ظمئَ الشَّرقُ

سامي مروان مبيّض

السيدة فيروز فوق كل اعتبار، ولا يجب إقحامها بترهات السياسة ودهاليزها. لنا حصة بها نحن كسوريون، لا شك، لأننا كنا دوماً وعبر الأجيال من عشاق صوتها الملائكي، وقد ارتبط اسمها بمعرض دمشق الدولي في أيامه الذهبية، وتربينا جميعاً على أغنياتها، العاطفية منها والوطنية. ولكن، لا يحق لنا التدخل بشؤونها، فهي حرّة بأن تستقبل من تشاء ومتى تشاء.

فيروز جزء لا يتجزء عن ذاكرة سورية. فقد دخلت مدينة دمشق وهي طفلة صغيرة في مطلع الخمسينيات، عند دعوتها من قبل مدير الإذاعة في حينها أحمد عسة لإحياء حفل أمام الرئيس أديب الشيشكلي ومعها فرقة نُحاسيات، وهي تغني شعراً لشاعر حلب عمر أبو ريشة. لشدة ارتباكها يومها، كتبت الكلام على قصاصة ورق ولم تحفظه.

كان الجمهور السوري يعرفها جيداً عبر إذاعة دمشق، منذ أن تم اكتشاف صوتها العذب من قبل الدكتور صباح قباني، يوم كان مديراً للبرامج قبل أن يصبح مديراً للتلفزيون، وخصص بثاً خاصاً لها في صباح كل يوم، تحوّل إلى عرف مُقدس حتى يومنا هذا. ظلّت فيروز حاضرة في كل أمسيات معرض دمشق الدولي، غناءً منفرداً أو عبر مسرحياتها الغنائية، من عام 1960 وحتى 1977. غابت مرة واحدة فقط عام 1965 بسبب حملها بابنتها ريما، وعادت إلى بصرى الشام في الثمانينيات ومن ثم إلى دار الاوبرا سنة 2008.

في الستينيات، كان صوتها القادم من أرض المعرض يمتد على طول نهر بردى، من جوار التكية السليمانية ومتحف دمشق الوطني وصولاً إلى مطعم الشرق الملاصق لمسرح المعرض. من يذكرها يذكر بحيرة البط الشهيرة ونوافير المياه الملونة، وأعمدة إنارة نيون أبيض ومكبرات صوت ضخمة وزعت على كافة أرجاء أرض المعرض. تم ربطها بإذاعة المعرض وكانت تنقل كل الفعاليات، وتنادي على أهالي الأطفال المفقودين، مع شرح أوصافهم وملابسهم، وتبث أغاني فيروز عند المغيب وأم كلثوم في المساء وحتى منتصف الليل. كما أقيم قوس كبير عند مدخل المعرض، ومقابله أعمدة كبيرة رُفع عليها أعلام الدول المشاركة. كان القوس يمتد من بوابة المعرض إلى حديقة كازينو دمشق الدولي (والتي أصبحت اليوم مقر فندق الفور سيزنز). وقد ظلّ شاهداً على كل سنوات المرض وعلى حفلات فيروز إلى أن تمت إزالته عام 2005 عند افتتاح فندق الفور سيزنز، بعد سنتين من نقل أرض المعرض إلى طريق مطار دمشق الدولي.

وقفت فيروز على خشبة مسرح المعرض لأول مرة عام 1960 وقدمت وصلات غنائية مع موشحات أندلسية، وافتتحت الحفل برائعتها الشهيرة "سائليني يا شآم،" للشاعر الكبير سعيد عقل. وصارت هذه الأغنية بالتحديد من أشهر رموز المعرض، تعاد وتردد في كل دورة حتى لو غابت فيروز نفسها عنها. أ قام الزعيم الوطني فخري البارودي عشاء كبير على شرف فيروز والأخوين رحباني في نادي الضباط، حضره لفيف من رجال البلاد ، توجهت فيه فيروز وعاصي بكلمة شكر إلى أهالي دمشق.

كان من المفترض أن تشارك فيروز في دورة المعرض الرابعة للمعرض في أيلول عام 1958، بالرغم من الأزمة السياسية الحادة التي نشبت بين الرئيس جمال عبد الناصر ونظيره اللبناني كميل شمعون، إثر استدعاء الأخير للجيش الأميركي مطلع ذلك الصيف للوقوف في وجه أعدائه في الداخل، المدعومين من قبل المكتب الثاني في سورية.

علّقت مجلة الصيّاد اللبنانية على هذا الحدث قائلة:

"بطاقات فيروز التي تبيعها إدارة معرض دمشق الدولي للحفلة أو الليلة اللبنانية التي ستحييها فيروز ليل 23 أيلول الحالي في دمشق، نفذت كلها. بيعت البطاقة بخمس وعشرين ليرة لبنانية، ومع هذا نفذت كلها منذ الآن. وقد أثبت هذا أن الشوق لسماع فيروز شخصياً هو أمر عجيب. وأثبت أنّ شعبية فيروز لا تضاهيها شعبية مطربة أخرى. كما أثبت أنّ السياسة لن تقتل حبّ الفيروزيين في دمشق لفيروز لبنان والشرق العربي."

اعتذرت فيروز عن هذا الظهور بسبب مرض ابنها هالي، وعلقت مجلّة الصيّاد بعد أسبوعين:

"قامت القيامة ولم تقعد بعد. دمشق كلها تريد أن ترى فيروز تغنّي حتى لو أدّى ذلك إلى خرق حرمة معرض دمشق الدولي. سيهبّون جميعاً ليقولون لها إنهم أنفسهم طفلها وعشّاقها."

في عام 1961 غنت فيروز شعراً للأخطل الصغير: "يا ربى لا تتركي ورداً ولا تُبقي أقاحا/ مشت الشام إلى لبنان شوقاً وارتياحا"، كما غنّت "خدني ازرعني بأرض لبنان"، وختمت الحفل بمغناة فلسطين الكبرى "راجعون."

أصدرت شركة "صوت الشرق" مختارات من هذه الحفلة على اسطوانة من الحجم الكبير حمل غلافها الخلفي نصاً يقول:
"بين فيروز ودمشق وشائج أجمل ما يشدّ حنجرة ذهبية إلى عاصمة الفن. من دمشق طارت الكلمة التي باتت على كل الشفاه: الناس في هذا العصر فيروزيون أو لا فيروزيون. وكانت سفيرتنا إلى النجوم وفية للحب الذي خصّها به شعب دمشق، فإذا الليالي اللبنانية في المعرض الخالد، تلك التي يحج إليها الناس من كل سوريا ليستمتعوا بأنغام ذات الصوت الحريري، صفحات جديدة من ألف ليلة وليلة. دمشق وفيروز اسمان لا ينفصلان. "