أروع قصة يمكن أن تقرأها (من روائع الطنطاوي)

لن تستطيع أن تتركها حتى تُتِمَّها كاملة

قضية سمرقند (*):
------------------
كانت ليلة ميِّتة لا يتردَّد في صدرها نفَس مِن نسيم، ولا تبدو فيها حركةُ حياة...
وقد أوى كل حيٍّ في سمرقند إلى مضجعه، ونامت المدينة تحت أثقالٍ من الصمت والظلام...
ولم يبقَ مُتَيَقِّظاً فيها إلا هذا الرجل الذي خرج من داره، يخوض لُجَّة الليل مَارَّاً إلى غايته، ولا يقف ولا يتلفّت...

حتى إذا بلغ الصخرة التي تقوم عند باب المعبد وقف وأحجم، وخالطته هيبة شديدة، ووقر على صدره شيء لم يجد مثله في الغاب الموحش...

وطال وقوفه عند الصخرة... وجعل يحدق في الظلام، فرأى كأن شخصاً عظيم الهامة له لحية بيضاء عريضة قد نبع من الأرض، ففزع وارتاع، ولكنه سمع صوتاً إنسانياً يناديه باسمه ويدعوه إلى أن يتبعه، فعلم أنه الحارس الموكل بباب المعبد.
فلحق به وقلبه يخفق...
فاجتاز به سرداباً طويلاً ملتوياً تُضِيئُه مصابيح نحاسية منقوشة... وفي السراديب تماثيل «آلهة» ذات صور بشعة مُرعبة...
حتى انتهى به إلى قاعة الكهنة الذين لا يراهم أحد...
والذين كانوا هم حكّام البلد وملوكه وأصحاب الكلمة فيه...

وسمع كلاماً يَنْصَبُّ في أذنيه بصوتٍ خافت رهيب، كأنما هو يسمعه حالماً..
وفهم أن المتكلم يذكر ماضي سمرقند وسالف مجدها..
وكيف هبط عليها هؤلاء المسلمون هبوط البلاء، فأزاحوا عرشها وحطَّموا جيشها، وحكموا وملكوا أمرها.
ثم أفاض في الكلام على الخطة التي اختَطَّها لإفساد أخلاقهم ودينهم، وإضعافهم وإلقاء الخُلْف بينهم، وكانت خطة شيطانية ارتجف لسماعها.

ثم عاد المتكلم فقال: غير أنّا رأينا أن نُرجِئ خطتنا ونرمي آخر سهم في جعبتنا..
وذلك أنّا سمعنا أن لهؤلاء القوم ملكاً عادلاً يقيم في دمشق، فأزمَعنَا أن نُرسل إليه رسولاً يرفع إليه شِكَايَتنا ويشرح له مظلمتنا، ثم نرى ما هو فاعل.
وقد اخترناك لمعرفتك العربية وجراءة جَنَانِك لتكون أنت الرسول..
فهل أنت راضٍ؟

قال: نعم..

قال: امضِ بتوفيق الآلهة!...

فلما شد رحاله وسافر، ومضى يقطع الليالي الطوال، والأسابيع والشهور، وهو لا يفتأ يمشي في ظِلال الرَّاية الإسلامية المُظَفّرة... (من سمرقند، إلى بخارى، إلى بلخ، إلى هرات، إلى قزوين، إلى الموصل، إلى حلب، إلى دمشق)...

* * *

وأفاق يوماً من ذُهوله - بعدما صرم (أي: قطع) في هذه الرحلة أشهراً - على صوت الدليل وهو يهتف باسم «دمشق».

هذه دمشق، سُرَّة الأرض، هذه سُدَّة الدنيا...
من هنا تخرج الكلمة التي تمضي مُطَاعةً حتى تنتهي إلى بلده سمرقند...
هنا يقيم الرجل الذي ملك ما لم يملكه في سالف الدهر قيصر ولا كسرى ولا الإسنكدر ولا خاقان، والذي لا يجد من جبال الصين إلى بحر الظلمات من يخالف عن أمره أو يردُّ قوله.

