نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
نعني بفكر الشيخ محمد الغزالي؛ التراث الفكري الذي خلفه بعد وفاته رحمه الله، والمتمثل في عشرات الكتب المطبوعة، ومئات المقالات المنشورة، وآلاف الدروس والخطب والمحاضرات المسموعة والمرئية والمسَجَّلة في الأشرطة والأقراص المضغوطة والمبثوثة على الشبكة العنكبوتية العالمية؛ هذا التراث الطويل العريض، والثري الخصب، لا يمكن الإحاطة به عرْضا وتحليلا في ساعات، فكيف يمكن ذلك في مداخلة محدودة النطاق؟
ولذلك أكتفي بإشارات سريعة ولمحات خاطفة أحاول من خلالها تقديم خلاصة شاملة في وصف هذا التراث ومعالمه الكبرى، وذلك في ثلاث نقاط رئيسة، هي:

  • المصادر المكوِّنة لفكر الشيخ الغزالي.
  • الاهتمامات الكبرى التي دار حولها فكر الشيخ الغزالي.
  • الخصائص المميِّزة لفكر الشيخ الغزالي.

أولا: المصادر المكونة لفكر الشيخ محمد الغزالي رحمه الله:
1- القرآن الكريم: فقد حفظ محمد الغزالي كتاب الله في صباه، وظل مرتبطا به طول حياته؛ فمنه كان ينهل، وعنه كان يصدر، وبه كان يَحْكم، وإليه كان يُحاكِم. وهو ما تشهد به مؤلفاته، ومقالاته ودروسه، وخطبه ومحاضراته.
2- السنة النبوية الشريفة: فقد قرأ كتبها وحفظ الكثير من أحاديثها وشرح العشرات منها ووظف المئات منها في مؤلفاته، وهو ما تشهد به كذلك آثاره الفكرية التي خلفها من بعده.
3- التراث الإسلامي الزاخر المتنوع: حيث استفاد من كل المدارس الفكرية الإسلامية، وقرأ لروادها بدون استثناء، فقد قرأ لكل من الغزالي وابن حزم والرازي وابن رشد وغيرهم من أعلام الفكر في التاريخ الإسلامي، وأخذ منهم ما وجده نافعا ومفيدا في دعوته واجتهاداته العلمية والفكرية.

  • البيئة الثقافية والفكرية والدعوية:

عاش الشيخ في بيئة علمية وفكرية كانت موارة بالعلماء المُجَدِّدِين والحركات الإصلاحية النهضوية، فقد درس على علماء كبار في الأزهر وتأثر بهم، مثل: الشيخ محمد أبو زهرة، والشيخ محمد عبدالله دراز، والشيخ محمد المدني، والشيخ على الخفيف، رحمهم الله جميعا. وتأثر بالحركة التجديدية والإصلاحية التي قادها محمد عبده وتلميذه رشيد رضا، رحمهما الله، والتي كانت مجلة المنار صوتها المعبر. كما تأثر أكبر التأثر برائد الدعوة الإسلامية في مصر في العصر الحديث الشيخ حسن البنا رحمه الله؛ وقد التقى واحتكَّ بأعلام الدعوة والإصلاح والتجديد في العالم الإسلامي الذين كانوا يزورون مصر أو أقاموا فيها، واستفاد منهم وتأثر ببعضهم، ومنهم الإمام محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله.

  • الفكر الإنساني بأبعاده ومناهله المختلفة:

فهو لم ينحصر داخل الفكر الإسلامي، وإنما انفتح على الفكر الإنساني بمشاربه وامتداداته الكثيرة، واستفاد منه، مع محاكمته إلى موازين الشرع والعقل ورفض ما يتعارض منه مع الإسلام.

  • التاريخ الإسلامي والعالمي:

فقد قرأ الشيخ تاريخ الإسلام والمسلمين وتتبع مسار الدعوة الإسلامية خلال أربعة عشر قرنا، وخرج من ذلك بدروس وعبر وظفها في أعماله الفكرية والدعوية. كما قرأ تاريخ الأمم والشعوب الأخرى وانتفع به في اكتشاف السنن والقوانين التي تحكم حركة التاريخ، والمعادلات التي تفرض نمط العلاقات بين الشعوب.

