عبد الستار قاسم


أتابع أدبيات عربية كثيرة من مقالات سياسية وتحليلات ولقاءات إعلامية وبرامج حوارية ووثائقية على عدد من الشاشات العربية والفلسطينية بالتحديد وأحاول أن أجد في داخلها ما يعزز الإصرار العربي على النهوض والتقدم وتغيير الأوضاع الداخلية والخارجية بإرادة ذاتية وبالكاد أجد. وفي هذه المرحلة بالذات التي تشهد المزيد من الانهيار العربي والخنوع والقبول بالذل والهوان، تنشط وسائل إعلام كثيرة سواء تلك التي تؤيد برنامج المقاومة أو التي تؤيد برامج الاستسلام والهزيمة والتبعية، ولا أجد الكثير من الفروقات في تناول مواضيع وقضايا الأمة العربية وعلى راسها القضية الفلسطينية. وينشط كذلك كتاب ومفكرون ومثقفون عساهم يجدون من يستمع لآرائهم وجدلياتهم.


أغلب وسائل الإعلام العربية على اختلاف توجهاتها تهرب إلى حد كبير من مواجهة الحقيقة ونشرها صراحة على الجمهور. وهذا متوقع بسبب قمع الأنظمة العربية وسطوة الأجهزة الإعلامية العربية على الجمهور العربي ووسائل الإعلام. لكن المشكلة أن الهروب يشمل مواضيع لا تسبب ملاحقة قمعية من قبل أنظمة العرب. ربما يستاؤون من طرحها، لكنها ليست ذات حساسية كبيرة للأجهزة الأمنية التسلطية.


الآن يحتدم الجدل الإعلامي حول سياسات ترامب الداخلية والخارجية وتأثيرها على الأوضاع العربية، وكذلك الأمر بالنسبة لرئيس وزراء الكيان الصهيوني. والتركيز الإعلامي يذهب إلى مآزق ترامب ونتنياهو، وكيف يدير الاثنان سياساتهما من أجل تحقيق مصالح شخصية انتخابية أو تملصيه من تهم فساد ورعونة وإساءة إئتمان. هذا هروب كبير ولا يفيدنا بشيء. وبدل أن تتناول وسائل الإعلام مآزقنا نحن، وأخطاءنا وطرق الخروج من أزماتنا، والبحث عن المسؤولين عن إخفاقاتنا، ننشغل بتقصيرات الغير في مسائل تهمهم ولا تهمنا. ماذا يهمني أنا كعربي إذا حمل نتنياهو غسيله الوسخ إلى واشنطن، وماذا سأنجز أنا بعد أن أعرف ذلك؟ وماذا يهمني إذا بنى ترامب جدارا بينه وبين المكسيك أو لم يفعل. جيد أن أعرف، لكن معرفتي هذه لن تقدم ولن تؤخر في معالجة قضاياي والتي تغرقني الأزمات المترتبة عليها. دائما ينشغل الإعلام العربي بتذكيرنا بانتصارات الغير علينا، ويسهبون في تفصيل المؤامرات التي يحيكونها ضدنا، وهي ليست بالحقيقة مؤامرات وإنما نجاحات لسياساتهم ضدنا، وتذكرنا بأساليبنا العقيمة المحصورة بالاستنكارات والإدانات، والسباب والشتائم. ودائما يطرح الإعلام السؤال حول أسباب سياساتهم المستهترة بالعرب، ولا يتم طرح السؤال لماذا نحن منهارون، ولماذا لا نتحرك ثأرا لأنفسنا من أنفسنا.


شغلنا الإعلام العربي بكثافة بإصابة ترامب بفايراس كورونا، وتصدر الخبر نشرات الأخبار العربية، دون أن تذكر هذه الوسائل كيف تساهم إصابته بعلاج مشاكلنا وعمومنا. موضوع يستحق الذكر ولا يستحق الإسهاب والإطالة.


وفي هذه الفترة القصيرة، ينشغل الإعلام العربي كثيرا بوفاة عضوة المحكمة العليا في أمريكا، وفي الشجار الدائر بين الديمقراطيين والجمهوريين بمسألة تعيين بديل. كيف ستنعكس هذه القصة على نهب الثروات العربية، أو على مجريات القضية الفلسطينية، أو على سد النهضة، أو على تشكيل الحكومة في لبنان، أو على انقطاع المياه عن الحسكة. أزماتنا ومشاكلنا في واد، ونشاطات الإعلام في كثير من الأحيان في واد آخر بعيد. وأكاد أجزم أن العربي يسمع أخبارا عن الولايات المتحدة في الإعلام العربي أكثر مما يسمع الأمريكي عن أخبار بلاده من الإعلام الأمريكي. يوميا هناك قصف إعلامي عربي على المواطن العربي بما يتعلق بتطورات الانتخابات الأمريكية، وحتى أن الأمريكيين الذين يزورون بلادنا يستغربون من هذا التركيز العربي على أخبار نتنياهو وترامب.


