة الأثر الأدبي غير أن الإشكالية الثانية أنه جعل اجتماع كل المناهج وتكالبها على الأثر الأدبي ليست مؤهَّلةً للوصول بنا لبحث جيد وانطباعات سليمة ما لم تعززها ثقافة أخرى ، وذوق راقِ ، وكأنها ليست كافية لحد الآن بذاتها !.
يناقش هذه الإشكالية تيرى ايجلتون في كتابه "مقدمة لنظرية الأدب " مبتدئًا بتأمل عدد هذه المناهج المنخرطة في النقد الأدبي حال تكالبها على النص وإمكانية أن تصل مجتمعة إلى شيء ذي قيمة ، يقول : " فَكِّر فقط في عدد المناهج المنخرطة في النقد الأدبي ، فبإمكانك أن تناقش طفولة الشاعر وهى مصابة بالربو ، وأن تفحص استخدامه الغريب للعروض ، وبإمكانك أن تستشف خفيف الحرير من هسيس حروف السين ، أو أن تستكشف فينومينولوجيا القراءة ، أو تربط العمل الأدبي بحالة الصراع الطبقي ، أو تستخلص عدد النُّسخ الذي بيعت منه ...هذه المناهج ليس بينها شيء مشترك له مغزى مهما كان . و في الحقيقة فإنها تشترك بقدر أكبر مع مجالات دراسة أخرى مثل اللغويات والسوسيولوجيا والتاريخ ، إلى آخره أكثر مما تشترك مع بعضها البعض "(18) والإشكالية يجب أن تبدأ فعلاً بالتساؤل : هل هذه المناهج متساوقة بالفعل فيما بينها ؟ .. إنها تبدو متباينة أشد التباين بالنظر إلى الجزر السياسي والاجتماعي و الفلسفي الذي يتحكم في صياغة فرضيات النظريات التي تفرض هذه المناهج أو كما يؤكد تيرى ايجلتون : " ومهما استهدفنا أن نكون متحرري الذهن بأريحية ، فإن محاولة المزج بين البنيوية و الظاهراتية ، والتحليل النفسي من الأرجح أن تقود إلى انهيار عصبي أكثر من أن تقود إلى مهنة أدبية لامعة " (19) يبدو أن الداعين إلى المنهج التكاملي لم يطرحوا على أنفسهم أسئلة من عينة : ما حدود التوفيق بين المناهج ؟ وما عساها تكون طبيعية النظر العلمي أو الفلسفي التي يفترض أنها تعضد هذا المناهج ؟
ثمة من يدعون أنهم أصحاب منهج تكاملي بالفعل ، وأنهم يقدمون من خلالها عملاً تطبيقياً حقيقياً ، لكنما يجب نسألهم إن كانوا متأكدين بالفعل إن كان عملهم ناجحاً أم لا ، أو أنهم بالفعل أصحاب منهج متعدد .
" إن النقاد الذين يتباهون بتعدديتهم قادرون ـ عادة ـ على عمل ذلك لأن المناهج المختلفة التي في أذهانهم ليست في النهاية مختلفة ... ومن ناحية أخرى فإن بعض هذه المناهج ليست مناهج على الإطلاق" (20)



بين مونتاني وسلطة الخطاب النقدى الرائج :


لقد جادلت منذ البداية حول إمكانية قراءة النص دون الحاجة إلى منهج خاضع لنظرية أدبية ، وجادلت فى إمكانيـة أن أكون ممنهجـاَّ دون أن أدرى وأنا أقدم قراءتى لنص " يصطفلوا " كل ما أدريـه أننى لم اتعمـد شيئاً كهذا ، كل ما أدريـه أننى كنت محبّاً لأن أقرأه وكنت محبّاً للنظر فى العلاقـات النحويـة والدلاليـة والقاموسيـة للغـة ولم أكن استشعر عناءً و لاحاجـة لمنهـج يقودنى إلـى " رومــا " النص ، إذا كان الهدف هو الوصول إلى رومـا فإن كل الطرق تؤدى إليهـا ، وعند وصولى إليهـا فلابد أننى سلكت أحد الطرق ، الإشكالية أن كل نظرية أدب تدعى أنها ترسَّم طريقاً جديراً أو أمثل للوصول إلى النص ، وما دمت قاداً على للوصول إلى النص ، ومادمت قادراً على الوصول بنفسى فما حاجتى إذن لمثل هذه الدعاوى أو تلك الطرق ، الإشكالية الثانية أن الجدل تخطى : أىُّ الطرق أمثل أو أفضل ؟ إلى جدلية أخرى : أى الطرق أكثر علمية وقد جادلت حول مفهوم العلمية ، وحول إمكانية أن يكون المنهج هو ما أكسب القراءة الناقدة علميتها .
