علماء الدين.. اتركهم مع أحكام الحيض واصعد إلى المريخ!


كنت أرغب في الدراسة في كلية الشريعة في أي جامعة عموما، وفي خارج فلسطين خصوصا ولكن لم يتسن لي ذلك لأسباب مختلفة، وكبتّ رغباتي طمعا في مغانم ومزايا كانت تعد بها الدراسة في الكليات العلمية، وتبين أنها أوهام لا أكثر، كما أنني لم أنتظم في دراسة العلم الشرعي بطريقة أخرى كانت لربما متاحة، مكتفيا بقراءات ذاتية، وسماع من هنا وهناك.. وفي السنوات الأخيرة التحقت ببعض مساقات تدريس الفقه (أحب الفقه وتفسير القرآن الكريم كثيرا) عبر منصات تعليمية على الإنترنت، مع ما في ذلك من صعوبة لا تخفى بحكم التقدم النسبي في السن، وما يتبعه من صعوبة الحفظ والمشاغل الحياتية المتزايدة، وكذلك إدمان السياسة والكتابة والقراءة عنها وحولها... هذا ما قسمه الله لي.





وأنظر إلى العلوم الشرعية، وإلى من تخصصوا في حقولها بأسى وأسف؛ لأنها صارت عموما لمن قدراته وذكاؤه محدودا، ولأن عددا ممن نالوا شرف دراستها، والتخصص في أي من فروعها، والعمل في مجالاتها- وهي مجالات محدودة كما سأبين في السطور القادمة- لم يحسنوا لأنفسهم ولا لأمتهم، بمواقف سياسية مخزية، أو فتاوى شاذة أو غير ذلك. ومع ذلك فإنني أجد نفسي مضطرا للدفاع عنهم، بل أرى أن من واجبي هذا الدفاع بصفتي إنسان مسلم يدرك أهمية تعلم أمور دينه، وعمن يسمع أو يقرأ لهم، نظرا لأن بعض الناس من أمتنا جعلوهم مادة للسخرية، أو علقوا عليهم أسباب خيبات الأمة وتخلفها، وجعلوهم شماعة لفشل لا يتحملون منه مثلما يتحمل غيرهم من مسئولية.





ومن ذلك ما يقال في كثير من المناسبات: الناس وصلوا إلى القمر، وسيصلون إلى المريخ وأنتم تتحدثون عن الحيض والنفاس... أو: أمة مشغولة بكيفية دخول الحمام بالقدم اليمنى أو اليسرى وأمم تخترع الطائرات والعقاقير... أو: هذا ما ضيعنا وجعلنا في ذيل الأمم، ننشغل بما رواه أبو هريرة وما حكاه فلان وكيف نأكل وكيف نعاشر النساء وأحكام الطلاق وتعدد الزوجات وما طول وعرض شعر اللحية... إلخ من المقولات المسيئة والتي ربما ينال قائلها إثم. وقبل أن أناقش المقولات المذكورة وأشباهها بالمجمل، تخيلت عالما في الولايات المتحدة الأمريكية أو ألمانيا يدخل إلى كنيسة يلقي بها أحد القساوسة موعظة يوم الأحد فيقطع عليه موعظته أو يعقب عليها، بأنني اخترعت دواء يشفي مرضا خبيثا قاتلا أو طورت جهازا إلكترونيا أو ساهمت في اختراع مركبة فضائية ستصعد إلى كوكب بعيد، وأنت أيها القس ما زلت تتحدث عن الإنجيل وقصصه!





هل المنشغل بهذه الأمور قد قطعت حبال أفكاره العلمية البديعة، ولولا ذلك لاخترع لنا صاروخا أو عقارا شافيا، أو سيارة تسير باستخدام الماء بدل الوقود؟
هل تظنون هذا يحدث؟ لا أظن هذا، ولا يقبل العالم والمخترع على نفسه مثل هذا الموقف أو القول، ولو فعلها لربما رفعت عليه قضايا تطالبه بالتعويض والاعتذار ولو كان في سجله مئة براءة اختراع في أي مجال كان. لأن هذا العالم الغربي يدرك بأنه اختار مجال العلم التطبيقي والتجريبي ويعول عليه الاختراع، بينما اختار القس أن يلقي على الناس المواعظ، ولم يجبرهم على الحضور إلى الكنيسة، وكل له اختصاصه ومهمته في الحياة والمجتمع. فلماذا يلام الفقيه أو الواعظ أو المفتي المسلم بشيء لا علاقة له به، وفي تخلف أو تقصير في حقل لا شأن له به مباشرة؟! ويا ليت اللائم الذي يلقي بحجارته المتمثلة بالمقولات أعلاه مخترع أو عالم فضاء أو خبير في التقنيات الإلكترونية أو صاحب براءة اختراع في الفيزياء أو الكيمياء أو البيولوجيا، فقد تجده لا شأن له بهذه العلوم، وعلى الأقل فإن من يتعلم الفقه وأحكام الدين قد تعلم شيئا نافعا، أما هو فلم يتعلم شيئا واكتفى بالكلام المسيء.





