أنا وحاسبي والزمن
د. ريمه عبد الإله الخاني
يعادل حاسبي هذا مرجا من العشب، سفحا من جبل تظلله الغيوم الماطرة، أشجارا من التفاح الأحمر اللذيذ، حاسبي هذا يتسع صدره لكل كلماتي وبوحي، يستمع إلي أنا فقط، تلك الأنا التي خرّبت العالم...والتي فرقت الأحباب وبعض الأصحاب والجيران، أرمي فيه أفكاري فيستقبلها برحابة صدر، يسمعني ويسجل على صفحته البيضاء الساذجة...قالتها فأصخت لها السمع وحفظتها جيداً:
-عندما خرجنا من منازلنا بسبب نار تحرق وتخرّب بلاسبب، تفرق الأحباب، وانحسرت القصص والأحاديث بيننا والتي كانت تفتح باب الخلاف والصلح معا، أغلقنا بابنا الجديد، وفمنا كذلك بعد أن فصلتنا طرق ومسافات.....لكن بات الأصحاب خير من الأقرباء، اكتشاف مرير غريب.
وجدته يبكي في زاوية الطريق، يبكي بحرقة..سألته مالك ؟فقال نقودي ضيعتهم منذ قليل، أمسكت وجهه بلهفة وصرخت في وجهه:
-ألست أنت أنت من بكى منذ شهر وبنفس المكان وبنفس الحجة والسبب؟، فأعطيته نقودي كلها؟ حيث امتنع الناس عن فعلها رعك تجمعهم حولك؟.
-لالا أبدا، لست أنا لست أنا..
-بل أنت أيها الكذاب..تستغل شفقة الناس؟ يالك من ممثل بارع.
أكمل البكاء...وأشاح وجهه عني، فنبهت بعض المارة ..ومضيت..
في طريقي توقفت عند دكان للبنّ أشتري منه حاجتي، فقد غدوت مدمنة على شرب القهوة، وأنا برفقة حاسبي الحبيب، الذي أخبئ فيه كل أفكاري، دخل الدكان متجاهلا كل الزبناء وأردف قائلا:
-حسنة لله ساهموا لوجه الله تعالى تحجزوا غرفة في الجنان..
نظر إليه الأجير، وهو يتأمل ثوبه الديني الأنيق ولفته البيضاء النظيفة، قائلا:
-إن صاحب الدكان غير موجود الآن..
فصاح مستنكرا، وغاضبا ومستغربا بآن:
-في كل مرة يساهم معلمك في الدفع، هل هرب اليوم؟ ياعيب الشوم..هذه لبنة في بيته في الجنة.
-هل تؤخذ الصدقة رغما عن الناس ياشيخنا؟.
خرج يتمتم بغضب، حتى خرج لنا صاحب الدكان من مكان ما من داخله قائلا:
-لاتعطوه نقودا البتة، إنه لص ذكي ولئيم بنفس الوقت، نبهوا الناس...
مضيت في طريقي متلفتة متأملة في وجوه الناس الواجمة، كل يحمل بوحا في عينينه لايجد من يسمعه وابتسامة صفراء لاتحمل معانٍ جميلة جدا؛ هل فعلا إذا جاع الإنسان بات وحشا مفترسا؟، أم هو كذلك بجوع وبلا جوع؟.تذكرت حاجتي للخبز في المنزل، فوقفت بالطابور، لتمد إحدى النساء يدها قائلة:
-رغيف خبز واحد فقط، وكأس ماء من فضلك..
وكأنها في منزلها والجميع إخوتها، تململ الناس وتأفف الواقفون في الطابور، ليعطيها ماتريد صامتا، لكنها لم تتزحزح، قائلة من جديد:
-سوف أوفي ديني لاحقا، ولكن هل من رغيفين آخرين؟ لدي أيتام في نصف المنزل الذي أعيش فيه..
بدأ الناس يكيلون السباب والشتائم، ولم تتزحزح!...فأعطاها ..ومضت حيث قال أحدهم:
-هذه متسولة..هذا فن جديد في استجداء عواطف الناس..كيف ترد يارجل بالإيجاب عنه ؟
حدجه بنظرة غريبة صامتا،مضيت في طريقي قافلة ..ودماغي تهذي وحدها وتتساءل:
كيف تتشوه الصورة النمطية في رؤوسنا؟، وكيف علينا تغيير ماثبت فيه من عشرات السنين؟، حيث تمكنت منه وتجذرت؟، كيف نقتلعها ونصدق كل ماشكك فيها؟،هل هناك من يحاول تشويه الصورة القديمة عمدا ليشوش تفكيرنا؟ كيف نسمح لأحدهم أن يعتبرنا ساذجين لهه الدرجة؟، وهل شعار أكذب أكذب حقيقي؟، هذا ينطبق على كثير من الأمور الكبيرة الصغيرة، ماهذا الزمن الغريب؟، والذي لم يعد فيه أيّ أمر ثابت؟ فقد تصبح أمك أبوك، وأختك صديقتك، وجارك مديرك بالعمل؟.الكابوس الحقيقي، أن تجري وراء سراب فتكتشف بعد عدوٍ ومناطحة، وسعيٍ و ملاحقة ،أنه كان الحقيقة وأنت الوهم....أو أن كل ماحولك كانوا وهما وأنت الحقيقة الغائبة، أن كلمة المحبة تحمل مصالحا خفية، وأن المحبة الحقيقية غير موجودة أصلا...سوف يكون الكون حينها جحيما حقيقيا حينها، ولكن مازال في الإيمان الحقيقي نورا يلوح لنا من بعيد، ويقول لنا دوما:
-هلموا إلي فأنا هنا الحقيقة الباقية.
الخميس 27-2-2020