ولكن كيف الوصول إليه؟ وأنَّى لغريبٍ مُنكَرٍ مثلِه بالدخول عليه؟
وخالط قلبه اليأس..
فسأل عن خان ينزل فيه، فأُرشد إلى خان أمضى فيه ليلته..

فلما أصبح أخرج ثيابه فلبس أحسنها وخرج ليلقى الخليفة.
وأقبل على أول إنسان لقيه يريد أن يسأله عن «القصر»، فاعتَرَتْهُ هيبة شديدة وخاف من مواجهة الرجل الذي يحكم نصف الأرض...
وغرق في مخاوفه وأفكاره، وجعل يسير على غير هدى...

حتى رأى قصراً ما له في جلاله نظير، له باب هائل، عرضه مثل الشارع العظيم، له قوس مُشْمَخِرّة عالية ذات مُقَرنَصات ونقوش قائمة على أسطوانتين من المرمر الصافي..
ورأى الناس يدخلون ويخرجون لا يسأل أحدٌ أحداً ولا يمنعه حاجبٌ ولا بوَّاب، فأيقن أنه قصر الخليفة.
وتشجَّع وشدَّ من عزمه ودخل يُقَدِّم رِجلاً ويُؤَخِّر أخرى..
فلمَّا لم يرَ أحداً قد منعه سكنت نفسه..
ونظر فإذا هو في صحن واسع، إذا كنت في طرفه لا تستطيع أن تتبيَّن من هو في الطرف الآخر...

وجعل يمشي خلال الناس ذاهلاً لا يدري ماذا يصنع.. فاصطدم برجل كان يقوم ويقعد ويذكر اسم الله.
وتلفت الرجل إلى اليمين وإلى الشمال، ونظر إليه فرآه غريباً فسأله عن حاله..
فسبق لسانه إلى الحقيقة، فأخبره أنه جاء من بلده يريد لقاء الخليفة..
ثم تنبّه وقدّر أن الرجل سيرتاع لذكر الخليفة بلا تعظيم ولا تبجيل وأنه سيدفعه إلى الشرطي فيستاقه إلى السجن ... فرأى الرجل ساكناً هادئاً كأنه لم يسمع نكراً، وسمعه يقول له: أتحب أن أدلك على داره؟

قال: أوليست هذه داره؟!

قال الرجل مبتسماً: لا؛ هذا بيت الله، هذا المسجد..
أصليت؟
صلى؟!.. وكيف يصلي وهو على دين سمرقند..

وأعاد الرجل سؤاله..
فقال: لا؛ لم أصلِّ، ولا أعرف ما الصلاة.

قال: وما دينك؟

قال: أنا على دين كهنة سمرقند.

قال: وما دينهم؟

قال: لا أدري؟

قال: مَن ربك؟

قال: آلهة المعبد المرعبة.

قال الرجل: وهل تعطيك إن سألتها؟ وهل تشفيك إن مرضت؟

قال: لا أدري ...

ورآه الرجل ضالَّاً جاهلاً، فألقى في هذا القلب الخالي أصول الدين الحق بوضوحها واختصارها وجمالها..
فلم تكن إلا ساعة حتى صار رسول كهنة سمرقند مؤمناً بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم...

ثم قال الرجل: قم الآن أدلّك على دار الخليفة، وإن كانت هذه هي الساعة التي يعالج شأنه فيها وشأن عياله وينفرد بنفسه.

وتبعه وهو يفكر في جمال هذا الدين وسموّه، وقد زالت الغشاوة عن عينيه فأدرك الآن سر هذه الفتوح وهذه القوة التي لم يقم لها شيء...