الإشكالية الثالثة أن كل نظريات الأدب تؤكد وهى ترسِّم الطريقة إلى النص أن عملية الوصول إليه معقدة ، ويرجعون سبب تعقدها إلى النص نفسه باعتباره حاملاً لخطاب يتحرك فى سياق ثقافى كامل، يتصل بصراعات سياقية أخرى اجتماعية ونفسية وتاريخية وسياسية ، وفكرية ، غير أنه خطاب جمالى يعتمد على شبكة من علاقات لغوية ذات مستويات بنائية ودلالية متعددة .
ومع صحة هذا فإن التحليل النصى ليس عملية معقدة بالدرجة التى تجبرنا على التسلح ضد النص و جمالياته بالمنهج ، ذلك لأن أجمل ما فى النص لا يقطره السلاح .. إنها قد تبدو عملية معقدة لا بسبب النص ، ولا بسبب الجهد والوعى اللازمين لاتمامها، بيد أنها قد تبدو معقدة بسبب تعقد شبكة الطرق المزعومة حول النص ، أو بسبب الجدل الدائر حولها ، هكذا يمكن أن يدَّعى آلاف القصابين أن عملية ذبح عصفور عملية معقدة ، فى الوقت الذى يتجادلون فيه حول أيهم أمضى مدية للإجهاز على رقبة العصفور البرئ أصلاً من الجدل ، والذى لم يطلب الذبح فى الأساس ؟! والعمل الوحيد الذى يبدو ذا قيمة فى هذه الحالة أن يتركوه ويمضوا ، طالما أن عملية الذبح تعنى بالنسبة لهم حياة أخرى لهذا العصفور ... هكذا تدعى كل نظريات الأدب أنها تبحث عن حياة أخرى للنص ، إذا كانت قراءة النص تعنى حياة النص ، فهى عملية لا يجب أن تتم بالسلاح ولست مضطراً إلى أكل جثث الموتى تحت شعار " النقد الأدبي ".
لقد جادلت أيضاً حول الأدب وانتهيت إلى أنه حقيقة لا وجود له وبنفس الطريقة يمكننى أن أنتهى إلى أن " نظرية الأدب " لا وجود لها، غير أن الاستنتاج نفسه يمكن أن نصل إليه تأسيساً على ما انتهينا إليه بخصوص الأدب.
فمن المعلوم بداية أن أية نظرية تعرِّف نفسها إما على أساس مناهجها الخاصة للبحث ، أو على أساس الموضوع الخاص الذى يجرى البحث فيه " (21 ) فمن حيث الموضوع الخاص " الأدب " فقد انتهينا إلى عدم وجوده ، ومن ثم فالنقد الأدبى ليس بذى موضوع ، وهذا مبدئياً ضد علميته . " إذا كانت نظرية الأدب نوعاً من " الميتانقد " أو تأملاً نقدياً حول النقد فينتج عن ذلك إذن أنها هى الأخرى لا ـ موضوع " ( 22 )
إن أى تطبيق منهجى يفترض مبدئياً استقرار الموضوع الذى يتحرك عليه المنهج وإذا كان الأدب مفهوماً غير مستقر فعلى أى أساس وجدت نظرية الأدب؟ !
أما المباهاة بالمنهج فإن أى نظرية أدب عندما تبدأ فى المباهاة بمناهجها فإنها فى الحقيقة تباهى بالجذر السياسى والأيديولوجي الذى تحكم فيها ، وصاغ فرضياتها ومن ثم المنهج الحارس أو المدافع عن صحة هذه الفرضيات .
