إمامُ السّاقية.

كانَ يا ما كانْ، في قديمِ الزمان، وفي سالفِ العصرِ والأوان.
كان هناكَ نبعٌ ماؤهُ غزير، عذبٌ فُراتٌ سلسبيل.
يرِدُهُ الدانيَ والقاصي، والمؤمنُ والعاصي، وكلَّ عابرِ سبيل.
ظلَّ النبعُ دَهراً، يروي بِحُبٍّ وسخاء كلَّ كبيرٍ و صغير، لا يعصمُ مائَهُ عن أحد، صعلوكاً كانَ أم أمير.
يطْفئُ ظمأَ قلوبَهُم، ويروي عطَشَ أرواحَهُم، ويَشْفي صدورَهُم، ويحيي ضمائرَهُم.
غيرَ أنَّ كلَّ حالٍ لا يدوم، ففي يومٍ مشؤوم، صَرَخَ فيهِ البومْ، وتلَبَّدت السماءَ بالغُيوم.
صادَفَ أنْ مَرَّ الملكُ أمامَ النبع، برفقةِ حُراسهِ وعَلْيَّةُ القوم.
فنزلَ عنده، وشربَ منهُ، ثُمَّ تأمَّلهُ بوجوم.
حرامٌ هذا النبْعُ، يَرِدِهُ كُلَّ مَنْ هَبَّ ودب، وماؤهُ الطاهرُ يجبُ أن يُقدَّسَ ويُرَب.
أمَرَ أن يُحاطَ النبعَ بسورٍ عالي، خوفاً عليهِ مِن عبثِ السوقِةِ والدواني.
وجعلَ عليهِ حارساً ومُحتسِباً ووالي، وما بينَ يومٍ وليلة، تَمَّ الأمرُ السلطاني.
بعدَ أن كانَ المكانَ جنَّةً قُطوفُها دانية، انقَلبَ بأمرِ الملك، أسواراً وأبراجاً وحامية.
أصبحَ على من يأتي ليشرب، أن ينحني إلى الأرضِ ويَعبُّ مِنَ الساقية.
ولهُ أن يشربَ ما يريد، لكن لا يجوزُ أن يملأَ منها أوانيَه.
ويحمَدُ الله ويشكرُه، ومن بعدِهِ السلطانَ والوالي والزبانيَة.
كانَ هذا الملكُ مهذارا ظلَّاماً طاغية، جانحٌ أخرقٌ، لاَ يُدركُ أن الرعيَّةَ سواسية.
ثارَ عليهِ النّاس، ينددونَ بسياستهِ الفاسدة.
فأعملَ فيهِم السياطَ والسيوف، لكن مِنْ دونِ فائدة.
في غمرةِ إحباطهِ وفكرهِ المَشلول، أشارَ عليهِ وَزيرَهُ بأُمِّ الحلول.
ذكَّرَهُ بأنَّ النّاسَ يشربونَ مِنَ السّاقية، وهيَ وحدَها القادرةُ على فَضِّ ثورَتَهم العاتية.
والأمرُ لا يحتاجُ لسياطٍ وسيوفٍ ومعتقلات، بَل لبضعةِ قناطيرٍ مِنَ الحشيشِ والقات.
تُنقعُ في ماءِ النبْعِ خلفَ الأسوار، وبعدَها لن يكونَ هناكَ ثورَةً ولا ثوّار.
وهذا ما كان... وسَرَى المخدرُ إلى عقولِ الناس، عبرَ ماءِ الساقية.
عندها فقط, آمَنَ الجميعُ بأنَّ ملِكَهُم نصَّبتهُ الإرادةُ الإلهية.
فَرِحَ الملكُ فرحاً عظيماً بوَزيرِهِ الداهية.
فزوَّجَهُ ابنتهُ راقية، وخلعَ عليهِ لقبَ إمامُ الساقية.
استَمْرأَ الملكُ هذه اللُعبة، وصارَ كُلَّما أقَضَّت مَضجعهُ نزوةٌ أو نجوى.
يستدعي إمامَ الساقية لِيَسْتنبِطَ لهُ عقاراً مُناسِباً وفتوى.
يديرُ من جديدٍ عقولَ الناس فيسلِّموا بأنَّ ملِكهم لا ينطقُ عن الهوى.
وكُلَّما أذعنَ الناس لرغَباتِ ملِكِهم الخنّاس، يحظى إمامُ الساقية بألفِ دينارٍ وجارية.
وهكذا دامَ حالُ البلادِ على الظلمِ والمجاعة، إلى أن باغتَ السلطانَ مفرِّقُ الجماعة.
قبلَ الدفنِ، اختَلَفَ أبناءُ الملكِ حول مُلكيةِ الساقية، ولم يصلوا أبداً إلى قسمةٍ راضية.
حتى اِشتدَّ القِتالُ بينَهم، وبدا أنَّ الفيصلَ سيُهْرِقُ دمَهم.
لحِقَ بهم وزيرُ أبيهم، وحقَنَ الدِماءَ بحلٍّ يرضيهم.
وهو أن يحفُروا من تحتِ أسوارِ الحامية، ويكونُ لكلِّ واحدٍ منهم ساقية.
يقيمُ عليها واليّاً لحسابهِ وإمام, وليَدفُنوا أباهم ليهتَرِئَ في ستْرٍ وأمان.
وهذا ما صار.
وأصبحت السواقي أربَعاً، يحُجُّ إليها النّاسُ في رَهبةٍ وخُشوع.
ينحنوا إلى الأرضِ ويَعبُّوا مائَها بذُلٍّ وخُضوع.
ويحمدوا اللَّهَ ويشكُروه، ومِنْ بعدِهِ الملِكَ والوالي والزَّبانية.
وبدورهم، عاشَ الأبناءُ كأبيهم حتَّى يومَهم الموعود، فالموتُ لاَ ينسى مَن كانَ مولود.
خَلَفَهُم الأحفادُ وقد أقسموا على السيرِ على نهجِ الأجداد.
جيلٌ بعدَ جيل، كانَ عددُ السواقي يربو ويزيد.
ملأت الأرضَ وأنبتت برَيِّها تُبَّعٌ وعَبِيد.
ذَهُلَ النّاسُ عن ذاكَ النبعِ وماؤهُ الطّاهرةُ العطرة، وراحوا يشربونَ مياهَ السَّواقي الملوَّثةِ الكدِرة.
فتَلوَّثَت عقولَهُم وتكدَّرَت نفوسَهُم وانحلَّت عقيدَتَهُم وهانَت كرامَتَهُم.
وصارَ ديدَنَهُم كلَّما أرادوا أن يَرتَوُا...أن ينحنوا...
ويحمَدوا اللَّهَ ويَشكُروهُ ومِنْ بعْدِهِ الملِكَ والوالي وإمامَ السّاقية.