وخرج من المسجد من باب غير الذي دخل منه، فما راعه إلا الرجل يقول له (مشيراً إلى باب من ألواح الخشب، غير مصبوغة ولا منقوشة): هذه داره.

هذه؟! أيمكن أن تكون دار الخليفة دون دور السُّوْقة من رعيته؟! (أي: عامة الناس)...

ونظر إلى الرجل يحسبه يسخر منه فرآه جادَّاً..
فتركه وتقدم من الباب وهو شاكٌّ فيما قال الرجل..

ونظر فرأى كهلاً قائماً يُصلِح بالطِّين جدار المنزل، وامرأة تعجن ...
فترك الباب، ولحق بالرجل مغيظاً محنقاً
فقال له: ما كان لك أن تكذب عليّ وتسخر مني.. أسألك عن دار الخليفة فترشدني إلى دار طيَّان؟

قال: ومن الطيّان؟

قال: صاحب الدار (ووصف له ما رأى).

قال الرجل: ويحك! هذا - والله - أمير المؤمنين (هو عمر بن عبد العزيز) الذي ليس فوقه إلا الله..
وهذه المرأة ... ألا تدري من هذه المرأة؟
هذه زوجة الخليفة عمر، وبنت الخليفة عبد الملك، وأخت الخليفتين وليد وسليمان، وأخت هشام ويزيد وسيكونان خليفتين؛ هذه أمجد امرأة في العرب.
ولقد كان أمير المؤمنين أرفَه الناس عيشاً وأكثرهم طِيباً، ولكنه كان فيه عرق من عمر بن الخطاب فنزع به عرقه من عمر إلى ما ترى..
فعُدْ إليه فاقرع بابه وانفُض إليه شَكاتِك ولا تخف؛ فوالله ما هو الملك المتكبر ولا الحاكم الجبار، ولكنه عبدٌ لله متواضع هيِّنٌ ليِّن، فإذا رأى الحق أمضاه فلم يقف دونه شيء، وإذا غضب لله كانت العواصف والصواعق دون غضبه قوة ونفاذاً ... فاذهب موفَّقاً.

مضى السمرقندي نحو دار الخليفة يتعثَّر في مِشْيَته، يُقَدِّم رِجلاً ويؤخر أخرى، تتّقِد نار الحماسة في نفسه فيخطو ثم تعصف بها رياح الشك فيقف..
وكان يطير به الخيال إلى ملوك بلده فيتصور تلك الحجب على القصور، وأولئك الحُجَّاب على الأبواب، والسيوف المُصلتة والرماح المُشرعة، ثم يبصر هذه الدار ... وهذا الذي قالوا إنه أمير المؤمنين، فيزداد به الشك...

واستقر في نفسه أن الرجل يسخر به..
فعَدَا (أي: ركض) وراءه حتى لحقه وقال له: ناشدتك الله أيها الرجل، هل هذه الدار هي دار أمير المؤمنين؟
قال: نعم، والله إنها لهي داره!
هذه دار الرجل الذي أورثته شريعة القرآن تيجان الملوك الأربعة: كسرى وقيصر وفرعون وخاقان، فكانت هامته أرفع من أن يبلغها تاج منها..

سمع - غداة بويع بالخلافة مُكرَهاً - هَدّةً ارتجَّتْ منها الأرض، وكان منصرفاً من دفن أمير المؤمنين سليمان..
فقال: ما هذا؟ قالوا: مراكب الخلافة قُرِّبت إليك لتركبها، بالسروج المُحَلّاة بالذهب المُرَصَّعة بالجوهر.
فقال: ما لي وما لها؟ نَحُّوها عني وقرِّبوا لي بغلتي.
وأمر بها أن تباع ويدخل ثمنها بيت مال المسلمين.
فقُرِّبت إليه بغلته فركبها، وجاءه صاحب الشرطة يسير بين يديه بالحربة فقال له: تنحَّ عني، ما لي وما لك؟ إنما أنا رجل من المسلمين!