والمؤسف أن هذا التركيز في مخاطبة العقل العربي ينسحب على الحكومات وعلى العديد من الكتاب والمفكرين والمثقفين العرب. هناك مقالات وتحليلات كثيرة جدا تظهر في الصحف والمجلات العربية حول شؤون غيرنا من الذين يمارسون النصر علينا، وهي لا تقدم ولا تؤخر بالنسبة للعربي.


المتتبع لقضايا الفكر والحكم يلاحظ بدون عناء كيف يصدر أهل الغرب لنا مصطلحاتهم وأفكارهم المتنوعة، وكيف نتلقفها نحن بسرعة ونبني عليها الكثير من البله وضيق الأفق. فمثلا، قدم لنا أهل الغرب مصطلح خريطة الطريق فأخذنا نتفاخر بأننا نضع خرائط طرق لحل مختلف قضايانا. وقدم أهل الغرب فكرة حل الدولتين فسارع الإعلام العربي والحكام إلى التغني بها في كافة المحافل. وقدم الغرب مصطلح الشفافية والحكم الرشيد والديمقراطية لتصبح جزءا من تفكيرنا، ونحن لسنا شفافين ولا ديمقراطيين والرشادة بعيدة عنا. عقدة النقص التي نعاني منها تدفعنا إلى الاحتفال بمصطلحات الغير وطرق تفكيرهم. صاغ أهل الغرب مصطلح الربيع العربي، وقلنا لهم لا تسمونه الربيع بل الحراك لأننا لا نعرف النتائج، لكن مصطلح أهل الغرب الخاطئ أصبح ابن الإعلام، أما عقدة النقص فألقت بالمفهوم العربي في القمامة. وهذا يعني أننا نستسلم للاستعمار الفكري. وإذا كنا مستعمرين فكريا فإننا مستعمرون في كافة مجالات حياتنا.


أنا كعربي، يهمني أمران أساسيان وهما معرفة المقصرين الذين خذلوا قضايا الأمة، وصياغة طروحات وبرامج للخروج من أزماتنا. أدبياتنا تبتعد كثيرا عن تحميل المسؤولية إلا ما ندر، وفي الغالب يكون التحميل سياسيا وليس أخلاقيا. يجب أن يعرف العرب الحقائق عن المقصرين والفاسدين واللصوص والنصابين والمختلسين والخائنين للأمانة، وأن يعرفوا كيفية التخلص منهم وتهشيم عظامهم. ولذلك يهمني استضافة خبراء ومختصين ورواد فكر وعلم ومعرفة من أجل تنوير الناس. وبدل إضاعة الوقت في شتم ترامب ونتنياهو، من المفروض توفيره لمعرفة آراء اصحاب العلم والمعرفة والتخطيط الاستراتيجي وبراعة القيادة التي تنتهي جهودها بإنجازات حقيقية ملموسة. وبدل الحديث عن غسيل نتنياهو، يهمني أن أعرف كيف أعزز الفساد داخل الكيان الصهيوني، وأشجع الانقسامات الاجتماعية وأبذر بذور الشرذمة السياسية لأضعفهم. هم يعملون على إضعافنا باستمرار ولا ينشغلون بغسيلنا القذر كثيرا لأنهم أحد أسبابه.


وبدل الحديث المطول عن ترامب، يهمني أن أعي وأعرف كيف أقلب الطاولة على رأسه في منطقتنا من الناحية الديبلوماسية على الأقل. المفروض أن أستمع لمختصين يشرحون استراتيجية التخلص من الهيمنة الأمريكية، وسطوة أمريكا على الثروات العربية. أي أن وظيفة الأدبيات والإعلام والمحاضرات يجب أن تتوجه إلى كيف نعالج قضايانا ونحقق النصر، لا أن تبقى في دائرة البحث عن مؤامرات الغير ضدنا. إذا كانوا يتآمرون وهم ذلك يفعلون، علينا أن نتعلم كيف نتآمر ونرد الصاع صاعين. وإلا فإن أدبياتنا تبقى في دائرة الترهات التي تنقلب علينا، وتبقى عبئا علينا وليس رصيدا لنا.