الإشكالية أن نظريات الأدب تتناسى ذلك " بسبب العمى الذى تقدم به مذاهب صدق يفترض أنها " تقنية " أو " واضحة بذاتها " أو " علمية " أو " شاملة " بينما يمكن بقليل من التأمل أن نرى أنها ترتبط بمصالح معينة لمجموعة معينة من الناس فى أوقات معينة ، وتدعمها " ( 23 )
ربما يتعين علينا فى هذا الصدد أن نفحص ما ينتجه كثير من النقاد لا لنرى ما فيه من علمية ، ولكن لنشتم فيه رائحة المذاهب . هؤلاء المذهبيون لا يهتمون بالنص الأدبى بوصفه نصاً أدبياً ، بل بما يسمونه المضمون الذى يتفق إلى حد كبير مع توجهاتهم المذهبية ، ومن ثم فهم يهللون ، ومن ثم فهو نصٌّ جيد ، لكأن النص الأدبى يبنى من أفكار لا من كلمات ! " ويعد من هذه الفئة كذلك النقاد الذين يهتمون بالتحليل النفسى لأنهم لا يهتمون بتحليل النص بوصفه بناءً فنياً ، بل يهتمون بالإشارات التى تساعدهم على تحقيق الغرض النفسى الذى يزعمونه " (24 ) هو نوع من الإخلاص للمنهج إذن أكثر مما هو إخلاص للنص الأدبى . " يمكن أن نعد من هذه الفئة المذهبية كل من ينظر إلى القصيدة على أنها تعبير عن موقف سياسي ، أو حالة اجتماعية ، لأن هولاء جميعاً . لايهتمون ببنية النص اللغوية ، بل بما فيه من " أفكار " تحقق لهم ما يريدون " (25) إذا كان هذا هو رأى د . محمد حماسة عبد اللطيف أستاذ اللغويات بكلية دار العلوم بالقاهرة ، فإنه رأى يعزز أن كل نظريات الأدب مذهبية لأنها منغمسة بعمى فى هذا الموقف السياسى و الأيديولوجي . " إن تاريخ نظرية الأدب الحديثة جزء من التاريخ السياسى الأيديولوجي لعصرنا ، فمنذ بيرسى بيشى شيللى إلى نورمان .هولاند ، كانت نظرية الأدب مرتبطة بشكل لاينفصم بالمعتقدات السياسية والقيم الأيديولوجية " (26) ويذهب تيرى إيجلتون إلى أن نظرية أدب خالصة أو بريئة من الاشتباك بالسياسة أو الأيديولوجيا إنما هى خرافة أكاديمية .
ربما لهذا وأمام أمر كهذا لن نلوم نظرية الأدب لأنها مشتبكة أو منخرطة فى قضايا مذهبية وسياسية،وإنما اللوم لما تدعيه من علمية فوق هذا .
وربما من الآن لسنا بحاجة إلى النظرفي الدراسات الأدبية الأكاديمية لنرى أيها أكثر منهجية من الأخرى؟ ومن ثم أيها أكثر علمية ؟ لأن البحث عن إجابة مقنعة لهذا التساؤل سيقودنا حتماً إلى التساؤل الموازى : أيها أكثر اقتراباً من الخرافة ؟ وأرجو ألا يسألنى سائل عن مفهوم " الخرافة لأننى سأضطر لأن أسأله عن مفهوم " العلم " وكلاهما مفهومان ملتبسان ومتداخلان على الأقل فى الدراسات الأدبية ، السؤال المقبول هنا : أى هذه الدراسات كان مخلصاً للمنهج ؟ وأيها كان مخلصاً للنص ؟ أو بالمعنى : أيها امتطى النص لصالح المنهج ، ومن ثم لم يكن معنياً بالوصول إلى النص ، بقدر ما كان معنياً بالوصول بالنص ؟!
