من آثار ظاهرة النص القصيرِ مُوازَنةُ المضطربِ، أي أن يجده متلقوه قد ترددت فيه الكلمات المتَشابهات والعبارات المشْتبِهات، كأنما تتفلَّتُ من مهموم مأزوم، كرَبته الأزمة حتى أَقدَمته على ما لم يكن يقدم عليه مرتاحًا، وحَزَبه الهم حتى أَقدَمه على ما لم يكن يقدم عليه مطمئنًا؛ فأما غَفَلَةُ متلقيه فينكرونه ويكذبونه، وأما وُعَاتُهم فيعرفونه ويصدقونه!
هذا نص قصير يعبر عن تَفادِي المختلفين، بثلاثين كلمة، في أربع عشرة جملة، على ثلاثة أبيات:
نَعَمْ لَا نَعَمْ لَا نَعَمْ لَا نَعَمْ دَمٌ دَامَ دَامَ دَمٌ دَامَ دَمْ
خُذُونَا جَمِيعًا فَمَا لِمَمَاتِيَ جَنْبَ خَصِيمِي اللَّدُودِ أَلَمْ
فَقَدْ عَاشَ جَنْبِيَ يُكْمِلُ نَقْصِي وَسَوْفَ أَمُوتُ لِيَحْيَا الْعَدَمْ
أما أبيات هذا النص القصير الثلاثة، فمتقاربيّة الأوزان الوافية الصحيحة الأعاريض المحذوفة الأضرب، ميميّة القوافي الساكنة المجردة:
1 نَعَمْ لَا= ددن دن، فعولن، سالمة،
2 نَعَمْ لَا= ددن دن، فعولن، سالمة،
3 نَعَمْ لَا= ددن دن، فعولن، سالمة،
4 نَعَمْ= ددن، فعو، محذوفة،
5 دَمٌ دَا= ددن دن، فعولن، سالمة،
6 مَ دَامَ= ددن د، فعول، مقبوضة،
7 دَمٌ دَا= ددن دن، فعولن، سالمة،
8 مَ دَمْ= ددن، فعو، محذوفة، والقافية: دن ددن، دَامَ دَمْ.
9 خُذُونَا= ددن دن، فعولن، سالمة،
10 جَمِيعًا= ددن دن، فعولن، سالمة،
11 فَمَا لِـ= ددن د، فعول، مقبوضة،
12 مَمَاتِ= ددن د، فعول، مقبوضة،
13 يَ جَنْبَ= ددن د، فعول، مقبوضة،
14 خَصِيمِي اللْـ= ددن دن، فعولن، سالمة،
15 ـلَدُودِ= ددن د، فعول، مقبوضة،
16 أَلَمْ= ددن، فعو، محذوفة، والقافية: دن دددن، دُودِ أَلَمْ.
17 فَقَدْ عَا= ددن دن، فعولن، سالمة،
18 شَ جَنْبِـ= ددن د، فعول، مقبوضة،
19 ـيَ يُكْمِـ= ددن د، فعول، مقبوضة،
20 ـلُ نَقْصِي= ددن دن، فعولن، سالمة،
21 وَسَوْفَ= ددن د، فعول، مقبوضة،
22 أَمُوتُ= ددن د، فعول، مقبوضة،
23 لِيَحْيَا الْـ= ددن دن، فعولن، سالمة،
24 ـعَدَمْ= ددن، فعو، محذوفة، والقافية: دن ددن، يَا الْعَدَمْ.
إن بحر المتقارب من ألطف الأبحر الكثيرة الاستعمال قديما وحديثا، وأسلسها حركة، قد انقسمت تفعيلته الواحدة المكررة على قسمين واضحين، استفاد منهما صاحب هذا النص القصير لكلمتي الجوابين المتناقضين، اللتين جمع بينهما فخَيَّلَ لنا أن جوابَيِ الثائرَين المختلفَين جوابُ ثائر واحد، ثم كان تكرار هذه التفعيلة الواحدة كأنه شعار التحدي قد بدا وحده للثائرَين المختلفَين في مقام التنكيل بهما أحدهما أو كليهما! ثم تَوَّجَت ذلك القافيةُ الميمية الساكنة المجردة مثلما تُتَوِّجُه الضربةُ القاتلة التي يتلقاها أحدُهما فيَحرم ضاربَه سماعَ ألمها، فيتحول من خارجٍ إلى داخلٍ؛ لعله يشعل الثورة القادمة!
وأما جمل هذا النص القصير الأربع عشرة -ومتوسط كلمات الواحدة منها "2.14"- فقد تَنَمَّطَتْ كلٌّ منها بمنزلة أركانها من التعريف والتنكير، على النحو الآتي:
1 نَعَمْ= حرف جواب، ومحذوفان،
2 لَا= حرف جواب، ومحذوفان،
3 نَعَمْ= حرف جواب، ومحذوفان،
4 لَا= حرف جواب، ومحذوفان،
5 نَعَمْ= حرف جواب، ومحذوفان،
6 لَا= حرف جواب، ومحذوفان،
7 نَعَمْ= حرف جواب، ومحذوفان،
8 دَمٌ دَامَ= نكرة، وجملة فعلية ماضوية،
9 دَامَ دَمٌ= فعل ماض، ونكرة،
10 دَامَ دَمْ= فعل ماض، ونكرة،
11 خُذُونَا جَمِيعًا= فعل أمر، وضمير خطاب،
12 فَمَا لِمَمَاتِيَ جَنْبَ خَصِيمِي اللَّدُودِ أَلَمْ= شبه جملة حرفي، ونكرة،
13 فَقَدْ عَاشَ جَنْبِيَ يُكْمِلُ نَقْصِي= فعل ماض، وضمير غيبة،
14 وَسَوْفَ أَمُوتُ لِيَحْيَا الْعَدَمْ= فعل مضارع، وضمير تكلم.
تلك ثلاث طوائف من الجمل مؤتلفة أعجب ائتلاف:
- أما الطائفة الأولى فنصف جمل النص (1-7)، قد انتظمَها كلَّها نمطٌ واحد "حرف جواب، ومحذوفان".
- وأما الطائفة الثانية فربع جمل النص تقريبا (8-10)، قد انتظمَها كلَّها نمطان كنمطٍ واحد "فعل ماض، ونكرة/ نكرة، وجملة فعلية ماضوية".
- وأما الطائفة الثالثة فربع جُمل النص تقريبا (11-14)، قد انتظم كُلًّا منها نمطٌ خاص!
في مجال الطائفة الأولى يتحرك الثائران المختلفان حُرَّيْنِ، لكل منهما نصيبٌ من حرية الرأي مثل نصيب الآخر. وفي مجال الطائفة الثانية يصطدمان بجدار الاستبداد المحيط العازل القاهر، الذي يعتصرهما اعتصارا حتى لا يدري أحدهما ما يُفعل به ولا بخصيمه، غير أن مَن حولهما يَدرون! وفي مجال الطائفة الثالثة يدري كل منهما وحده أن صاحبه مقتول، وأن حرصَه عليه حرصُه على نفسه، فتتوزع أنماط الجمل بينه وبين خصيمه والمستبدين والمشاهدين!