حين ترتمي سيدة لبنانية تعتقد انها حرة في احضان الرئيس الفرنسي في منظر خائن لكل الحضارة التي خرجت منها لتطلب من الجلاد الحماية ، عندها نعرف ان القذارة ليست في اعلى الهرم بل في القاعدة وبشكل وبائي

(المقال بقلم اسامة غاوجي

لم يكد يمضي شهر واحد على إعادة فرنسا شحنة من جماجم المقاومين الجزائريين، حتى أطلّ علينا فارس الظلام، نصير المستضعفين، غاضباً على طبقة الفاسدين المفسدين الذي دمّروا البلاد والعباد، جاء ليوبخهم ويعانق المتعبين في شوارع بيروت ويقترح عليهم ميثاقاً سياسياً جديداً.
الشحنة كانت تحتوي على جماجم 24 مقاوماً للاستعمار الفرنسي في الجزائر، كلّ جمجمة في علبة من الكرتون المقوّى لمنع تضرّر هذه القطع التاريخيّة نتيجة للمطبات الهوائة المحتملة. ظلّت هذه الجماجم –ضمن 18 ألف جمجمة في المتاحف الفرنسية- تُعرض في متحف الإنسان لمدّة 170 عاماً، ليُشاهد أرباب الحضارة جماجم البدائيين، ويحمدوا الله الذي اصطفى عرقهم الأبيض على أعراقنا الهمجيّة.

فرنسا الرائدة في استضافة حدائق الحيوانات البشريّة التي كانت تعرض الأعراق الأدنى أمام أعين المتفحّصين الفضوليين، ما تزال تستضيف في خزائنها الاستعماريّة جمجمة سليمان الحلبي، الشاب الحلبيّ ذي الـ 24 سنة، الذي لم يكن يُميّز بين حدود بلدان المسلمين، فاختار لخنجره غمداً لائقاً في صدر قائد الحملة الفرنسيّة على مصر، الجنرال كليبر.
تحت جمجمة سليمان الحلبي، كتب الفرنسيون الوصف المشرّف التالي: مجرم!

لم تُعد فرنسا جمجمة الحلبي، ولكنّها أعادت جماجم بعض الجزائريين في محاولة لتليين التوتّر مع الجارة الجزائر، في ظلّ تحالف فرنسا الرذيل مع الجنرال الديمقراطي جدّاً، خليفة حفتر. هذا التحالف المتنوّر يوزّع عينيه: عيناً على النفط في الجنوب وعيناً على تأمين السواحل في الشمال من غزوات المهاجرين الذين عكسوا مسار "التكالب على إفريقيا" إلى أوروبا. اليوم، يمدّ عيني طمعه إلى شرق المتوسّط!

جاء ماكرون، الذي لم تخرج بلاده حتى الآن من عهد الاستعمار الكلاسيكي، حيث تنهب نفط إفريقيا وذهبها وتُعيد إلى أسواقهم سلعها المشتهاة وثقافتها الشهوانيّة. جاء إلى البلاد التي دشّن الاستعمار الفرنسي نظامها الطائفيّ بتركيبة ديموغرافيّة مشوّهة وتكوين طائفي مُفخّخ، بخطوط جغرافيّة على الرمال لا أصل لها، إلا تحالف فرنسا مع دويلة مسيحيّة، أرادت جنوباً شيعياً زراعيّاً يوفّر غلّتها الغذائيّة، وساحلاً سنّياً ضرورياً لانفتاحها على العالم، واضطرتها الأقدار لقبول فسيفساء من الطوائف التي تسكن الخطّ الجبلي الذي يفصل الساحل عن سهول بلاد الشام. جاء ماكرون ليخطب فينا مشمّراً عن ساعد الجدّ، ليقدّم للناس ميثاقاً اجتماعيّاً أنيقاً يقيهم بأسهم الشديد فيما بينهم. جاء ليقول :"إذا كانت القوى السياسية غير قادرة على الحفاظ على هذا الاتفاق، فسوف أتحمّل مسؤولياتي تجاه اللبنانيين".

عيب أن نذكّر بجرائم الاستعمار، عيب أن نقول لماذا ينبغي أن نمتلك إرادتنا السياسية، عيب أن ننسى أنّ الاستعمار متورّط إلى العظم في بلائنا العربيّ، وأنّ النهوض لا ينفصل عن التحرّر. هذه بدهيات يا سادة.
مع هول الفاجعة وطزاجة الدمّ، يثور الكلام كالغبار، ولا يعاتبه أحد. لو قال الساخط لحظتها أنّ الاستعمار أرحم من حكوماتنا الفاسدة ففي هذا وجه مؤلم من الصحّة. ولكنّه سيتذكّر في ساعة الهدوء أنّ الاستعمار زكّى حكومته ونضّد لها الأعلام والأقلام وأجهض مسارات تغييرها، وسيتذكّر أنّ الاستعمار لم يحكم يوماً إلا بوسطاء مثل هؤلاء.
ولكن، ماذا يقول الواحد لـ "مثقف" يعلك هذا الكلام ويفرقع "بلالينه" في أسماعنا. ذاكرة سمكيّة، وعدسة مكسورة هذه التي لا ترى مآلات "تحرير" العراق!
إنها الهزيمة تفتّش الأقلام والصدور، تدفع الكلام إلى مساراته القصوى، تُظهر طبقات العفن إلى السطح لتكشطها يد التاريخ، تدفع خطاب كراهية الذات وجلدها إلى أقصاه: "إننا لا نستحقّ حتى أن يستعمرونا" يقول قائلهم.
زيارة ماكرون اليوم، والعريضة التي وقّعها من وقعها لدعوة الاستعمار إلى احتضاننا مجدّداً، ليست رسالة سياسيّة مكثّفة تكشف بؤسنا العربي كما يقول البعض، بل هي مشروع سياسي جدّي. فالصراع على المتوسّط بغازه ومهاجريه وتجارته وأهميته العسكرية، وهيمنة حزب الله وتمدّد إيران، كلّها دواعٍ تحرّك السيد الفرنسي، بإسناد ومشروعيّة غربيّة، ليفتح مكتب شرطته على ساحل المتوسّط الغربي. واحترامُ آلام الناس لا يعني الاستخفاف بما يُمكن أن يضاعفها ويعمّقها لعقود.
في وجه السياسة المهدومة علينا أن نتسلّح بالتاريخ والاستراتيجيّة. أن ننظر إلى الأبعد قليلاً، إلى الشهيق التالي للزفير الكبير).