يمكننى أن أنظر إلى ماكتبه العقاد ـ مثلا ـ عن أبى نواس ، على أنها دراسة ممنهجة ، تنهل من نظريات نفسية متخصصة دقيقة " وقد ذهب فيها إلى أن النواسى تحركه النرجسية التى كان من طوابعها توثين الذات ، واشتهاؤها ، وحب العرض ، وطفق العقاد يحلل شخصية أبى نواس فى ضوء هذا التصور المستعار من علم الأمراض ، ويرى شعره كذلك " (27)
العقاد ـ ومن أسف ـ كان فى بحثه منتحلاً لدور طبيب نفسى، ولم يكن ناقداً أدبياً . وهكذا شاء حظ النص التعس أن يسترخى على " الشازلونج " فى العيادة . ولقد اعترض طه حسين على تناول العقاد لأبى نواس ، وربما كان الإعتراض وجيهاً فقد " رأى فى منهج العقاد إسرافاً فى المصطلح النفسى لا يلائم الشعر " (28 ) . وثمة كتابات أخرى كثيرة كانت أكثر تطرفاً فى ا متطاء النص لصالح المنهج لكأنها تحاول أن تؤصل من جديد لصحة الفرضيات النظرية من خلال النص مثل كتاب حامد الأبراشى ( علم النفس الأدبى ) ومقال أمين الخولى عن البلاغة وعلم النفس ، ودراسات مصطفى سويف عن سيكولوجية الإبداع الفنى ، لذلك لو سألنى أحد عما إذا كانت هذه الدراسات علمية أم لا ، سأسأله بالضرورة عن الإطار الذى يسأل من خلاله ، فقد تكون هذه الدراسات علمية ، وقد لا تكون، ولكن فى إطار علم النفس وليس فى إطار النقد الأدبى . صحيح أن العقاد اضطر إلى تحليل شعر أبى نواس والنظر فيه ، ولكن لم يكن أمامه غير هذا ليجرى فحوصاته الطبية النفسية على أبى نواس الذى شبع موتاً،وهكذا كان تحليل النص وسيلة،ولم يكن غاية،ومن ثم فأى سؤال عن كتابة العقاد عن شعر أبى نواس يجب أن يكون حول الغاية قبل أن يكون حول الوسيلة .
وعموماً فإن النقد الأدبى التحليلى النفسى لا يقدم أكثر من تقارير تحليلية ـ نفسية عن المؤلف نفسه كما يتبدى فى عمله ، أو يفحص أعراض اللاوعى فى الفن كما يفعل المرء فى حياته ، وهو فى كل ينظر إلى الفنان بصفته عصابياً بيد أن " مادية " العمل الفنى ذاته ، وتكوينه الشكلى النوعى يظل مغفلاً .
بالكيفية ذاتها التى ناقشت بها نظريات النقد الأدبى التى تعتمد على مناهج علم النفس ومصطلحاته يمكننى أن أناقش حول كافة النظريات الأخرى التى تفوح منها المذهبية أو تلك التى نبتت فى النشع الأيديولوجى والسياسى أو تلك التى تحاول أن تتجنب الاشتباك السياسى والأيديولوجى فأثبتت بشكل أو بآخر أنها سياسية بسبب تواطئها هذا . وأرى أن فعلاً كهذا لن يبعد كثيراً عن عناد تيرى ايجلتون ضد نظرية الأدب فى كتابه " مقدمة لنظرية الأدب " الذى أكد فيه أن كل نظريات الأدب مغرضة ، ولا واعية ، ومنغمسة بعمى فى السياسة والأيديولوجيا ، ولاعلمية . ربما أننا سنحيد عن الدعوة الأخيرة التى دعا إليها فى نهاية كتابه والتى تنحصر فى العودة إلى أقدم شكل للنقد الأدبى فى العالم وهو البلاغة " فالبلاغة التى كانت الشكل المتوارث للتحليل النقدى طوال الفترة الممتدة من المجتمع القديم ، وحتى القرن الثامن عشر ، تفحص الطريقة التى تُبنى بها الخطابات لكى