ومشى بين الناس راكباً على بغلته (بلا موكب ولا حربة ولا راية ولا طبل). الرجل الذي يحكم الأندلس ومرّاكش والجزائر وتونس وطرابلس ومصر والحجاز ونجداً واليمن وسورية وفلسطين والأردن ولبنان والعراق والعجم وأرمينية والأفغان وبخارى والسند وسمرقند ...
مشى ومشى الناس بين يديه حتى دخل المسجد، فقام على المنبر..
فقال: أيها الناس، إني قد ابتُليت بهذا الأمر من غير رأي كان مني فيه، ولا طلب له، ولا مشورة من المسلمين.
وإني قد خلعت بيعتي من أعناقكم، فاختاروا لأنفسكم.

فصاح الناس صيحة واحدة: إننا اخترناك ورضينا بك.

ومشى إلى الخضراء، وما الخضراء؟ جنة الأرض التي حُشر إليها كل ما في الأرض من كنوز وطُرَف، القصر الذي أزرت عظمتُه بالخورنق والسدير وغمدان والإيوان. فأمر بستورها فأنزلت، وببسطها ونمارقها فطُويت، وبطرفها وكنوزها فحملت، وأمر ببيع ذلك كله ووضع ثمنه في بيت المال..
وأمَّ (أي: قصد) داره هذه.
فقال الناس: إنه رجل صالح، ولكن المُلْكَ له أهل..
إن المُلْك لا يُقِيمُه إلا قويٌّ أمين ابن دنيا.

ظنوه أمّ داره يقبع فيها يسبّح ويهلّل..
فإذا به يحدُّ قلمه ويُعِدّ قراطيسه، ويكتب من فوره بيده إلى أقاليم الأرض منشوراً فيه الدستور الذي لا يقوم إلا به الملك، ويُنفِذ الكتب من ساعته..
فعلموا أن خليفتهم زاهد في الدنياْ ولكنه ابنها وأبوها.

فَعَل ذلك كله من الصباح إلى الضحى.
ثم ذهب يَقيل (أي: ينام القيلولة)..
فأتاه ابنه عبد الملك فقال:
يا أمير المؤمنين، ماذا تريد أن تصنع؟
قال: أيْ بُنيّ، أَقِيل..
قال: تقيل ولا تردُّ المظالم؟
قال: أي بُنيّ، إني قد سهرت البارحة في أمر عمك سليمان، وإني إذا صليت الظهر رددت المظالم.
قال: يا أمير المؤمنين، مَن لك أن تعيش إلى الظهر؟

فترك مقيله وخرج فبعث مناديه ينادي: ألا من كانت له مَظلمة فليرفعها، فإني مُنْصِفُه من نفسي ومن آل بيتي ومن الناس أجمعين.
ولقد - والله - فعل أكثر مما قال!

نعم يا أيها الغريب، هذه دار أمير المؤمنين، فلا يغْرُرك صِغَرها وضِيقُها وعطل أبوابها من الزخرف وجدرانها، وأنه لا حاجب عليها ولا جند ببابها..
فإن هذه الدار أكرم من كل قصر حمَلَته على ظهرها هذه الأرض..
فامشِ إليها ولا تخف!

فعاد السمرقندي، فلما دنا من الدار سمع ضجّة ورأى ولَدَيْن قد شج أحدهما الآخر شجة مُنكَرة، ورأى الخليفة يخرج بنفسه فيأخذ الولدين..
فيراه فيسأله، فيقول: إني متظلّم يا أمير المؤمنين. فيقول له: مكانَك حتى أعود إليك.

