...............
هذه أول مرة اكتب عن أبي وأعتقد انكم تحبون أن تسمعوا شيئاً عنه.
لم يكن أبي رحمه الله فيلسوفاً ولا فقيها ولا مفتياً ولا زعيماً، كان رجلاً دمشقياً من أعيان حي الميدان المجاهد، وأسس مع الشيخ صادق حبنكة لجنة الإصلاح بين الناس، والتزم الطريقة النقشبندية عن الشيخ أحمد كفتارو.
أما اليوم الذي لا أنساه لأبي فهو يوم 10 حزيران 1976
كان والدي تاجراً صادقاً، وقد كان محله في شارع فيصل: ريحاوي وحبش لتجارة الحديد والاسمنت أكبر محل في ذلك الشارع التجاري وربما كان المحل الوحيد في السوق الذي تدخله السيارات الشاحنة الكبيرة فتفرغ حمولتها وتستدير بداخله ثم تخرج.
عشنا طفولة حلوة.. كان يميزها الولائم التي كان الوالد يقيمها باستمرار خاصة للفقراء وطلبة العلم، حيث كان يستضيفهم ثم يعطي كل واحد منهم بفرح وسرور 25 ليرة (تسعيرة موحدة) أجرة اسنانهم التي هضمت الطعام!!!.
في 1976 كنا أطفالاً حين تعرض الوالد لخسارات مالية كبيرة في مجموعة مشاريع مقاولات، كان يستثمر فيها المال لعدد من العائلات وقد خسر فيها المال والرأسمال...
كان بإمكانه أن يجد ألف حيلة وحيلة، وأن يلعب الطرابيش التي يلعبها التجار المحترفون، ولكنه بكل شجاعة جمعنا وقال: يا بابا لقد خسرنا مشاريع حوران، وأصبحنا مدينين للناس، ولا بد من بيع كل ما نملك!!
خلال أسابيع فوجئنا بالوالد يبيع حصته من المحل التجاري، ومزرعتنا في الديابية، وسيارته التي كان يركبها .. وكان يقول لا يقبل الله منا صلاة ولا صياماً حتى نؤدي حقوق الناس!!
لم يتصور أحد أن يبيع أيضاً البيت الذي نسكنه في سوق ساروجه!! فهذا لا يطلبه شرع ولا قانون!!، ولكن الوالد قام بسرعة ببيع البيت بسعر زهيد 36 ألف ليرة، وفوجئنا باننا أصبحنا بلا بيت!! وحبن استلم سعر البيت لم يبت في جيبه منه ليرة واحدة بل قام بتوزيعه بالكامل على الدائنين!!
ودون أدنى تردد أذكر تماما يوم 10 حزيران حين جاء بسيارة شحن كبيرة ونزَّل عفش البيت كله.. وفوق العفش كل إخوتي التسعة وركبنا سيارة الشحن وسط ذهول الجيران وبكائهم وبكائنا ولا نعرف أين نتوجه....
أذكر تماما كيف سارت بنا السيارة إلى عين الخضراء الى دار ابو زاهر نصر الله حيث كان له غرفتان قبو قرب النهر.. وقال لنا الوالد ... هنا سنسكن.. ولا يجوز لنا أن نشعل ضوء كهرباء حتى نؤدي ما علينا من ديون للناس....
كانت بالفعل سنوات قاسية جداً تنقلنا فيها بين عدد من بيوت الإيجار... حتى مكن الله لأخي عادل في التجارة من جديد وقام برعاية إخوته، ونجحنا في النهاية في شراء منزل بالمزة..
في آخر عيد قبل وفاته 1989 كنا حوله حين قال لنا: سامحوني.. لم أحقق لكم ما تريدون.. ولكن لم أطعمكم قرشاً من حرام...
لم يترك الوالد درهماً ولا ديناراً.. ولكنه ترك أروع زوجة صابرة وذكية، وأروع أحد عشر أخاً وأختاً على قلب واحد، منهم ستة يحفظون كامل القرآن الكريم، وقد صار عدد ذريته اليوم 137 ولداً وبنتاً وصهراً .
منذ خمسين سنة .. لا أذكر أن واحداً من إخوتي رفع صوته على أخيه أو أخته، أو قاطعه أو هجره يوماً واحداً..
..................
أنا مدين لك يارجل المبادئ...
كلما قرات كلمة الرسول الأكرم لمعاذ بن جبل أتذكر عينيك....
يا معاذ ... إنه لا يدخل الجنة لحم ودم نبتا من حرام....