تحقق تأثيرات معينة ، لم يكن يقلقها أن تكون موضوعات بحثها هى الكلام أو الكتابة ، الشعر ، أو الفلسفة ، فن القصة أو علم كتابة التاريخ ، فلم يكن أفقها أقل من مجالات ممارسات الخطاب فى المجتمع ككل " (29) وقد اعترف" تيرى ايجلتون" أن موقفة هذا تقليدى تماماً ، غير أنه لم يمانع من أن يكون تقليدياً أمام نزاهة الهدف " فأنا أود أن أستعيد النقد الأدبى من طرق تفكير رائجة ، مبتدعة ، أغوت الأدب بوصفة قابلاً للانفصال عن المحددات الاجتماعية ، وما إلى ذلك ، وأن أعيده إلى الدروب القديمة التى هجرها " (30) وفى فقرة احترازية يقول: " ورغم أن قضيتى تكون بذلك رجعية ، فلست أعنى أننا يجب أن نعيد إحياء كل المصطلحات البلاغية القديمة ونحلها محل اللغة النقدية الحديثة ، لسنا بحاجة إلى عمل ذلك ، إذ أن هناك من المفاهيم المتضمنة فى نظريات الأدب التى فحصناها فى هذا الكتاب ما يكفى للسماح لنا بعمل بداية على الأقل " (31) إذن دعوة تيرى إيجلتون لم تستثن ِ نظريات الأدب من مشروعه ، كما أنها لاتعنى العودة إلى البلاغة التقليدية لتحل محل الخطاب النقدى الحديث ، وإنما هى دعوة إلى البدء فى مشروع خطاب جديد أساسه البلاغة غير أنه خطاب متسع ومتسامح يستوعب بداخله ما يدعمه من النظريات الأدبية الحديثة ، وربما هذا ما يؤكده قوله : " فالبلاغة أو نظرية الخطاب ـ كما أسماها ـ تشارك النزعة الشكلية ، والبنيوية ، والسيميوطيقا اهتماماً بالأدوات الشكلية للغة ، لكنها مثل نظرية التلقى تهتم أيضاً بالكيفية التى تكون بها هذه الأدوات فعالة فعلاً عند نقطة الاستهلاك .....(32) إن كنت قد استعنت بآراء تيرى ايجلتون على طول الطريق ، فإننى لا أود أن أنتهى إلى ما انتهى إليه وقد كنت بصحبة مونتانى فى الطريق ، وإن كنت قد التقي مع تيرى ايجلتون فى كل السهام المشتركة أو المتساوقة نحو نظرية الأدب فلم يكن ذلك إلا لدحض ما يمكن أن يسمى بعلمية النقد على نحوما يتمنطق الأكاديميون، ونفى صحة أن يكون المنهج النقدى هو سبب علمية النقد . وقد تلاقيت معه فى أن الذين يدعون أنهم يقرأون الأدب بمنهجية واضحة لا يجب أن يَسمِوا نتاجهم بوسم العلمية ، كما لا يجب أن يطمحوا إلى ذلك ؛ لان ما يفعلونه هو على وجه الدقة نوع من قراءة الأدب باستقامة لا تتناسب وطبيعة الأدب ، أما صفة العليمة فإنها فى النقد الأدبى ـ تحديداً ـ ستظل وهماً يجب ألا ننساق إليه ، فالمعروف أن أى كيان نظري مهتم بالمعنى ، والقيمة ، واللغة ، والشعور ، والخبرة الإنسانية سينخرط حتماً فى معتقدات أوسع ، وأعمق عن طبيعة الأفراد والمجتمعات ... عن مشكلات السلطة والنشاط الجنسى ، عن تفسيرات التاريخ الماضى ، وتنويعات الحاضر ، والآمال فى المستقبل ، ومن ثم ـ وكما سبق القول : ـ إن الادعاء بأن ثمة نظرية أدب خالصة ( بريئة ) من الاشتباك بالمشكلات السياسية والأيديولوجية سيظل إدعاء يدحضه تاريخ نظرية الأدب الحديثة ، الذى هو جزء من التاريخ السياسي والأيديولوجي لعصرنا.
