الشاطئ الآخر من الحقيقة

الشاعر محمود درويش
جمال سلطان
لا أعرف إن كنت سأجرؤ على انتقاد الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، ولكني أشعر باحتياج ثقافي وأخلاقي لقول كلمتي، خاصة وأن متابعة تاريخ الحركة الشعرية العربية الحديث استغرق مني سنوات انتهت بإخراج كتابي "أدب الردة .. قصة الشعر العربي الحديث"، قبل حوالي خمسة عشر عاماً، والذي اشتغل على فن من الفنون سنوات يشعر عادة أنه مشارك حتمي في أي خلاف نقدي يقع في نطاق هذا الفن، وهذا ما استشعرته عندما قرأت المبالغات الكثيرة، والتي اتصف بعضها بالفجاجة في تقييم محمود درويش، وهو تقييم اختلط فيه الموقف السياسي بالقيمة الشعرية، والحقيقة أن القيمة الفنية دائماً تكون موضع خلاف بين النقاد وبين القرّاء، إلاّ أن الموقف السياسي والإنساني يصعب أن يكون موضع خلاف، إلاّ إذا غيّبنا الحقائق والمعلومات والمحطات التاريخية الثابتة للأديب، وهذا ما حدث مع محمود درويش.
الحملة الواسعة التي انتشرت في رثاء محمود درويش صوّرته كرمز لنضال الشعب الفلسطيني وقيادته إلى الحرية عن طريق الفن، والحقيقة أن الأمر على خلاف ذلك تماماً؛ فمنذ بواكيره الأولى وقضية الحرية أو الاستقلال لم تكن محورية في فكر محمود درويش، كما أن الاعتراف بإسرائيل كان ملمحاً أساسياً في نشأته السياسية والفنية معاً، كان درويش يعتبر نفسه مواطناً إسرائيلياً، حتى إنه وافق على أن يشارك في العام 1968 في ملتقى أثينا الشعري الدولي ضمن الوفد الإسرائيلي، ونُشرت الصور حينها لمحمود درويش وسميح القاسم وهما يسيران تحت العلم الإسرائيلي، كان ذلك بعد أشهر قليلة من الجرح الدامي العميق في قلب كل عربي ومسلم، بعد نكسة يونيو 1967، وشعور العرب بالمرارة والهوان، كذلك كان اختيار درويش السياسي منذ البداية هو اليسار، واليسار الماركسي تحديداً، وليست هذه هي القضية التي نتوقف عندها، ولكن درويش عندما اختار اليسار فقد اختار اليسار الإسرائيلي، وانضم إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي كعضو فاعل فيه، ودافع عن اختياره بحرارة سجلها أكثر من مؤرخ للحركة الشعرية الفلسطينية، وظل درويش طوال حياته يحمل هذه المشاعر الدافئة والحميمية مع الإسرائيليين، وكانت صداقاته بينهم أكثر من صداقاته مع الفلسطينيين أنفسهم، كما كان حريصاً على التواصل مع الصحافة الإسرائيلية والنخب المثقفة، وتتحدث عنه الصحافة الإسرائيلية بودّ كبير لا يشوبه أي أثر لصراعات وجود أو خلافات سياسية عميقة، ربما أحياناً يشوبها نوع من القسوة في النقد الفني لإحدى قصائده، ولكن في النهاية كانوا يعتبرونه شاعراً إسرائيلياً بقدر ما هو شاعر فلسطيني، حتى إن عدداً من قصائده كان مقرّراً على طلاب المراحل التعليمية المختلفة في إسرائيل، باختيار وزارة التعليم الإسرائيلية التي دافعت بحرارة عن اختيارها هذا بكيل الثناء لدرويش، وقد كان الشاعر الكبير يراعي هذه الصداقة كثيراً في المواقف الحاسمة، ويُذكر أنه عندما تداعى بعض المثقفين والأدباء العرب لعقد مؤتمر في بيروت يناقش قضايا (الهولوكوست) برؤية نقدية، سارع درويش مع بعض الشعراء المهاجرين أمثال أدونيس بإصدار بيان عنيف يهاجم هذا المؤتمر ويدعو إلى مقاطعته، الأمر الذي دفع السفير الإسرائيلي في باريس إلى إرسال رسالة شكر معلنة لدرويش تقديراً لموقفه "الإنساني" من قضية الشعب اليهودي!!
ولا يذكر التاريخ لمحمود درويش أي موقف نضالي بأي صورة من الصور ضحى فيه بأي تضحية من أجل قضية الشعب الفلسطيني، وقد عاش الرجل مدلّلاً ـ إن صح التعبير ـ طوال مراحل حياته، وأنفقت عليه ببذخ منظمة التحرير الفلسطينية، كما ضمّه عرفات إلى لجنتها التنفيذية عدة سنوات، ولم يبخل عليه في مختلف نشاطاته بما في ذلك مجلة الكرمل الباذخة التي صدرت سنوات في باريس، ولا في رحلات علاجه في أمريكا، وفي اعتقادي أن قدراً كبيراً من شهرة درويش ومكانته كان مردها روح العطف والجاذبية الآسرة لنبض الأرض المحتلة طوال مرحلة الستينيات والسبعينيات، وكذلك انتماؤه اليساري الذي جعل هناك لوبي نقدي هائل من المحيط إلى الخليج يكتب عنه بغزارة، ويعرف بكل كلمة تصدر عنه، في حين تم تجاهل كل الآخرين تقريباً، لدرجة أن معظم الأجيال العربية الجديدة لا تعرف أن هناك شعراً أو شعراء في فلسطين بخلاف محمود درويش؛ فقد أهالوا التراب على أسماء كبيرة في دنيا الشعر العربي الفلسطيني من مثل هارون هاشم رشيد، ويوسف الخطيب وعز الدين المناصرة ومأمون جرار وآخرين كثر، لمجرد أن لهم انتماء سياسياً أو ثقافياً خارج عن دائرة اليسار، أو لم يحظ بالرعاية المالية والإعلامية والمؤسسية الضخمة لمنظمة التحرير الفلسطينية، أنا لا أقصد من ذلك أبداً الانتقاص من مكانة محمود درويش الفنية، ولكن القصد هو الكشف عن الجانب الآخر من شخصيته وحياته، لكي يكون حكمنا عليه وتقييمنا له عقلانياً وموضوعياً بصورة أفضل، وربما لكي نتذكر أن فلسطين كما كانت ولّادة بالمناضلين الصامدين؛ فهي قطعاً ولّادة بالشعراء المجاهدين الذين لم يمروا بالضرورة من بوابة اليسار الفلسطيني أو الإسرائيلي أو العربي سواء.