  • الواقع المعاصر محليا وعالميا:

شكل الواقع المحلي والعالمي بما أفرزه من مشكلات وما ماج به من صراعات، مصدرا هاما لفكر الغزالي وثقافته ونظرته إلى الحياة، خاصة فيما يتعلق بحال المسلمين وعلاقتهم بغيرهم وما عانوه ويعانونه من مؤامرات وعدوان ومشكلات داخلية لا حصر لها ولا مخرج منها.
ثانيا: الاهتمامات التي دار حولها فكر الشيخ محمد الغزالي رحمه الله:
يمكن القول: إن الشيخ الغزالي رحمه الله سخر نفسه لخدمة الإسلام والمسلمين، ونذر نفسه لنصرة الحق ومقارعة الباطل، ولذلك لم يترك مجالا رأى أنه يحقق ذلك إلا وارتاده وجاهد فيه بما أمكنه من قوة وما توفر له من طاقة؛ والحق أن المجالات التي استولت على اهتمام الشيخ وظهرت فيها جهوده كثيرة ومتعددة، لكن يمكن حصرها في جبهتين:
أولا: الجبهة الداخلية:

  • التعريف بالإسلام ومصادره وشرح أحكامه وتعاليمه:

وظيفة العالم المسلم تعريف المسلمين بدينهم وشرح تعاليمه وأحكامه لهم بما يعينهم على إدراكها وحُسْن العمل بها. وقد نهض الشيخ رحمه الله بهذه المهمة، واتخذها وظيفة له في الحياة، وظل يمارسها إلى وفاته. وقد ألف في ذلك مجموعة من الكتب، منها: هذا ديننا، كيف نفهم الإسلام؟ الجانب العاطفي من الإسلام، نظرات في القرآن، كنوز من السنة، نحو تفسير موضوعي لسور القرآن، المحاور الخمسة للقرآن الكريم، فقه السيرة، فن الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء، مائة سؤال عن الإسلام، تأملات في الدين والحياة. كما تناول في دروسه وخطبه ومحاضراته الكثير من المسائل والموضوعات التي تندرج في هذا الإطار. وقد ظهر بعض ذلك في كتابيه: خطب الشيخ الغزالي في شؤون الدين والحياة، محاضرات الشيخ الغزالي في شؤون الفرد والمجتمع.

  • بناء شخصية الإنسان المسلم المعاصر عقلا وروحا:

رأى الشيخ رحمه الله أن الإنسان المسلم المعاصر يعاني من خلل في تكوينه الفكري وفي بنائه النفسي، وذلك بسبب مخلفات قرون الجمود والانحطاط التي مر بها العالم الإسلامي، وبسبب الاستعمار الذي أفسد العقل المسلم والنفس المسلمة بما ألحقه بالمسلمين من تدمير في مختلف مجالات الحياة ومنها ميدان التربية والتعليم، وكذا بسبب غياب العلماء الراسخين والمربين العاملين. ولذلك أخذ الشيخ على عاتقه مهمة إصلاح وإعادة بناء النفس المسلمة عقلا وروحا؛ عقلا بترتيب أولوياتها وتخليصها من الحرفية والجمود، وروحا بتزكية النفوس وتطهيرها من أمراض القلوب. وهو ما دار حوله عدد من مؤلفاته، ومنها عقيدة المسلم، خلق المسلم، جدد حياتك، في موكب الدعوة، مع الله دراسات في الدعوة والدعاة، ركائز الإيمان بين العقل والقلب.

  • تشخيص الأمراض المستشرية في نفوس المسلمين ومجتمعاتهم، وتقديم الأدوية الناجعة لها:

* ومن هذه الأمراض: الجهل بالدين الصحيح، والجهل بالحياة، والغفلة عن الوظيفة الحضارية، وغياب الرؤية الواضحة للواقع، والغفلة عن مخططات الأعداء ومؤامراتهم، والانشغال بتوافه الأمور وترك معاليها، ومنها شيوع التدين المغشوش الذي يعتبر السبب الأساس في كثير من الأمراض التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية، والعامل الرئيس الذي يعوق نهضتها وتقدمها؛ وقد ظهر هذا الاهتمام عند الشيخ في عدد من كتبه، ومنها: مشكلات في طريق الحياة الإسلامية، سر تأخر العرب والمسلمين، الإسلام والطاقات المعطلة، علل وأدوية، من معالم الحق في كفاحنا الإسلامي الحديث، الحق المر.
4- محاربة البدع والخرافات والأوهام المعششة في أذهان المسلمين والظاهرة آثارها في سلوكاتهم:
بفعل التخلف الحضاري وسيادة الجهل وغياب العلم الصحيح، سادت في حياة المسلمين الكثير من البدع، وانتشرت بينهم الكثير من الخرافات والأوهام التي صدقتها عقولهم واستسلمت لها وعجزت عن إدراك تهافتها وسُخفها؛ وقد كان مما اجتهد الشيخ رحمه الله في القيام به؛ العمل على محاربة هذه البدع والخرافات وتطهير حياة المسلمين وعقولهم منها. ومن مؤلفاته في ذلك: ليس من الإسلام، الإسلام والطاقات المعطلة.