فالمتخصص في العلوم الشرعية اختار هذا الطريق سواء منذ التحق بالفرع الشرعي وهو في المدرسة، أو بعد مرحلة الثانوية العامة، لقد اختار أن يكون إما محاضرا في كلية الشريعة بعد إنهاء سنوات من الدراسات العليا، أو قاضيا أو مأذونا شرعيا، أو مفتيا، أو معلما للتربية الإسلامية، أو إماما وخطيب مسجد، أو قد لا يتاح له أي شيء من هذا فيمتهن البيع والشراء أو يتعلم حرفة أو ينضم لصفوف الخريجين العاطلين عن العمل! وليس من العدل ولا من المنطق، ولا من المروءة أن تحمله مسئولية تخلف وتراجع الأمة في مجال الاختراعات والتقنيات والطب، فهذا ليس دوره ولم يزاحم لنيل موقع في هذه الحقول. إذا كان هناك من يجب أن يوجه له اللوم؛ فهم من جعلوا أعمارهم، وأنفقوا، أو أنفقت عليهم الأموال، لدراسة الطب والهندسة والفيزياء وسائر العلوم، فوجه سؤالك ولومك وغضبك لهم، لا إلى إمام المسجد أو الفقيه.





أما تلك المقولات فهناك من روى أن رأس المعتزلة (واصل بن عطاء) كان سابقا لهم في بعض نصها، لا فكرتها، بقوله أن (علومهم لا تتعدى سراويل امرأة) ساخرا وهو الضليع في اللغة وعلم الكلام من أهل الفقه، وهو خير ممن اجتر مقولته في عصرنا لأنه حصّل شيئا من الفنون اللغوية أو العلوم الكلامية وحتى الشرعية. حسنا، أليس الحيض حالة تصيب النساء كما النفاس، وفيه أحكام وردت في الكتاب والسنة، وتبنى على تلك الأحكام عبادات وسلوكيات وأحكام الميراث وغير ذلك مما لا يسع المجال لشرحه؟ فكيف يتركها الفقيه خاصة وهو يسأل عنها يوميا، وأخاله لو لم يسأل عنها لما خاض فيها بلا مناسبة. أما دخول الخلاء (الحمام) فله آداب أو سنن على الفقيه أو المختص في العلم الشرعي تنبيه الناس إليها، فهل أصبحت سنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- محل سخرية وشماعة يعلق عليها تخلف الأمة؟!





أما رواية الأحاديث سندا ومتـنا فهذا علم له قواعده وأصوله، ويا حيف إذ أصبح مادة للاستهزاء والسخرية، من بعضهم، فقد تعاقب عليه رجال في مختلف العصور، أفنوا سنين أعمارهم بين الكتب والمخطوطات، حتى يسهلوا الأمر للدارس أو العامي، الذي يلزمه لمعرفة أمور دينه ودنياه. ولمن يسخر من الحديث عن الطلاق وأحكامه، وعن أصول معاشرة النساء، وأحكام الزواج، فليتفضل بزيارة المحاكم الشرعية، ليعلم أن الأمر ليس عبثا ولا مسألة ثانوية، وكثير من الناس يقعون في مشكلات وربما يقعون في محرمات بسبب جهلهم لأنهم لم يسألوا أو لأن من هو مختص وعالم لم يعلمهم كما يجب، أو فلينظر إلى الأسئلة التي يسألها من عندهم استشكال ليدرك أهمية الأمر.





ثم هل المنشغل بهذه الأمور قد قطعت حبال أفكاره العلمية البديعة، ولولا ذلك لاخترع لنا صاروخا أو عقارا شافيا، أو سيارة تسير باستخدام الماء بدل الوقود؟ لنفرض الأمر كذلك، فلتكن أيها الساخر المحتد المحتج حالة فريدة، وسأقف مدافعا عنك لأنك ستصعد إلى المريخ، ولا تريد أن تسأل أو تنشغل بالمسائل الفقهية والأحكام الشرعية، وها أنا ذا أقول لك بكل أريحية: اصعد إلى المريخ واترك علماء الدين في أحكام الحيض.. ومن سيمنعك فعليه الوزر! وأختم بحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي رواه البخاري وغيره: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وقد أخرجه الترمذي في سننه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- بهذا اللفظ.