أواسط ثمانينيات القرن الميلادي العشرين وكنت قد انتظمت في بعض الجمعيات الأدبية، حملَنا الأدبُ إلى شاطئ أحد فروع النهر الخالد، حيث قعدنا نتناشد القصائد، فإذا أحدُنا ينشد:
"بِالتَّمَادِي فِي الْفَسَادِ
يُصْبِحُ اللِّصُّ بِأُورُبَّا مُدِيرًا لِلنَّوَادِي
وَبِأَمْرِيكَا رَئِيسًا لِلْعِصَابَاتِ وَأَوْكَارِ الْفَسَادِ
وَبِأَوْطَانِي الَّتي مِنْ شَرْعِهَا قَطْعُ الْأَيَادِي
يُصْبِحُ اللِّصُّ رَئِيسًا لِلْبِلَادِ
وإذا الأنشودة إحدى اللافتات المهرَّبة خِلسةً، وإذا صاحبها أحمد مطر الشاعر العراقي الساخر الثائر، الممنوع تداول شعره في بعض البلدان العربية!
لَفْتُ النَّظَرِ تحويله عن وجهته، واللافتة اسم فاعلِهِ الذي صار مصطلحا على قطعة من ورق أو ما أشبهه، يُكتب فيها ما يراد التنبيه عليه، ثم تنصب بحيث يتحول إليها نظر المار بها، وأدق ما يدل على مفهومها ما يجده السائرون عن يمين الطريق ويساره، من مُنبِّهات على الجِهات.
ولكن منذ عام 1984 إلى الآن، صارت "اللافتة"، شعارا على نمط من القصائد المعاصرة القصيرة، نشر منه أحمد مطر الشاعر العراقي الساخر الثائر، سبعة كتب (لافتات 1، 2، 3، 4، 5، 6، 7)، وما زال منه بين يديه ما لم ينشره بعد!
كان أحمد مطر قد هرب أوائل ثمانينيات القرن الميلادي العشرين، من العراق إلى الكويت، فعمل بجريدة القبس، وتجلى لها فضله؛ فصارت تستفتح أعدادها بإحدى قصائده، التي أبى فيها إلا أن يكون النَّذير العُريان (الذي يتجرد من ملابسه ويرفعها تنبيها لمن ينذره)، فجعلها على فواتح الجريدة "لافتات"، يلفت بها القراء، مثلما جعل لوحاتِه على خواتمها ناجي العلي صديقُه المخلص، لتتنادى الفواتح والخواتم، وتتكامل، وتتجاسر- قائلا: "قصيدتي هي {لافتة} تحمل صوت التمرد، وتحدد موقفها السياسي بغير مواربة، وهي بذلك عمل إنساني يصطبغ بالضجة والثبات على المبدأ، وعليه فإنني لا أهتم بصورة هذه المظاهرة وكيف تبدو، بقدر اهتمامي بجدية الأثر الذي تتركه، والنتائج التي تحققها".
ذاك مقطع من الحوار الذي نشره عبد الرحيم حسن، عام 1987، بالعدد 185 من مجلة العالم اللندنية، ثم نقلته الدكتورة مريم الغافرية الباحثة العمانية الواعدة، منذ ثلاثة أعوام تقريبا إلى رسالتها للدكتوراة عن السخرية في أدب أحمد مطر، ذاكرةً أن اللافتة صارت بتحريضها وحِدَّتها وإيجازها وسهولتها، هي عنوان المقاومة والتصدي في أدب أحمد مطر كله، مثلما تبدو اللافتات التي يحملها في طريقهم الثوارُ المتظاهرون، دون أن تخسر طبيعتها الفنية الشعرية، وأنها تتدرَّع بالمقاومة من أطرافها كلها؛ فتدعو عناوينُها إلى المقاومة، لتجدد خواتُمها الدعوة!