ويدخل بالغلامين، ويسمع السمرقندي صوت امرأة تصرخ: «ابني»، فيعلم أنها أم الوليد المشجوج..
وتدخل الدار مُرَيْئةٌ(تصغير امرأة) فترى الولد الآخر فتقول: «ابني».
ويسمع القصة فيعلم أن ابن أمير المؤمنين قد خرج يلعب مع الغلمان فشجّه ابن هذه المرأة، وتقول المرأة: ارحموه، إنه يتيم فقير!
ويرق قلب السمرقندي ويشفق على هذه المرأة أن تُضرب عنق ابنها أمامها وهو طفل لا ذنب له ولا يُسأل عن فعلته، وإذا بأمير المؤمنين يقول لها: أما له من عطاء (يعني: راتب)؟ فتقول: لا. فيقول: سنكتبه في الذريَّة.

وخرج الخليفة فدعاه فسأله عن حاله، فشكا إليه قتيبة وأنه دخل سمرقند غدراً من غير دعوة إلى الإسلام ولا منابذة ولا إعلان.
فقال الخليفة: والله ما أمَرَنَا نبيُّنا بالظلم ولا أجازه لنا، وإن الله أوجب علينا العدل في المسلمين وغير المسلمين. يا غلام ... قلماً وقرطاساً.

فجاءه الغلام بورقة قدر أصبعين، فكتب عليها أسطراً وختمها وقال له: خذها إلى عامل البلد!

* * *

ورجع يطوي هذه الشُّقّة (أي: المسافة) مرة ثانية، وكلما وصل إلى بلد دخل المسجد فوقف في الصف، كتفه إلى كتف أخ له في الإسلام ووجهته وجهتُه، وفي قلبه إيمانه وعلى لسانه تسبيحاته وتكبيراته...

ووصل إلى المعبد...
وقرع الباب قرعة السر ففُتح له، ورآه الكهنة بعد أن حسبوا أنهم لن يروه أبداً، ووصف لهم ما رأى فكادت أعينهم تخرج من حناجرهم دهشة وأيقنوا أن قد جاءهم الفرج، وأمروه فحمل الكتاب مختوماً إلى العامل..
فإذا فيه أمر الخليفة بأن يُنَصِّبَ قاضياً يحتكم إليه كهنة سمرقند وخليفة قتيبة، فما قضى به نفذ قضاؤه.

وأطاع العامل ونصب لهم قاضياً: (جميعَ بنَ حاضر الباجي)، وعيَّن موعد المحاكمة.
ولما عاد فأخبر الكاهن الأكبر أظلم وجهه بعد إشراقه، كما ترْبَدّ في سماء النهار الصحو السحبُ السود، وخبا ضياء الأمل الذي بدا له فحسبه فجراً صادقاً فإذا هو برق خُلَّب ... وأيقن أن هذه المحاكمة فصل جديد من كتاب غدر المسلمين.

وجاء اليوم الموعود، واحتشد أهل سمرقند من كل قاصٍ منها ودانٍ، وجاء الكهنة الذين كانوا محتجبين لا يراهم أحد، وجاء القائد الفاتح الذي خلف قتيبة. وكانت المحكمة في المسجد، فقعدوا ينتظرون القاضي.

ولم يكن الكهنة يأمُلون في شيء ... وفيمَ يأمُلون؟ في أن يحكم لهم القاضي المسلم بطرد المسلمين من سمرقند؟
يحكم لهم هم المغلوبين على أمرهم، المخالفين للقاضي في دينه، الذين لم يبق لهم حول ولا طول؟

وعلى من يحكم؟ على خلفاء القائد المُظَفَّر الفاتح الذي لم يطأ أرضَ المشرق قائدٌ أعظم منه، ولا أكثر ظفراً، ولا أعظم فتحاً، إسكندر العرب: قتيبة؟

كانت القلوب تخفق ارتقاباً لأعجب محاكمة سمعت بها أذنا التاريخ..
وكانت الأبصار شاخصة إلى باب المسجد الذي يدخل منه القاضي الفرد الذي وُضعت في عنقه أعظم أمانة وُضعت في عنق قاض...

