5/4/2018


كانت إجابته على رسالة من قارئ أو قارئة فيها سؤال عن عمره وما شابه، عمري 68 عاما، وأضاف: أنت لا ترى اسم المؤلف إلا على الغلاف، وتعيش مع د. رفعت إسماعيل، ولهذا كان يجيب عن الأسئلة والتعليقات والملاحظات بتوقيع هذا الاسم.

حقيقة كانت مشيئة الله تعالى ألا يعيش "أحمد خالد توفيق" أكثر من 56عاما، فلم يصل لعمر بطله الأول الذي شحذ خيال الفتية والشباب ومن شاء من الكهول والعجائز، ولكن الرجل فعلا في حياته الحقيقية كما الروائية جمع بين الطب والأدب، في ثنائية تكاد تختفي من عالمنا، خاصة منطقتنا العربية.

لست هنا في معرض الحديث عن سيرة الرجل الذي غادر دنيانا حيث توفي الإثنين 2 (نيسان/أبريل) 2018 بعد تعرضه لنوبة قلبية حادة كما قالت وكالات الأخبار التي نقلت خبر وفاته، فسيرته موجودة لمن يريد معرفتها بإجمال أو تفصيل، بل أخط هذه السطور وأنا أستعيد ذكريات مختلفة تختلط فيها مشاعر البهجة والغموض والرغبة في معرفة المزيد والمزيد عند بداية تعرفي على عالم الكاتب من خلال رواياته طبعا.. وكان هذا يكفيه كما قال في أكثر من حديث أو مقابلة أو مراسلة، فهو لم يضع لنفسه حالة من القداسة ولم يحاول الدخول في عالم الشخصية الساحرة، ورفض لقب العرّاب، بل على العكس تماما فقد سعى إلى ألا ينشغل القارئ بشخصه، واعتبر أن هذا ليس تواضعا بقدر أن جهل الإنسان وضعفه كاف وطاغ كي لا يفخر بشخصه.


رفعت إسماعيل لم ينجح فقط في إدخالنا إلى سراديب وغرف الأشباح ومواجهة المذؤوبين ومصاصي الدماء، كي نحصر الرجل في "أدب الرعب" فقط؛ فقد صنع لنا مرآة اجتماعية
وحتى بطله الذي عشنا معه في سلسلة "ما وراء الطبيعة" أي د. رفعت إسماعيل لم يكن مثل أبطال غالبية الروايات والقصص والملاحم الشعرية ناهيك عن أبطال الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية؛ فرفعت إسماعيل فشل في الحب وفي الزواج، وهو ليس وسيما صاحب طلة بهية، ومزاجي وفوضوي ومدخن شره جدا.. ومع ذلك نال رفعت إسماعيل محبة القارئ وإعجابه، وانسحب الحب والإعجاب والتقدير تلقائيا نحو صانع هذه الشخصية الراحل د. أحمد خالد توفيق.

لقد نجح في تمرير المعلومات التاريخية وتبسيط هضم العديد من الحقائق العلمية والطبية بين دفتي روايات اسمها معها "الجيب" زهيدة الثمن ذات ورق ليس بالفاخر وغلاف ورقي متواضع جدا؛ قدم المجتمع بنقد ساخر، وجعل من التسلية محاضرة علمية لا يتسلل الملل إلى الجالس فيها.


كثيرة هي الأمور التي يمكن أن نتحدث عن الراحل، أو بالأحرى أعمال الراحل فيها، ولكن لأن الأمر شخصي محض، أعني أن ما أخطه هنا يتعلق بانطباعاتي الشخصية عن الراحل وليس دراسة أكاديمية أو نقدية أو غير ذلك، فلن أغرق في تفصيلات كهذه؛ ويكفي أن أشير إلى أنني لم أعرف ولم أسمع عن الكاتب الأمريكي إدغار ألان بو(Edgar Allan Poe) إلى من خلال رواية جيب من أعمال الكاتب حملت عنوان "أسطورة بو" وحين قرأتها أنا وشقيقتي، دار جدل حاد بيننا؛ فشقيقتي التي كانت مثلي وقتها طالبة جامعية في كلية العلوم "تخصص رياضيات" وكنت أنا طالبا في نفس الكلية "تخصص حاسوب" قالت أن شخصية الكاتب بو، مثلها مثل شخصيات أخرى ابتكرها الكاتب ونسب لها سيرة ذاتية مبتدعة مع نصوص من الشعر والقصص؛ ولكن أنا ربما بحدس المعرفة راهنت أن بو هو فعلا كاتب أمريكي شهير، وهرعت إلى مكتبة الجامعة ومكتبتين عامتين في جنين ونابلس، فلم أجد سوى بضع قصص من ضمن مجموعات قصصية للكاتب بو، ولكن عثرت على كتاب سيرة ذاتية في مكتبة الجامعة يتناول سيرة بو.