أما ما أريد أن أنتهى إليه فعلاً فهو " مونتانى " هذا القارئ النموذجي الجميل للأدب والمؤهل لإبداء رأيه فى النصوص و الذى لم يدَّعِ فى الوقت ذاته أن مايقوله علمىّ ، لا لأنه لم يكن ممنهجاً وهو المالك لكل النظريات النقدية بمناهجها المختلفة والمتنوعة ... كان مالكاً لها بالفعل كجزء من ثقافته ؛ لكنما لم يقل إن قراءاته علمية لأنه لم يسع إلى ذلك فى الأساس ، فى الوقت الذى كان يسعى إلى امتلاك حريته كاملة كالنحلة التى تسعى إلى استخلاص الرحيق دون أن تكون معينة بترسيم الطريق أو الطريقة التى ستتنقل بها من زهرة إلى أخرى.
إن إشكالية ترسيم الطريق ليست فى لاجدواها وحسب ، وليس لأنها فقط ضد حرية مونتانى ،بل لأنها ضد وعيه فى الأساس .
فمونتانى ربما لايريد أن يخدع وعيه عندما أعطى ظهره لكل هذا الركام التنظيرى والمنهجى ربما لأنه تساءل مبدئياً : أيها أكثر علمية من الأخرى أو بالأحرى تساءل أيها سيجعل لما أقول قيمة أكثر ؟!ولأن الإجابة تبدو مستحيلة ، قرر إعطاء ظهره لكل هذا الركام ليدخل إلى النص متسلحاً بوعيه وحريته لا ليشهر سلاحاً ما فى وجه النص ، بل ليعقد معه صلات حميمة ، إنها مسألة استضافة إذن تنطوى على رغبة أكيدة فى فعل شئ من قبيل السياحة الجمالية ، ومن خلال هذه العلاقة التى قد تطول أو تقصر يعطى كل من النص الأدبى ومونتانى نفسه للآخر ، ومن ثم تتحدد نقاط المداخلة ، كل منهما يدخل إلى الآخر حتى يلتقيا فى مساحة مشتركة من الاتفاق التام والتكشف الحقيقى ، وهنالك يبدأ مونتانى كتابة ما يمليه عليه النص نفسه ، لكأن النص يختار قارئه ، ويحدد له استراتيجية ما للكتابة . وهكذا نصل إلى ما يمكن أن نسميه استراتيجية الخطاب النقدى ، وهى استراتيجية غير محددة سلفاً ومن الخطأ أن يُتخذ بشأنها قرار مسبق . كما أنه من الخطأ الفادح أن تبدأ من خارج النص ، كأن يقرر الناقد البدء فى ممارسة عمله على هذا النص أو تلك النصوص من منطلق مشكلات نظرية أو منهجية معينة . أو الوقوف طويلاً أمام أى المناهج والنظريات يمكن أن تساعده على تحقيق غايته بأفضل ما يمكن ، شئ من هذا يمكن أن يحدث لو أهملنا سلطة النص نفسه ، وانشغلنا بتحديد موضوع الدراسة .
تماماً .. وهنالك يبدو النص كعروس اخترنا لها عريساً ، وجهزنا لها جهازها واخترنا لها مسكنها ورتبنا أثاثه وفرشنا بساطه ، ثم عقدنا قرانها ، من دون رأى منها ، وحددنا إقامتها مع عريس لم تكن قد رأته من قبل . شيء مثل هذا يحدث بشأن الاستراتيجيات المفروضة التى لا تتسم بالإنسانية ( جوهر الأدب ) ولا بالديمقراطية ( جوهر العلاقة بين القارئ والنص ) ولا بالحرية ( جوهر البحث ) .. الأفدح من هذا كله أن شيئاً كهذا يوسم بالعلمية ! . لكأن مونتانى هو إذن صاحب نظرية اللا نظرية ؟ ! .


نظرية اللا نظرية :


نظرية اللا نظرية إذن ليست إطاراً نظرياً متفلتاً من أطر نظرية أخرى ، أو هارباً منها . كما أنها ليست دعوة لهجر نظريات الأدب أو نظريات النقد الأدبى لتأسيس نظرية أخرى جديدة ، وليست دعوة للتخلى عن المنهجية لتأسيس منهج جديد .
