يحكى أن جنكيز خان ملك ملوك التتار، كان أول من فكر بغزو بلاد الإسلام طمعا في ثرواتها
و كنوزها، فضلا عن كراهيته للإسلام و المسلمين, وكان من عادته أن يرسل بعضا من الحكماء والمفكرين في قوافل تجارية بريئة المظهر, ظاهرها تجاري وباطنها تجسسي ( دراسة انسب الطرق لغزو تلك البلاد ومعرفة أوضاعها العامة والمعيشية عن كثب ) ويقال انه أرسل حكيمهُ المقرب إليه على رأس قافلة تجارية إلى حاضرة الخلافة الإسلامية - بغداد -.
دُهش الحكيم بهذه المدينة الرائعة, فلم تكن هناك بلد في الدنيا تشبه بغداد لا في عمرانها ولا تنظيمها ولا ثرواتها، إنها حقا عاصمة الدنيا.
وفي صباح اليوم التالي نزل الحكيم إلى السوق ليبيع و يشتري, ودلف إلى أول دكان في السوق، وتبادل مع التاجر التحية، وأعطاه قائمة طلباته طالبا منه أن يعدها له, نظر التاجر البغدادي للقائمة الطويلة، ودخل مخزنه ثم عاد بعد دقائق حاملا كيسا من القماش, ناوله الكيس والقائمة، تفضل يا سيدي, استغرب التتري هذا التصرف وقال : " أين بقية الحاجات, أنت لم تعطني إلا بندا واحدا من هذه الطلبات الكثيرة !". تبسم البغدادي و أجابه بهدوء : " لقد استفتحت منك يا سيدي والحمد لله , لكن جاري قد فتح محله للتو, وأرجو منك أن تشتري من عنده, بضاعته جيدة و لديه الكثير مما تطلب, كما أنه لم يبع حتى الآن" .
ذهب التتري للمحل المجاور, و تكرر معه الأمر وعرف في النهاية أن عليه أن يجوب السوق بأكمله ليشتري طلباته كلها، وبعد المغيب عاد إلى الخان، وهو منهوك القوى, و عبثا حاول النوم وهو يحلل
ويفسر ما حدث معه في السوق.
وفي اليوم الثاني شد الرحال إلى بلاده مسرعا, و ما لبث أن وقف بين يدي جنكيز خان ليعرض عليه ما رآه: " سيدي ملك الملوك, أرى أن تعدل عن غزو بلاد الخلافة الإسلامية في بغداد, إنهم متحابين و مترابطين, أقوياء بانتمائهم لدينهم و عقيدتهم, و نصيحتي يا سيدي أن تكتفي بمهاجمة ثغورهم القريبة منا , و هذا ما حصل, فالتاريخ يذكر أن جنكيز خان قد غزا بخارى وسمرقند و خراسان, و طرد " خوارزم شاه " من مملكته و بسط سلطانه على أراضيها الواسعة.
وتمضي سنين وعقود, و يشعر جنكيز خان بقرب منيته, فيقسم مملكته إلى أربعة أقسام يضع على رأس كل منها ولدا من أولاده, و منهم طولاي خان الذي جعل له خراسان المحاذية لبلاد العراق, و يموت طولاي خان، و يعتلي العرش ابنه هولاكو الذي تربى في حضن جده، والذي أُعجب أيما إعجاب في سيرة جده وحنكته وتدبيره وبطولاته، و على نهجه أرسل هولاكو جواسيسه " التجار " لبغداد, و لما دخل أحدهم السوق جال بنظره ليختار أي دكان يبدأ به، إذ خرج من احد الدكاكين رجل تبدو عليه علامات الثراء، أهلا و سهلا، تفضل, و تأبط ذراعه وسار معه لدكانه, فأخرج التتري قائمة طلباته و أعطاها للتاجر البغدادي الذي قرأها بسرعة ووضعها في جيبه مبتهجًا بهذا الصيد الثمين، وقال : " ستجد كل طلباتك بعد يومين محملة على الجمال خارج الأسوار, و لن أختلف معك بالسعر فأنا لدي أفضل
البضائع و بأرخص الأثمان. مط الرجل شفتيه مستغربا: " ألديك كل هذه الطلبات"!
- " نعم كلها, أنا شهبندر التجار, لن تجد عند غيري ما تجده عندي كما إني أوفر عليك عناء البحث, إضافة لأني أحميك من العيار والشطار الذين يملؤون الأسواق, اذهب و استرح و تمتع بمعالم بغداد ودع لي الباقي".
وقد شاهد هؤلاء الجواسيس ما حصل في بغداد يومئذ، حيث يقول المؤرخون: إن أهل السنة والشيعة الذي يتألف منهم جمهور البغداديين كانوا في نزاع مستمر، وقد أدى نزاعهم لحروب وشدائد، رائدها الجهل
والغفلة عن المصالح، و يذكر أن وزير الخليفة " ابن العلقمي " قد راسل هولاكو يحرضه على مهاجمة بغداد و يطمعه فيها, و سريعا عاد الجواسيس إلى هولاكو : " لقد تفرقت الناس و النفوس يا سيدي , لم يعد الوضع كما كان , سيكون عليك سهلا غزو بغداد ".
وفعلا ، ففي منتصف محرم من عام 656 هـ سارت جحافل هولاكو وحاصرت المدينة, لم يدم الحصار أكثر من عشرة أيام و سقطت بغداد ، وشرع جنده في نهب بغداد وقتل معظم أهلها, و أسر خليفة المسلمين " المستعصم " و ما لبث أن قتل.
هكذا سقطت أسطورة بغداد وكسفت شمس الخلافة العباسية، و إلى أيامنا هذه مازالت جحافل هولاكو تسرح في بلادنا شرقا وغربا ، طولا و عرضا ، تمعن في القتل والتدمير والخراب.
لم هذا الانكسار, وهذه المهانة والمذلة؟!
لا شك في أنه قد غاب عن أذهاننا ما جاء في كتاب الله الكريم " و اعتصموا بحبل الله جميعا و لا تفرقوا " و ما جاء على لسان الرسول الكريم محمد عليه الصلاة و السلام " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ". و حلت محلها أقوال و مأثورات و مفاهيم دخيلة من نوع ( دبر نفسك و سلك حالك) و ( حط راسك بين الروس و قول يا قطاع الروس ) , ( إن شفت الأعمى طبو ما لك أكرم من ربه ) و ( من بعد نفسي ما ينبت حشيش ) إلى أخر الأقوال و الأمثال الغريبة و البعيدة كل البعد عن ديننا الحنيف و قيمنا الإسلامية , و التي تراكمت عبر مئات السنين من الجهل و النزاعات الضيقة و ثقافة الخوف و الأنانية و النرجسية " حب الذات " . وفي الواقع فنحن اليوم نأكل بعضنا بعضا بشهية، أين منها شهية الذئاب و الغيلان؟! وإلى أن نستعيد قيمنا الإسلامية في الوحدة والشورى واجتماع الكلمة والتعاون على البر والتقوى، والتصدي للظلم والعدوان والبغي، و نحرق كل هذه الأمثال و المفاهيم التي تكرس الفرقة و الأنانية و ندفنها بعيدا في الأرض ، إلى ذلك الحين سيبقى هولاكو وجنده جاثمين فوق صدورنا.
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.