أحمد الصافي النجفي زرع الشعر فحصد الفقر

د. أنس تللو

الأحد, 27-10-2019


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

رجلٌ منحته الدنيا فقراً وبؤساً وقبحاً ودمامة، لكنها أناخت عليه براعة شعرية هائلة ووهبته ذائقة أدبية فائقة.
رجلٌ حاصره الفقرُ والشحُّ ولاحقهُ التشردُ والحرمان… لكنه ناطح القدر وجابهَ التحدي.
رجلٌ يهالُكَ منظره حين تراه فتبتعد عنه وتنفر منه… ثم يطربك شِعره حين تسمعه فتقرب منه وتهفو إليه.
فما كانت الطبيعة لتتوجه بذلك القبح الشديد إلا لأنها تعوضه بتلك الموهبة الشعرية الخارقة.
واجه الصافي النجفي ظروفاً عاتية طغت على حياته، فقد ولد في النجف بالعراق عام 1897 توفي أبوه وهو في العاشرة وتوفيت أمه وهو في السابعة عشرة، فعانى الحرمان وذاق شظف العيش وضاقت به الدنيا فغادر موطنه الأصلي عام 1920 وذهب إلى إيران.
جاء إلى إيران حاملاً في نفسه روائع من العلم والأدب والدين… تلك التي كان يتلقفها في النجف من خلال تردده على المنتديات الأدبية والجلوس إلى العلماء والأدباء.
في إيران كان يدرِّس اللغة العربية في المدارس الثانوية، وفي الوقت نفسه انكبَّ على تعلم اللغة الفارسية وحذق بها، إلى أن انتخب عضواً في النادي الأدبي الفارسي، وعضواً في دار الترجمة والنشر.
بقي في إيران سبع سنوات وقام خلالها بعمل جبار، وهو تعريب رباعيات الخيام، فكم بديع أن ينقل شاعر عربي شعراً فارسياً ممتعاً إلى اللغة العربية فيُكسِبُهُ جمالاً ويعطره بمعان زاهية، بل لقد اعترف بعض أدباء إيران بأن النجفي قد قام في بعض التعريبات بالترجمة إلى العربية بأسلوب يفوق الأصل الفارسي بلاغة.
كما قام بترجمة كتب لعلي الجارم وأحمد أمين إلى اللغة الفارسية.
ثم عاد إلى العراق؛ لكن شدة الحر أثرت في صحته فقدِم إلى سورية ولبنان، وأخذ يتنقل بين دمشق وبيروت.
في دمشق عاش فتنة العيش ولذة الهوى، وذاق الخير واستنشق عبير الهناء، وأحسَّ أن المكوث فيها يُنسي المرء أهله ووطنه، يقول في ذلك:
أيقنتُ أني من أهل الجنان، ففي
دمشقَ أسكن جناتٍ تفيضُ هنا
عجبتُ ممن أتاها كيف يبرحها
فهل يرى في سواها عن دمشق غنى
قال هذا على الرغم من أن سكنه في دمشق لم يكن مريحاً أبداً… فقد كان يعيش نهاره في مقهى الكمال أو مقهى الهافانا، يتربع على الكرسي، ويبدأ بالكلام أمام محبيه وسماره… حتى إذا ما انقضى النهار أوى إلى غرفة بالية عتيقة قريبة من الجامع الأموي تشاركه فيها الفئران ويعمي ترابها عينيه، يكابد فيها البرد شتاءً ويعاني فيها الحر صيفاً… يقول عنها:
أكابدُ البرد في سراجٍ
يكادُ من ضعفه يموتُ
في غرفةٍ ملؤُها ثقوبٌ
أو قلْ ملؤُها بيوتُ
للفأر في مأكلي غذاءٌ
والبقُّ جسمي لديه قوتُ
لم يقترن الصافي بامرأة ولم يتزوج… وسُئل عن ذلك فقال:
تزوجت بنات أفكاري وأنجبت ستة عشر ديواناً.
وقال:
إن الزواج مسؤولية خطيرة، وأنا إنسان مريض غير قادر على مداراة مزاج الزوجة وتلبية طلباتها الملحة… لقد وجدت سعادتي مع الكتاب؛ فغدا زوجتي المفضلة والكتب أولادي النجباء.
على أن الصافي لم يكن متشائماً ولم يكن ممن ينفرون من المرأة، بل كان يتغني بها، ويصف مباهجه الحسية، يقول:
كتبتْ عيونُك في فؤادي أسطرا
لم يمحها بُعدٌ ولا تعذيبُ
مازال للقبلاتِ طعمٌ في فمي
فيها أهيمُ وأنتشي وأغيبُ
ياسكرةَ القبلاتِ عيشي في دمي
فلقد وفيتُ وما وفى المحبوبُ
والآن – يقول الصافي – وبعد مضي هذه الأعوام فإنني أقول بمنتهى الثقة: إنني إنسان محظوظ ما دمتُ أعيش عزباً، إذا لم يحطم أعصابي شجار الزوجة، ولا صراخ الأطفال… وأنا رجل في منتهى الحساسية والتأثير.
لكنه حين بلغ الستين من العمر عصف به الألم واستبدت به الشكوى، ندم وتحسر ونادى… ولكن ما من مجيب، يقول في ذلك:
أستقبلُ الستين مستوحشاً
لا أهلٌ، لا مالٌ، لا ولدُ
لا مسكنٌ آوي له ثابتٌ
لا سكنٌ لا هندٌ لا دعدُ
توفي الصافي النجفي عام 1977.
لقد عاش الصافي رحمه الله حياته بائساً وسعيداً في آن معاً.
ولا يفوتني أن أشير إلى أني سردت على مسامع العلامة الكبير الدكتور عبد الكريم اليافي رحمه الله كلام الصافي النجفي عن الزواج حين قال:
تزوجتُ بناتَ أفكاري فأنجبت ستة عشر ديواناً…
فقال الدكتور اليافي:
هذا الكلام غير صحيح… هذا الكلام يقوله الإنسان الذي لا يستطيع أن يتزوج… يمكن للإنسان أن ينجب أولاداً وينجب دواوين.