من آثار ظاهرة النص القصيرِ المُفَارَقَة، أي أن يجدَه متلقّوه لَمحة قَصصيّة خاطفة، من وراء حكاية حال بشرية عجيبة، لا يفتؤون يمرون بها ولا يرونها، تشتجر فيها أعمال مختلفة متبادلة، لا ينقضي منها عجبهم: كيف لمثل ذلك أن يكون! أما لهؤلاء من عقل يعقل! أما لهذا من قلب يقلب!
هذا نص قصير يعبر عن جناية اليائسين على الطَّموح، بأربع وعشرين كلمة، في تسع جمل، على ثلاثة أبيات:
أُوتِيتُمُ الْأَبْصَارَ فَاسْتَعْمَيْتُمُ وَرَضِيتُ مِنْهَا مَا يَرَاهُ الْمُلْهَمُ
وَسَعَيْتُ فَاسْتَغْشَيْتُمُ أَعْذَارَكُمْ وَتَبِعْتُمُونِي رَيْثَما أَتَقَدَّمُ
مَا أَشْأَمَ الْمُتَجَبِّرِينَ عَلَى الرِّضَا ضَلَّتْ رُؤَايَ وَضَلَّ مَا أَتَنَسَّمُ
أما أبيات هذا النص القصير الثلاثة، فكامليّة الأوزان التامة الصحيحة الأعاريض والأضرب، ميميّة القوافي المضمومة المجردة الموصولة بالواو:
1 أُوتِيتُمُ الْـ= دن دن ددن، متْفاعلن، مضمرة،
2 أَبْصَارَ فَاسْـ= دن دن ددن، متْفاعلن، مضمرة،
3 ـتَعْمَيْتُمُ= دن دن ددن، متْفاعلن، مضمرة،
4 وَرَضِيتُ مِنْـ= دددن ددن، متفاعلن، سالمة،
5 ـهَا مَا يَرَا= دن دن ددن، متْفاعلن، مضمرة،
6 ـهُ الْمُلْهَمُ= دن دن ددن، متْفاعلن، مضمرة، والقافية: دن ددن، مُلْهَمُ.
7 وَسَعَيْتُ فَاسْـ= دددن ددن، متفاعلن، سالمة،
8 ـتَغْشَيْتُمُ= دن دن ددن، متْفاعلن، مضمرة،
9 أَعْذَارَكُمْ= دن دن ددن، متْفاعلن، مضمرة،
10 وَتَبِعْتُمُو= دددن ددن، متفاعلن، سالمة،
11 ـنِي رَيْثَما= دن دن ددن، متْفاعلن، مضمرة،
12 أَتَقَدَّمُ= دددن ددن، متفاعلن، سالمة، والقافية: دن ددن، قَدَّمُ.
13 مَا أَشْأَمَ الْـ= دن دن ددن، متْفاعلن، مضمرة،
14 ـمُتَجَبِّرِيـ= دددن ددن، متفاعلن، سالمة،
15 ـنَ عَلَى الرِّضَا= دددن ددن، متفاعلن، سالمة،
16 ضَلَّتْ رُؤَا= دن دن ددن، متْفاعلن، مضمرة،
17 يَ وَضَلَّ مَا= دددن ددن، متفاعلن، سالمة،
18 أَتَنَسَّمُ= دددن ددن، متفاعلن، سالمة، والقافية: دن ددن، نَسَّمُ.
لعل بحر الكامل أقدر البحور على تصوير اشتجار الأعمال المختلفة؛ فهذه طائفة من التفعيلات منطلقة من يسارٍ بطائفةِ أعمالٍ، وهذه طائفة من التفعيلات منطلقة من يمينٍ بطائفةِ أعمالٍ، وهذه طائفة من التفعيلات متذبذبة بين اليمين واليسار بطائفةِ أعمالٍ. عن رأيٍ ما تنطلقُ التي تنطلق، فربما اصطدمت بضِدّها، وربما اندفعت بها المتذبذبةُ إلى حيث تنطلق، وربما لم تصطدم أيٌّ بأيٍّ، ولم تندفع، ولكنها وجدَتها عرَفَت ما تنطلق إليه، فتَبِعَتها، وزاحَمَتها، وزَحَمَتها! وقد ساعدَت على تصوير دقائق هذا الاشتجار العجيب، موجاتُ تفعيلات الأبيات المتدرجة من الكثيرة الإضمار (سكون ثاني متحركاتها)، إلى الكثيرة السلامة (5/6، 3/6، 2/6)! أما القافية فلم تعبأ إلا بمن سبق إلى معرفة ما ينطلق إليه: لم تذكر إلا فعله، ولم تخلِّد إلا اسمه!
وأما جمل هذا النص القصير التسع -ومتوسط كلمات الواحدة منها "2.66"- فقد تَنَمَّطَتْ كلٌّ منها بمنزلة أركانها من التعريف والتنكير، على النحو الآتي:
1 أُوتِيتُمُ الْأَبْصَارَ= فعل ماض، وضمير مخاطبين،
2 فَاسْتَعْمَيْتُمُ= (فـ) فعل ماض، وضمير مخاطبين،
3 وَرَضِيتُ مِنْهَا مَا يَرَاهُ الْمُلْهَمُ= (و) فعل ماض، وضمير متكلم،
4 وَسَعَيْتُ= (و) فعل ماض، وضمير متكلم،
5 فَاسْتَغْشَيْتُمُ أَعْذَارَكُمْ= (فـ) فعل ماض، وضمير مخاطبين،
6 وَتَبِعْتُمُونِي رَيْثَما أَتَقَدَّمُ= (و) فعل ماض، وضمير مخاطبين،
7 مَا أَشْأَمَ الْمُتَجَبِّرِينَ عَلَى الرِّضَا= نكرة، وجملة فعلية ماضوية،
8 ضَلَّتْ رُؤَايَ= فعل ماض، ومضاف إلى ضمير متكلم،
9 وَضَلَّ مَا أَتَنَسَّمُ= (و) فعل ماض، واسم موصول.
تلك ثلاث طوائف من الجمل مشتجرة أعجب اشتجار:
- أما الطائفة الأولى فنصف جمل النص إلا قليلا (1-2، و5-6)، قد انتظمَها كلَّها نمطٌ واحد "فعل ماض، وضمير مخاطبين".
- وأما الطائفة الثانية فنصف جمل النص كذلك إلا قليلا (3-4، و8-9)، قد انتظمَتها ثلاثةُ أنماطٍ كنمطٍ واحد ["فعل ماض، وضمير متكلم"، و"فعل ماض، ومضاف إلى ضمير متكلم"، و"فعل ماض، واسم موصول"].
- وأما الطائفة الثالثة فعُشر جُمل النص تقريبا (7)، قد انفردت بنمطه خاص "نكرة، وجملة فعلية ماضوية"!
تكفل صاحب الطائفة الثانية (من سبق إلى معرفة ما ينطلق إليه)، بأن يحدثنا هو عن نفسه وعن أصحاب الطائفتين الأولى والثالثة، من حيث كان المنتصرون هم الذين يكتبون التاريخ دون المنهزمين؛ فيقدم على أعماله أعمالَ أصحاب الطائفة الأولى وحدهم مرة، وأعمالهم وأعمال أصحاب الطائفة الثالثة جميعا مرة، لكي يخلص لنفسه أخيرا انتصارُه، وهيهات؛ لقد مضى في المنتصر والمنهزمين جميعا معا، حكمُ التاريخ (هذا الذي يكتبه المنتصرون):
لَا انْتِصَارَ خَالِصٌ، وَلَا انْهِزَامَ!