رغم حساسيتي المفرطة إزاء ما تقدمه القنوات المحلية من برامج بئيسة، وأخبار ممجوجة من أفواه الفضائيات العالمية، واستنكافي عنها بالقراءة أو بالإبحار في خلجان الشبكة العنكبوتية، إلا أنني تعوّدت على أن تتركها تقضم قضمة عنيفة من وقتي المهدور. أحيانا أريد أن أحشر نفسي في شرنقة المازوشيين، ممتحنا، أو محاكيا قدرتهم على الصمود في وجه سياط الألم. استجمعت كل أسباب الشجاعة وقوة التحمل وأسلمت وجهي للشاشة، فها هي المذيعة المنبهرة بعملية التجميل الأخيرة التي أعارتها أنف صبية أخنس، تبدو مزهوة في أغبى حللها وأبلد وعيها، تضحك على ذقني وذقن كل مشاهد مخدوع، ومفتون بشوفينية سمجة بليدة، تشيح عني وعن المضحوك على ذقونهم بنصف وجهها المتستر تحت قشرة سميكة من المساحيق، لتستقبل ضيف نشرتها الشرفي.
- معالي السيد الوزير يشرفنا حضوركم في هذه النشرة، باسمي وباسم كل الذقون المضحوك عليها أحييكم وأرحب بكم.
قبل أن يرد التحية تزحزح معاليه في كرسيه الوثير الدوّار، و أخذ يمسد ربطة عنقه بأنامله المعقوفة كمخالب صقر ملكي من العقدة حتى أسفل بطنه الضامر، ثم أصدر حنحنة ملفوفة في شحنة من سائل لزج، ابتلعها وهو يرد التحية بصوت متحجرش، طالبا العفو وهو يركز نظره في عيني مضيفته، ربما كانت شحنة السائل اللزج المبتلعة هي مصدر الحجرشة وابتلال العينين.
- معالي السيد الوزير؛ نغتنم فرصة تواجدكم معنا لنطلب منكم تقديم كلمة مركزة حول الدخول السياسي الجديد !
في الوقت الذي غطى وجه معاليه عرض الشاشة، وقد بدت مخالب الصقر الملكي تمسد ربطة العنق من عقدتها حتى أسفل البطن بشكل آلي، رن هاتفي فقمت مسرعا أفتش عنه في جيبي معطفي لأرد على المكالمة، ولقد كلفني البحث عنه والرد على صاحب المكالمة قضمة عميقة وعنيفة على مستوى شحمة أذني وجيبي، فصاحبي يريدني أن أقدم له سُلفة، لست أدري لماذا لم يستعمل كلمة قرض بدل سُلفة، على أية حال لم تزعجني هذه العبارة، بل على العكس من ذلك، فلقد كان لها وقع أخف على نفسي وعلى ميزانيتي، من وقع قرض أودين. ختمنا المكالمة السّلفة بالحديث النبوي الشريف،..والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.. لم أخف استغرابي عدم ثقتي في الوعد الذي قطعه صديقي على نفسه بأن يرجع لي ما استلفه مني مباشرة بعد العيد.
عدت إلى الشاشة التي استحوذ عليها وجه الوزير تاركا إياها تأكل لحمي حيّا وتشرب دمي طريّا، وتبدد وقتي المهدور أنى تشاء. لعلي أستفيد بقبس من نور معرفته، أو أمتح حفنة من معين علمه الدافق، كيف لا وهو وزير محنك، ومتحزب أكل من كل قدر عظما ولحما، فضلا عن ذلك فهو نعم الوطني الغيور على سمعة البلد السعيد، أكيد إن له تصورا يختلف جملة وتفصيلا عن تصوري، الغارق في التشاؤم حول الدخول السياسي الجديد. تملكتني الحيرة والاستغراب حينما سمعته يقول بصوته المتحشرج:إنها لمفارقة عجيبة أن أستهل عودتي إلى مكتب وزارتي بعد الإجازة الطويلة خارج البلد ببعض الإجراءات الصارمة في حق بعضهم.
- هل من توضيح أكثر معالي الوزير؟
- أحد موظفي وزارتي أصدرت أوامري لإعادة تعيينه في الثلث الخالي تأديبا للسانه الطويل..
- وماذا أيضا؟
- وآخر محوت اسمه من خريطة الوظيفة العمومية.
- ...؟
- أحلته على المعاش وهو في عز الشباب.
- ...؟
- لأنه أحب أن يلعب دور ليش فاليسا.
- معروف عنكم الجرأة في اتخاذ القرار المصيري.
- قراري في وزارتي خط أحمر لاينا قش، أعرف من أين تمسك العصا.
- أجل الجميع يعرف ذلك فرائحتك عبقت بها كل جهات المملكة السعيدة..أقصد أخبارك تلهج بها ألسنة شرائح عريضة من المجتمع.
- نسيت أن أقول لك ماذا فعلت بأحدهم؟
-..........................!
- هاتي أذنك أخبرك.
بعد الوشوشة الوزارية في أذن المذيعة المنبهرة بأنفها الصبياني الأخنس، عادت هذه الأخيرة محمرّة الوجه، لتختم لقاءها بضيفها بصوت ذي حجرشة مقززة، ربما هي الأخرى ابتلعت كتلة من سائل لزج، بينما استمر مخلب الصقر الملكي يدلك لسان معاليه، من الحلق حتى أخمص قدميه. مع تكرار عملية التدليك للسان الطويل، أخذ هذا الأخير ينفث رذاذا، تأثرت به المذيعة وصفحة الشاشة أيضا، ثم استفحل الأمر بأن خرجت عصارته إلى وجهي، وتفاقم الوضع أكثر فأكثر، بأن تحوّلت العصارة المقززة إلى إعصار عنيف، أطاح بباب ونوافذ غرفتي، وجرفني خارج البيت رغم محاولتي اليائسة في مقاومة عنفوانه بالتشبث بأثاث الغرفة، ومن ثم تسلل بي إلى الشارع وهو يتلقف كل من صادفه في طريقه من أطفال وعجزة ونساء حوامل، وباعة متجولين. فقط الفتية الأشداء والرجال الأقوياء المستعصمون بأركان البنايات العتيدة الأسس، كانوا بمنجى من تهوره. بعد سويعات قلائل من الكارثة دلفت مقهى لأتأكد من صحة ما حدث، فرأيت فيما يرى مشاهدو القنوات الفضائية، الأضرار الفظيعة التي خلفها اللسان الإعصار، فعلمت أن ضحاياه كثر، ذكر مراسل القناة المستمسك بميكرفونه استمساك الأعمى بعصاه، والغريق بحبل نجاته، أن من بين الضحايا آلاف من الموظفين، وأئمة مساجد، وثلّة من رجال الأعمال، وأطفال أبرياء...انقطع صوت المذيع عندما امتدت أذرع أخطبوط لتشفطه في حيرة من صاحبه، تبين فيما بعد وفي خبر عاجل، أن الأذرع الأخطبوطية إن هي إلا العصارة المقززة السالفة الذكر وقد تشظت لتغطي كل أنحاء المملكة السعيدة..