إنه موقف عملى ـ بالدرجة الأولى ـ يؤكد على القدرة ـ أو إمكانيتها ـ على السياحة الجمالية فى عالم النصوص الأدبية دون أطر منهجية مسبقة مقيدة لحرية الناقد وتأباها طبيعة النصوص الأدبية نفسها . إنه موقف يؤكد أيضاً على القدرة أو إمكانيتها على إبداء بعض الأحكام المبررة فى النصوص ومن دون أن تكون مُلْزِمَةً بعلميتها أو إدعاء ذلك .
وأدواته ما يمتلكها مونتانى فى شخصه : الحرية ـ الوعى ـ الرغبة فى السياحة الجمالية فى عالم النصوص وعقد صلات حميمة معه . هى ليست أسلحة إذن وإن قيل إنها أدوات غير عملية ، هذا لا يهم من حيث المبدأ ، لأن كافة الأدوات العملية فيما سينتج عنها من استراتيجيات يحددها الناقد والنص معاً . نقول استراتيجيات ولا نقول منهجاً وثمة فارق . فالإستراتيجية تنطوى على خطة سرية ، غير معلنة بالضرورة لأنها لاتهم أحداً غير الناقد نفسه . كما تنطوى على توجيه سرى ـ أيضاً ـ يتوالى تدريجياً فى لحظة الممارسة النقدية ، كما تنطوى على سلمات ( ولا أقول مسلمات ) بنائية ، وشبكة من العلاقات ، والاستنتاجات التى يجسدها بشكل فعلى النص النقدى ( المنتج النقدى ) .. ألم أقل إنه موقف عملى ؟ !
قد يرى البعض أنه موقف غير مبرأ من الأيديولوجيا ، فكل هذا الجدل والعناد ضد نظرية الأدب لن يتأتى بغير جذر أيديولوجى ، هذا صحيح .. وقد يرى البعض أنه موقف غير مبرر من التسييس الباحث عن التفلت من أى خطاب نقدى سلطوى ، هذا صحيح أيضاً ، لكن ذلك لن يشكل حرجاً أو حتى دحوضاً يذكر لأن موقفنا لا يتمسك بأهداب العلمية .
قد يرى البعض أنه موقف غير مبرأ من الخرافة أن يكون الانسان ممتلكاً لحريته بشكل كامل ، هذا صحيح لكنها خرافة ألذ بكثير من الخرافة الأكاديمية لأنها تتيح لنا ـ علي الأقل ـ أن نفعل ما نريد بالطريقة التى نريد .
قد يرى البعض أنه موقف غير مبرأ من نظرية الأدب ، لأن كلمة " الوعى " بالنص الأدبى تعنى ضمنياً الوعى بنظريات الأدب التى أُنشئت حوله .. هذا صحيح أيضاً ، فليس بمقدورنا أن نزيِّف وعينا ، ولكن بمقدورنا أن نتجنب الجيران السيئين . قد يرى البعض أنه موقف ليس بجديد ، هذا لا يهم أيضاً فما يعنينا التأكيد وليس الجدة . إنه موقف ينطوى على كثير مباهاة بامتلاك جوهر النص ، ومن ثم على كل نظريات النقد أن تغبطنا على امتلاكنا ما ليس لديها بالفعل ، أو ليغبطنا النقاد الأكاديميون ، حرَّاس الخطاب النقدى السلطوى ، الذين يسيرون فوق قضيبين ... تماماً كالقاطرة البخارية التى تتجه من الشمال إلى الجنوب يبحثون عن النص الذى يتجه من الشرق إلى الغرب ، يجب أن يغبطونا لا لشئ إلا لأننا نمتلك خرافة ألذ .
لم يكن مونتانى ـ حقيقة ـ بحاجة لأكثر من وعيه بالنصوص ، وبحساسيته الخاصة تجاهها ، وباستعداده لاستضافتها فترة تكفيه للمعاشرة الحقيقية التى تؤهله للنظر فيها من جميع الأوجه ، واكتشاف ما فيها من ممكنات جمالية لم يكن بحاجة إلى علمية النقد أو علمنته ، لأنه كان يعلم أن شيئاًً كهذا سيقيم الاشتراطات على حدوسه ، ويجعله بشكل ما يشم الوردة بأم رأسه ، وأن ينظر إليها تحت المجهر . لم يكن بحاجة إلى منهج يفرض عليه أن يحصى عدد الريش الأحمر مقارنة بعدد الريش الأسود ، ومدى تناسب عددهما مع طول ذيل ورأس الطاووس!
