تَفْجِيرٌ مُبَاغِتٌ



من آثار ظاهرة النص القصيرِ التَّفْجيرُ المُباغِتُ، أي أن يجده متلقوه كأنه لبنةُ جدارٍ انقضَّ، فاستقلَّتْ بنفسها وفيها ما يكفيها، ولكنها لا تفتأ تطلب الجدار وموضعها منه؛ لعلها تزداد فيه بأخواتها كما كانت فتزدان، أو لعله يشتد بالتمام كما كان فيزدهي بالبيان- فيفهموا منها وَجْهًا من الفهم، ولكنهم يتشوَّفون إلى ما علَّقتهم به، ويذهبون في تقديره كل مذهب!

هذا نص قصير يعبر عن خيانة الفاسدين والطامعين، بسبع وعشرين كلمة، في تسع جمل، على ثلاثة أبيات:

وَابنُ الْمَرَاغَةِ مِنْ قَدِيمٍ يدَّعِي نَسَبَ الْجَمَاعَةِ بِئْسَ الِاسْمُ المُدَّعِي

قَبِلَتْهُ وَاطَّرَحَتْهُ مِنْ تَعْدَادِهَا يَا لَيْتَهَا قَطَعَتْهُ قَبْلَ الْمَرْتَعِ

سَكَتَتْ عَلَيْهِ وَخَانَها فَتَخَاوَنَا وَتَفَاخَرَ الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَقْطَعِ

أما أبيات هذا النص القصير الثلاثة، فكامليّة الأوزان التامة الصحيحة الأعاريض المضمرة الأضرب، عينيّة القوافي المكسورة المجردة الموصولة بالياء:

1 وَابنُ الْمَرَا= دن دن ددن، متْفاعلن، مضمرة،

2 غَةِ مِنْ قَدِيـ= دددن ددن، متفاعلن، سالمة،

3 ـمٍ يدَّعِي= دن دن ددن، متْفاعلن، مضمرة،

4 نَسَبَ الْجَمَا= دددن ددن، متفاعلن، سالمة،

5 عَةِ بِئْسَ الِاسْـ= دددن ددن، متفاعلن، سالمة،

6 ـمُ المُدَّعِي= دن دن ددن، متْفاعلن، مضمرة، والقافية: دن ددن، مُدَّعِي.

7 قَبِلَتْهُ وَاطْـ= دددن ددن، متفاعلن، سالمة،

8 ـطَرَحَتْهُ مِنْ= دددن ددن، متفاعلن، سالمة،

9 تَعْدَادِهَا= دن دن ددن، متْفاعلن، مضمرة،

10 يَا لَيْتَهَا= دن دن ددن، متْفاعلن، مضمرة،

11 قَطَعَتْهُ قَبْـ= دددن ددن، متفاعلن، سالمة،

12 ـلَ الْمَرْتَعِ= دن دن ددن، متْفاعلن، مضمرة، والقافية: دن ددن، مَرْتَعِ.

13 سَكَتَتْ عَلَيْـ= دددن ددن، متفاعلن، سالمة،

14 ـهِ وَخَانَها= دددن ددن، متفاعلن، سالمة،

15 فَتَخَاوَنَا= دددن ددن، متفاعلن، سالمة،

16 وَتَفَاخَرَ الشْـ= دددن ددن، متفاعلن، سالمة،

17 ـشَيْطَانُ عِنْـ= دن دن ددن، متْفاعلن، مضمرة،

18 ـدَ الْمَقْطَعِ= دن دن ددن، متْفاعلن، مضمرة، والقافية: دن ددن، مَقْطَعِ.

إن بحر الكامل نَديد بحر الطويل عند القدماء، وأحظى منه عند المحدثين، وما ذاك إلا أنه أشبه منه عجلةً وصخبًا بالحياة الحديثة؛ لكأن تفعيلاته خيول يسابق بعضها بعضا -وتفعيلات الطويل جِمالٌ مُتَساندة!- تتنازع طَرَفَيْ رسالة هذا النص القصير التي تفضح استعجال خائني الأوطان: هروب الفاسد من اختبار الدخول، وسكوت الطامع على دخوله دون اختبار! وما التفاعيل السالمة -وهي عشر- إلا صورة ذلك الهروب، ولا التفاعيل المضمرة –وهي ثمان- إلا صورة هذا السكوت؛ يستعجل الفاسد الدخول قبل أن يفتضح فساده، ويستكتمه الطامع في جدواه! وفي أواخر الأبيات الثلاثة تأتلف القافية العينية المكسورة المجردة والتفعيلة المضمرة، على إثبات ذلك العار!

وأما جمل هذا النص القصير الثلاث -ومتوسط كلمات الواحدة منها "3"- فقد تَنَمَّطَتْ كلٌّ منها بمنزلة أركانها من التعريف والتنكير، على النحو الآتي:

1 وَابنُ الْمَرَاغَةِ مِنْ قَدِيمٍ يدَّعِي نَسَبَ الْجَمَاعَةِ= (و) مضاف إلى علم بالغلبة وجملة فعلية مضارعية،

2 بِئْسَ الِاسْمُ المُدَّعِي= جملة فعلية ماضوية ومعرف بأل،

3 قَبِلَتْهُ= ماض وضمير غيبة،

4 وَاطَّرَحَتْهُ مِنْ تَعْدَادِهَا= (و) ماض وضمير غيبة،

5 يَا لَيْتَهَا قَطَعَتْهُ قَبْلَ الْمَرْتَعِ= (يا ليت) ضمير غيبة وجملة ماضوية،

6 سَكَتَتْ عَلَيْهِ= ماض وضمير غيبة،

7 وَخَانَها= (و) ماض وضمير غيبة،

8 فَتَخَاوَنَا= (ف) ماض وضمير غيبة،

9 وَتَفَاخَرَ الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَقْطَعِ= (و) ماض ومعرف بأل.

لقد غلب على الجمل من داخلها نمط "ماض وضمير غيبة"، فانتشر خُفيةً مثلما ينتشر الطاعون، وعلى أطرافها وقف ما سواه من أنماط ينظر ماذا يفعل، بين حكيم صامت، وخصيم شامت!