لا نعرف شيئًا عن الليلة الأخيرة معها.. مع السيدة خديجة....لا نعرف شيئًا عن آخر حديث بينهما... ربما كان كحديث أي زوجين.. شيء عن بناتهما.. عن رقية في غربتها.. عن خطبة مرتقبة لأم كلثوم.. أو عمن تراه مناسبًا لفاطمة... شيء عن صعوبات الحياة بمكة ومضايقات الجيران المحيطين بهم، أبي لهب، وعقبة بن أبي معيط، وعدي بن الحمراء.. هل شكت من تعب أو إرهاق.. هل بدا عليها شيء؟ لا نعرف... ولا نعرف أيضًا أي شيء عن الليلة الأولى من دونها.لا نعرف.. لكن من المؤكد أن البيت كله بدا يتيمًا مظلمًا وقد غادرته.. الليلة الأولى من بعد كل فقدان تكون صعبة جدًا.. فكرة أنها كانت تملئ البيت أمس، وتبيت الليلة تحت التراب، فكرة صعبة، يتجرعونها بمرارة وهم غير مصدقين، ويستيقظون فجرًا بعد نوم متقطع وهم يتمنون لو أن الأمر كله مجرد كابوس... ولكنهم يكتشفون أن الأمر ليس كابوسًا، بل هو واقع يمر به الجميع وعلينا قبوله رغم مرارته... من المؤكد أن فاطمة كانت تبكي، وأم كلثوم كذلك... ومن المؤكد أن العاص بن الربيع قد ترك زينب تأتي لبيت أمها وخالته.. رغم الخلاف الحاصل من بقائه على دين قريش.. جاءت أمه السيدة هالة بنت خويلد حتمًا، تبكي أختها وتضم بناتها إلى صدرها... رقية كانت مع عثمان في الحبشة... سيصلها الخبر لاحقًا بالتأكيد.. وخبر كهذا يكون طعمه أشد مرارة في الغربة... كانت ليلة باردة. ليس فقط لأنها صادفت فبراير بالتقويم الميلادي. بل لأن الدفء غادر مع خديجة... البيت من دون خديجة، حتمًا بدا مختلفًا... موحشًا... كل ركن كان يحتويها ويضم أثرًا لها... هنا -على المصطبة- كانت ترضع القاسم وتلاعبه.. وهنا بكت يوم فقدته.. وهنا كانت ترضع عبد الله... وهناك في الحجرة الخلفية كانت تشرف على تجارتها... وهنا اعتادت أن تجلس مع بناتها في حجرتهن.. وهنا في حجرتها كانت تجالسه عليه الصلاة والسلام، تحادثه ويحادثها.. هنا دثرته وهنا صبت عليه الماء يوم جاء بالوحي أول مرة... وهنا سحبته وانطلقت به إلى ابن عمها ورقة.. كانت في كل مكان.. بفارق أنها لم تعد موجودة... *****لعله لم يبك أمام بناته، كي يمنحهن القوة..حبس دموع عينيه، ولكن قلبه... قلبه لا بد أجهش وشهق بالبكاء.. لا نعرف ماذا قرأ من القرآن تلك الليلة.. لا نعرف أي الآيات واسته وربتت على كتفه ومسحت دموعه.. لا نعرف إن كان الوحي قد جاء ليلتها.. لا نعرف بم دعا لها في سجوده.. لا نعرف.. لم يخبرنا عليه الصلاة والسلام.. لم يشأ أن يبكي أمام بناته كي لا ينهرن.. القوة بالتقوي والصبر بالتصبر... كذلك لم يشأ أن يبكي أمامنا... لم يرو لنا شيئًا عن تلك الليلة المظلمة التي غابت فيها خديجة.. تعرفون، هي أمنا أيضًا... ولم يشأ أن نبكي... ****من كتاب " السيرة مستمرة"