القراءة الأدبية ليست عملية معاينة مجهرية أو إحصائية ... إنها عملية تأويل وتأمل وتحليل تعتمد على حدوس الناقد القارئ ووعيه بجملة الأعراف والتقاليد الأدبية اللازمة لتفسير النص ، وهى راجعة فى جانب كبير منها إلى النصوص الأخرى التى ينتمى النص الأدبى إلى جنسها . هكذا إذا أراد الناقد أن ينظر خارج النص ، وليس خارج النص غير النص نفسه ، وربما أن فكرة التناص أتت من هنا . فلايوجد نص فى الحقيقة ـ كما ذهبت كرستيفا ـ حُرُُّ من النصوص الأخرى التى يقوم بينها حوار لا ينتهى، سواء فى الحقبة الواحدة ، أو الحقب المتعاقبة .
النص بهذا المعنى هو تحويل عن نص / نصوص أخرى ، لذلك كان التناص أو كمون النصوص ببعضها يشكل إطاراً مرجعياً مهماً يعين على تفسير النصوص ... ألم أقل : لاشئ خارج النص غير النص نفسه ؟!.
إذا كان من علمية يباهى بها مونتانى حقيقة فهى ليست علمية ما يقدمه بل علمية ما يدشنه فى الفِناء ، والفِناء ملئ بعلم النص ، وعلم النص لا يتبرأ من علم البلاغة ، كما أنه لا يتبرأ من علم اللغة ، وهكذا فإن مونتانى يباهى بما تملكه نظريات النقد مع اختلاف التوجه



الهوامش :

( 1 ) د. عبد الله أحمد بن عتو ــ مشكل المنهج في قراءة بعض الكتابات المنقبية بالمغرب ــ عالم الفكر ــ المجلد 25 ـ العدد الثانى سنة 1996م . صــ237
(2) تيرى ايجلتون ــ مقدمة نظرية الأدب ( مترجم ) ـ كتابات نقدية (11) ـ الهيئة العمة لقصور الثقافة ـ مصر . صـــ12
(3) أ. وارين وهـ . ويليك ـ نظرية الأدب ( مترجم) ط . المجلس الأعلى لرعاية الفنون ـ المغرب ـ صــ19ـ22
(4) د. شوقى ضيف ــ البحث الأدبي ـ طبعة دار المعارف ــ مصر .صــ9
(5) السابق صــ9
(6) السابق صــ11
(7 ) السابق ص 12
(8) تيرى ايجلتون ـ مرجع سابق صــ20
(9) السابق صـ24
(10) ايمانويل فريس ـ قضايا أدبية عامة ( مترجم) ـ سلسلة عالم المعرفة ـ العدد 300 / فيراير سنة2004م صــ156
(11) السابق صــ157
(12) السابق صــ160
(13) السابق صــ160
(14) تيرى ايجلتون ـ مرجع سابق صـــ235
(15) السابق صـــ236
(16) السابق صــ234
(17) شوقى ضيف ـ مرجع سابق صـ144
(18) تيرى إيجلتون ـ مرجع سايق ص 235
(19) السابق صــ234
(20) السابق صــ235
(21) السابق صــ232
( 22 ) السابق صـ 235
( 23 ) السابق صـ 238
(24) د. محمد حماسة عبد اللطيف - منهج في التحليل النصي للفصيدة - فصول ( المجلد 15 العدد 2 / 1996 ) صـ10
(25) السابق صـ110
(26) تيرى ايجلتون ـ مرجع سابق صـــ232
(27 ) مجدي أحمد توفيق – مدخل إلى علم القراءة – كتابات نقدية ( 34 ) إصدارات الهيئة العامة لقصور الثقافة ( مصر ) صـ108 .
(28 ) السابق صـ 108
(29) تيرى ايجلتون ـ مرجع سابق صـــ244
(30 ) السابق صـ 244
(31) السابق صـ 244
(32) السابق صـ 244.
**************