الشيخ مبروك الطالب الدرعمي الكفيف


أواخر خمسينيات القرن الميلادي العشرين وأوائل ستينياته، سكنَتْ أحدَ أحياء القاهرة القديمة طائفةٌ فذةٌ من نبهاء طلاب كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، مضطرةً بقلة المال والوحشة من الأهل، فأما هذه فلأنها من الريف قدمت، وأما تلك فلأنها على الريف اعتمدت؛ فلم تكن في القاهرة أحسن حالا منها في الريف، ولم تكن لترضى أن تكون!
طائفة من طوائف، كل طائفة في غرفة واحدة أو شقة كغرفة، فمن ضافها جهز نفسه لغرف الطوائف، ومن أضافه جهز نفسه لطوائف الغرف، ومضطرا أضاف أحد تلك الطائفة الفذة أحد بلديّيه القادمين؛ فلم يكن أَحْيَرَ منه بالغداء أحدٌ!
نعم؛ ومن أدوية مثل هذه الحيرة بكلية دار العلوم، قولُ من سُئل عن حكمة قومه: "نحن ألف رجل، وفينا حكيم واحد، ونحن نطيعه؛ فنحن ألف حكيم"؛ فأسرع المضيف الحيران إلى الجزار، فابتاع نصف كيلو من لحم الكبد الشهي، وثلاثة كيلوات من ثمار البطاطس الطازجة، وكثيرا من أرغفة الخبز البلدي الساخنة، وقليلا من لوازم الطهو، ثم آب قبل اجتماع الجوعى، فقطع ثمار البطاطس ولحم الكبد قطعا متساوية، وطهاها طهوا واحدا حتى تشابهت، ثم طهاها حتى اشتبهت، ثم أذن لهم، فهرولوا!
تحلقوا على الطبق وقد أحاطت به صفوف أرغفة الخبز البلدي في زمان بهائه وأبهته -لعلها تحوطه- وفيهم أخوهم مبروك الطالب الكفيف متقنعا بنظارته السوداء الدهماء، وأقبلوا يصطادون باللقم القطع؛ فكان الواحد منهم ربما صادف قطعة كبد واحدة من سبع قطع بطاطس، إلا الشيخ مبروكا؛ فلم تخب رميته قط، كل مرة بقطعة كبد، حتى أسخط عليه صاحب الدعوة -قال الدكتور محمود محمد الطناحي، رحمه الله، وطيب ثراه!- فصرخ فيه متمازحا:
"جرى إيه يا شيخ مبروك، إنت لابس نضّارة الكبدة والا إيه"!