يذكر الطبيب ودكتور الجامعة Hans Rosling هذه القصة التي حدثت معه في بداية اختصاصه الطبي

كان عام 1975 وكان أول يوم له في الإسعاف كطبيب متمرن. لم يكن هناك الكثير من الحالات الإسعافية في تلك البلدة السويدية الصغيرة، فذهب أطباء الإسعاف إلى استراحة الغداء وبقي هو والممرضة يطهر جرحاً صغيراً ويلفه بلاصق طبي. فجأة جاءهم اتصال بأن يتجهزوا لأن هليوكبتر ستهبط فوق المشفى تحمل مصاباً في حادث سقوط طائرة . بمجرد انتهاء الاتصال هبطت الهيلوكوبتر ونقل إلى قسم الإسعاف رجل يرتدي سترة إنقاذ وترجف يداه وقدماه فيما خَيل للطبيب أنها نوبة صرع. عندما أزال الطبيب سترة الإنقاذ وجد تحتها بدلة غريبة مليئة بالسحّابات (الزمام المنزلق)، دون أن تظهر بداية هذه السحّابات. حاول فك البدلة دون جدوى وفجأة نظر إلى الأرض فرأى الكثير من الدم. ارتبك الطبيب المبتدئ كثيراً. من أين يأتي كل هذا الدم؟ يتوجب فك البدلة لمعالجة الرجل وإلا فإنه سيموت. قرر أنه سيقص البدلة.
.
سأل الرجل أين يؤلمه ليحددموقع النزف. حاول الرجل التحدث فنطق بلغة غريبة لم يفهمها الطبيب، لكنه اعتقد أنها لغة روسية. وفجأة لمعت الفكرة في ذهنه: حادث طائرة + بدلة غريبة + لغة روسية = طيار من الاتحاد السوفيتي. ماذا يفعل طيار من الاتحاد السوفيتي فوق أجواء السويد؟ لا تفسير سوى حرب عالمية ثالثة. بالنسبة للطبيب الذي ولد بعد الحرب العالمية الثانية فإن فكرة نشوب حرب عالمية ثالثة بقيت رعباً يخيّم فوق الأوروبيين ، بسبب ما قاسوه خلال الحرب العالمية الثانية وما حصل فيها من كوارث ومآس. تمالك الطبيب أعصابه وقال للطيار جملة باللغة الروسية كان يحفظها: اهدأ أنت في مشفى على الأرض السويدية.
ظهرت نظرة رعب على وجه الطيار ، وحاول التحدث مرة أخرى فنطق بتلك اللغة الغريبة، وهنا خمّن الطبيب أن الطيار خائف جداً لأنه لابد أن طيارته أسقطت بفعل فاعل ، وهذا أيضاً دليل على الحرب. ارتجفت مفاصل الطبيب من الرعب.

لحسن الحظ، عادت رئيسة الممرضات من استراحة الغداء، فخاطبت الطبيب قائلة : دكتور لا تقص البدلة، إنها تصميم جديد كلّف الدولة عشرة آلاف كورونة سويدي، ثم ارفع قدمك عن سترة الإنقاذ، أنت تدعس على عبوة اللون الأحمر، وقد جعلت الأرضية كلها حمراء. نظرت للمريض وقالت له: اطمئن، إن ما تعانيه من تشنجات وارتجافات هو بسبب بقاءك في المياه المتجمدة ل23 دقيقة، ولذلك لا نفهم ما تقوله من كلمات.

وهكذا اتضح للطبيب أنه فهم كل شئ بالمقلوب . كان الطيار سويدي وقد تحطمت طائرته في رحلة روتينية، ولَم يكن يتحدث الروسية، ولم يتعرض لنوبة صرع ولَم يكن الدم على الأرض سوى لون أحمر، ولَم يكن هناك حرب ولا بوادر حرب. كل ما هناك أن الخوف أعمى بصيرته فتأثرت محاكمته العقلية للأمور، وزاد ارتباكه أنه كان أول يوم له في الإسعاف.

في حالات الخوف والقلق يلجأ الإنسان لتخيل أسوأ السيناريوهات، مما يعمي بصيرته ويدفعه لإتخاذ قرارات خاطئة ارتجالية . يغلق الخوف والقلق الدماغ ويمنعانه من التفكير. بينما عند صفاء الذهن ومحاولة التعامل مع الخوف، تأخذ الأشياء حجمها الصحيح ولا تعطى الأمور أكبر من الأهمية التي تستحقها .

من كتاب Factfulness: ten reasons why you are wrong about the world, and why things are better than you think