عبد الستار قاسم
تابعت القوات اليمنية المكونة من الجيش واللجان الشعبية وهي تدخل جيزان وتحاصر المواقع8 العسكرية السعودية وتدمر الآليات وتأسر الجنود ببساطة وبدون معاناة أو قتال حقيقي. شاهدت الجنود السعوديين ومن ارتزق معهم وهم يفرون من أرض المواجهة، وضاقت بهم الأرض واستسلم منهم من استسلم، وقتل وجرح منهم المئات. أعادني المشهد إلى حرب عام 1967 عندما ولت الجيوش العربية الأدبار أمام جيش الصهاينة بدون قتال. أطلق جنودنا يومها أرجلهم للريح، فقتل منهم من قتل، ومنهم من وصل إلى مأمن وبمكرمة من جيش الصهاينة.
لم أر معركة على أرض جيزان، وإنما رأيت فوضى عسكرية ولا ضابط لها أو منسق. مدرعات تفر من أرض المواجهة ولا تجد مخرجا فتقع في مصيدة الحصار العسكري اليمني، وجنودا تائهين لا ملجأ لهم، ولا يبدو أنهم تمتعوا بتدريب عسكري، ولا يبدو أنهم اكتسبوا خبرة في التعامل مع الظروف العسكرية القاسية. وظهر أن إطلاق النار كان عشوائيا وبدون هدف، ما يدلل على انعدام الاستطلاع، وعجز مخابرات الجيش السعودي عن توفير المعلومات. غنم الجيش اليمني واللجان الشعبية مئات العربات العسكرية على كافة أنواعها، وغنموا أسلحة متنوعة من كل الأصناف الأمريكية، ومنها الثقيل والمتوسط والخفيف. وقد قلت في نفسي إن السعودية تشتري الأسلحة من أمريكا للحوثيين، وإن أمريكا التي تتخوف من سقوط أسلحتها بأيدي الحوثيين ومن ثم إلى إيران، تصدر السلاح مباشرة لهم عبر السعودية.
ما رأيته يؤكد غلبة العقل والإرادة على العضلات، أي القوة العسكرية. السعودية تستورد سنويا ما يعادل مليارات الدولارات من العتاد العسكري الأمريكي والأوروبي، وهي متفوقة جدا بالعتاد والأعداد على الحوثيين والجيش اليمني. بل لا مقارنة بين قدراتها العسكرية من ناحية التسليح وقدرات اليمنيين. بدأ اليمنيون قتالهم ضد التحالف العربي السعودي بأدوات بدائية، ولم تكن لهم طاقة تسليحية أو عددية على مواجهة التحالف. تصرف السعوديون كالثور الهائج وأوهموا أنفسهم وكل العالم أنهم منتصرون خلال وقت قصير. دكت السعودية والإمارات أرض اليمن دكا، وكان التفاؤل الغربي بانهيار اليمن خلال أشهر قليلة. وتتالت سنوات القتال إلى أن أصبحنا الآن في السنة الخامسة. الحرب تأكل أبناء العرب وأموال العرب وتدمر منشآت العرب وتهدم بيوت الفقراء والمساكين العزل الذين يتجنبون الحروب والمآسي والأحزان ما أمكن العرب يأكلون أنفسهم باستمرار سواء على مستوى الحروب البينية أو الحروب الداخلية.
جاءت عملية جيزان اليمنية بعد استهداف منشآت شركة البترول العربية الأمريكية (أرامكو) والتي كانت ضربة مدمرة للاقتصاد السعودي. بكل سهولة وصلت الطائرات اليمنية المسيرة. والصواريخ إلى هدفها وأحدثت انفجارات هائلة دون أن تكون المعدات السعودية المضادة للطيران والصواريخ من رصدها وتدميرها. ثم تختبئ السعودية وأمريكا تحت غطاء الادعاء بأن إيران هي التي قامت بالعمل. على فرض أن إيران هي التي نفذت العمل العسكري، يبقى السؤال قائما:/ أين صواريخ الباتريوت وأين طائرات الاستطلاع، وأين أجهزة الإنذار المبكر، الخ؟ هل تملك إيران قدرة إطلاق صواريخ وطائرات مسيرة تطير على ارتفاع عشرة أمتار حتى لا تكشفها أجهزة الرادار؟ إذا كانت فإن أمريكا حقا في مأزق تقني أمام التقنية الإيرانية.
الحق واضح وهو أن اليمنيين استغلوا ضعفهم وقلة عتادهم العسكري ليطوروا قدراتهم الذاتية ويتبعوا نظرية الاعتماد على الذات. ونظرية الاعتماد على الذات تتطلب عنصرين أساسيين وهما العقل والإرادة. إذا توفر التفكير العلمي، وسادت العقلانية والتفكير الهادئ، وإذا توفرت الإرادة على العمل والسهر والتعب، فإن المستحيل يتحول إلى ممكن.
هكذا فعل اليمنيون. قرروا ألا تراجع، وقرروا مواجهة العدوان السعودي بإرادة صلبة وبعقل توجه نحو تطوير التقنية العسكرية. وبذلك طوروا الصواريخ والطائرات المسيرة والمتفجرات القوية، ودربوا جنودهم جيدا وأهلوهم ثقافيا ووعيا، ورفعوا لديهم مستويي الانتماء والالتزام. ولا مفر، يتغلب العقل في النهاية والإرادة الصلبة على العضلات، على الثور الهائج.
يهرب أعداء اليمن إلى الموضوع الإيراني ليقللوا من ذكاء وقدرات اليمنيين. إنهم يقولون إن إيران هي التي ترسل الصواريخ إلى اليمنيين، وهي التي توجه العمل العسكري، وجنودها هم الذين يديرون المعارك. إذا كانت إيران بهذا الذكاء فهنيئا لها. وإذا كانت السعودية بهذا الغباء فسخطا لها. ألا تستورد السعودية السلاح من أمريكا؟ أم هل يجوز استعمال السلاح الأمريكي من قبل أذناب أمريكا ولا يجوز استعمال الأسلحة الإيرانية من قبل الذين يدافعون عن أنفسهم؟ وماذا نتوقع من أناس يجدون يدا تمتد لمساعدتهم وقت الشدة؟ هل عليهم أن يتعففوا ويقاتلوا بالقوس والنشاب؟
لا توجد أدلة حتى الآن أن إيران هي التي تقاتل في اليمن. لم يقدم أحد دليلا. حتى في مسألة أرامكو، ما قدموه أن المسيرات والصواريخ أتت من الشمال، أي من إيران. هذا استهتار بعقول الناس. المسيرات والصواريخ المجنحة تغير مساراتها وفق الأهداف المنشودة.
في ضوء التطورات العسكرية التي نشهدها الآن وعلى مدى السنتين السابقتين، السعودية لن تنتصر في اليمن حتى لو دخلت أمريكا معها الحرب مباشرة. والأفضل للسعوديين أن يجدوا مخرجا لإنهاء الحرب والجلوس مع اليمنيين على طاولة الحوار والتفاوض. الاعتراف بالهزيمة أفضل من الانتحار.
هل تتعلم السلطة الفلسطينية استراتيجية الاعتماد على الذات؟ غزة صنعت دفاعاتها، ويبقى أن يمتد العقل المدبر إلى كل فلسطين.