ونظروا فإذا رجل له هيئة الأعراب، هزيل، ضئيل الجسم، شاحب اللون، قد لاث على رأسه عمامةً له، ووراءه غلام.
فجاء حتى قعد على الأرض محتبياً، وقام غلامه على رأسه.

أهذا هو الرجل الذي أتى ليحكم على خليفة قتيبة العظيم، وعلى أميره، وعلى مصلحة دولته؟ أهذا هو قاضي المسلمين؟

وانطفأت آخر شعاعة من الأمل في نفوس الكهنة.
ونادى الغلام باسم الأمير، وهكذا بلا إمارة ولا لقب..
فجاء حتى جلس بين يديه..
ونادى باسم كبير الكهنة فأجلسه إلى جانبه.

وابتدأت المحاكمة ...

* * *

وتكلم القاضي فإذا صوته يخرج خافتاً ضعيفاً، فقال للكاهن: ما تقول؟

قال: إن القائد المبجل قتيبة بن مسلم قد دخل بلدنا غدراً من غير منابذة ولا دعوة إلى الإسلام.

قال القاضي للأمير: ما تقول؟

قال: أصلح الله القاضي.. إن الحرب خدعة، وهذا بلد عظيم قد أنقذه الله بنا من الكفر وأورثه المسلمين.

قال: أَدَعَوْتُم أهله إلى الإسلام، ثم إلى الجزية، ثم إلى القتال؟

قال: لا.

قال: إنك قد أقررت. وإن الله ما نصر هذه الأمة إلا باتباع الدين واجتناب الغدر، وإنّا والله ما خرجنا من بيوتنا إلا جهاداً في سبيل الله؛ ما خرجنا لنملك الأرض ولا لنعلو فيها بغير الحق.
حكمتُ بأن: (يخرج المسلمون من البلد ويردوه إلى أهله، ثم يدعوهم وينابذوهم ويعلنوا الحرب عليهم.)

ورأى الكهنة وأهل سمرقند وسمعوا، ولكنهم كذّبوا عيونهم وآذانهم، وظنوا أنهم في حلم، ولبثوا شاخصين. حتى إن أكثرهم لم يلحظ أن المحاكمة قد انتهت، وأن القاضي والأمير قد انصرفا.
وجعل صاحبنا السمرقندي المسلم ينظر في وجه الكاهن الأكبر، فيحس أن نور الحق قد أشرق على قلبه الذي رققته العزلة والتأمل.

ومرّت ساعات، وإذا الجو يموج بصليل الأبواق ويرتجف من إرعاد الطبول، ونظر، فإذا الرايات تلوح على حواشي الأفق القريب، فسأل: ما هذا؟

قالوا: لقد نُفِّذ الحكم وانسحب الجيش.

هذا الجيش الذي لم يقف في وجهه شيء من مدينة يثرب إلى سمرقند، والذي اكتسح جيوش كسرى وقيصر وخاقان، ردَّتْهُ كلمة من شيخ هزيل خافت الصوت، ليس معه إلا غلام، بعد محاكمة لم تستمر إلا دقائق.
ولكنه سينذر وسيعود إلى القتال، أَفَتَقْوَى سمرقند على ما عجزت عنه الممالك كلها؟

وأقبل يسأل أصحابه: ماذا تقولون؟

فيقول السمرقندي المسلم: أمّا أنا فلقد شهدت أنه لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله.

فيقول الكاهن: وأنا أشهد.

وتتزلزل سمرقند بالتكبير..
ويعود الجيش المسلم إلى البلد المسلم؛ لم يبقَ حاكم ولا محكوم، ولا غالب ولا مغلوب. صار الجميع إخواناً في الله؛ لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لقوي على ضعيف، إلا بالتقوى والصلاح وخِلال الخير.

ودخلت سمرقند كلها في الإسلام، فلن تخرج منه أبداً.

من كتاب: (قصص من التاريخ)