ومع أن الكاتب "ديفيد سنكلير" قد خالف ما جاء في رواية أحمد خالد توفيق في عدة أمور، ولكن حملت هذا الفضل للراحل؛ فقد توغلت وفق المتاح في عالم إدغار ألان بو، من قصائد وأشعار، وقصص قصيرة، بما هو مترجم وبنصوص إنجليزية اجتهدت في ترجمتها، حتى توسعت المادة من خلال تطور الإنترنت عبر سنين. وقد كان الشح والنقص في المكتبات التي تبيع سلسة ما وراء الطبيعة حاضرا عندنا، فليست كل الأعداد متوفرة لذلك ابتعت بعضا من جنين وبعضا آخر من مكتبة كانت تتوفر فيها كثير من النسخ في طولكرم، ولكن شغفي دفعني إلى الطلب من صهري الذي كان يحضر لأطروحة دكتوراه في القاهرة أن يأتيني بما نقص منها، وقد جاءني مشكورا بمجموعة مما طلبت.

كان علينا الانتظار سنوات حتى نرى رفعت إسماعيل بهيئة أحمد خالد توفيق -أو العكس لا أدري- عبر شاشة الجزيرة لأول مرة بشحمه ولحمه بعدما كانا نراه فقط على غلاف الأعداد، وبشغف تابعت ما يكتب على حسابه في تويتر، ولم يتسن لي لكثرة المشاغل وضيق الوقت متابعة حوارته المتلفزة الأخرى، ولكن هذا ما سأجتهد له إن شاء الله في قادم الأيام.


في "العساس" سلط الضوء على التاريخ والسياسة والأسطورة؛ ولفت نظرنا إلى مكوّن مهم في منطقتنا العربية وتحديدا في شمال أفريقية وأعني الطوارق "التبو" والرسومات الغامضة التي تشير إلى كائنات فضائية في هضبة تاسيلي، وكل هذا بأسلوب ماتع لعب على وخز عصب الرعب والتشويق للقارئ، ودفع من في نفسه فضول إلى معرفة هذه الأمور، ولم أكن أعرف منها وقتها إلا ما يخص الاحتلال الإيطالي لليبيا وجرائمه، ومعلومات عامة عن الطوارق.. نعم د. رفعت يعطيك مفاتيح أو شيئا من بضاعة جيدة كعطار يحذيك، فإن شئت فأمامك الكتب والمراجع للتوسع أو لمراجعة ما يقدمه.


رفعت إسماعيل لم ينجح فقط في إدخالنا إلى سراديب وغرف الأشباح ومواجهة المذؤوبين ومصاصي الدماء وأكلة لحوم البشر، كي نحصر الرجل في "أدب الرعب" فقط؛ فقد صنع لنا مرآة اجتماعية رأينا فيها طبيعة أشخاص نتعامل معهم في حياتنا اليومية، ووصفها برشاقة لغوية، شعرنا وكأنه يتحدث عما تكنّه صدورنا نحو أشخاص وظواهر اجتماعية.

لقد كان مؤنسا بدور المعلم والطبيب والمؤرخ غير الممل، وحملت مرقوماته التسلية المفيدة.. وإذا كان الطبيب رفعت إسماعيل قد فشل في حب "ماجي" ولم يتم زواجه من خطيبته "هويدا" وسيموت عزبا في شقته في القاهرة، فإن الطبيب أحمد خالد توفيق تزوج من د. منال وأنجب منها (محمد ومريم) وتوفي في مستشفى الدمرداش، فرحمة الله عليك يا مؤنسنا، وعزاء حار لزوجك وأولادك وأهلك ولمحبيك وبهذا أعزي نفسي.