  • ترشيد مسار الدعوة الإسلامية وتصحيح أخطاء الدعاة:

قامت في هذا العصر صحوة إسلامية كبيرة، وظهرت تيارات دعوية إسلامية عديدة، عمل كل منها على دعوة المسلمين إلى العودة إلى دينهم والالتزام بأحكامه، لكن هذه التيارات تباينت مناهجها وتعددت طرقها في الدعوة، وقد أدى ذلك إلى ظهور الخلافات والنزاعات والخصومات بينها، كما أنها وقعت في أخطاء تنظيمية وحركية وسلوكية فادحة جرت عليها الوبال ومنعتها من تحقيق أهدافها وعاقتْها عن الوصول إلى غاياتها. لذلك كان من الاهتمامات التي شغلت الشيخ الغزالي رحمه الله؛ تصحيح مسار الدعوة وترشيد مسيرة الصحوة وتوجيه الدعاة وتحذيرهم من الأخطاء المضرة بالدعوة وبالإسلام نفسه. وقد كتب في هذا الإطار عدة مؤلفات، منها: في موكب الدعوة، الدعوة الإسلامية تستقبل قرنها الخامس عشر، دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين، هموم داعية، مستقبل الإسلام خارج أرضه، الحق المر، الطريق من هنا، جهاد الدعوة بين عجز الداخل وكيد الخارج.

  • تقويم التراث الإسلامي وتنقيته مما ليس منه وتصحيح المفاهيم الفكرية الخاطئة في أذهان المسلمين:

من خلال قراءاته الواسعة ومطالعاته الكثيرة في كتب التراث الإسلامي بعد تسلحه بموازين القرآن والسنة؛ رأى الشيخ الغزالي رحمه الله أن هذا التراث على الرغم من الخير الكثير الذي ينطوي عليه، دخلته الكثير من المفاهيم الخاطئة، وتسربت إليه الكثير من الآراء الدخيلة والغريبة عن الإسلام، مما جعل هذا التراث يتحول إلى سبب للجمود والقعود والاستقالة من الحياة، وهو ما يتنافى مع الإسلام الذي يدعو إلى الحياة والحركة والنشاط. ولذلك ألف مجموعة من الكتب لتنقية التراث وتصحيح المفاهيم الخاطئة فيه وكشف الآراء الدخيلة التي تسربت إليه، ومنها: كيف نتعامل مع القرآن؟ السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة، تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل.

  • مقاومة الاستبداد السياسي وكشف آثاره المدمرة في حياة المسلمين فردا ومجتمعا وأمة:

لاحظ الشيخ الغزالي من خلال قراءته للتاريخ الإسلامي، أن الاستبداد السياسي وسيادة الملك العضوض الذي لا يعترف بالشورى في تاريخ المسلمين، كان أحد الأسباب الرئيسة لتخلف العالم الإسلامي وتراجعه الحضاري وعجزه عن النهوض، وسببا رئيسا كذلك لوقوعه فريسة للاستعمار والاحتلال الأجنبي. وقد عالج الشيخ الغزالي موضوع الاستبداد السياسي وآثاره في حياة المسلمين وموقعهم في هذا العالم، باستفاضة في عدد من كتبه، ومنها:
الإسلام والاستبداد السياسي، كفاح دين، حقيقة القومية العربية وأسطورة البعث العربي، حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة، أزمة الشورى في المجتمعات العربية والإسلامية، الفساد السياسي في المجتمعات العربية والإسلامية.

  • الدعوة إلى الوحدة الإسلامية، ومحاربة أسباب الشقاق والفرقة بين المسلمين:

أدرك الشيخ الغزالي رحمه الله أن من أسباب تخلف المسلمين وضعفهم أمام أعدائهم؛ شيوع الخصومات والنزاعات بينهم وتمزق كيانهم وتشتت شملهم ونشوب الحروب بينهم، ولذلك كان من اهتماماته التي استأثرت بالكثير من جهوده وأنشطته: العمل على توحيد صفوف المسلمين والدعوة إلى التقارب بينهم ولم شملهم واجتماعهم على المتفق عليه وهو كثير والتسامح بينهم في المختلف فيه وهو قليل؛ ويمكن اعتبار مؤلفات الشيخ رحمه الله كلها تصب في هذا الاتجاه، إذ ما من كتاب منها إلا ونجد فيه حديثا عن هذا الموضوع بتفصيل أو إيجاز، ونذكر منها:
دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين، مشكلات في طريق الحياة الإسلامية، وغيرها.

ثانيا: الجبهة الخارجية:

  • رد الشبهات التي تُثار حول الإسلام وأحكامه:

لم يفتأ أعداء الإسلام من مستشرقين ومستغربين وعلمانيين يشنون الغارات الشعواء على أحكام الشريعة الإسلامية وتعاليمها، متهمين إياها بالجمود تارة، وبالتخلف تارة، وبالقسوة تارة. كل ذلك لصد غير المسلمين عن الإيمان بهذا الدين، وتزهيد المسلمين أنفسهم في العمل بأحكامه. وقد حمل الشيخ رحمه الله لواء الدفاع عن الإسلام ومقارعة خصومه وإثبات تهافت ما يفترونه عليه من أكاذيب، وألف في ذلك عدة كتب منها: دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين، الإسلام والأوضاع الاقتصادية، الإسلام والمناهج الاشتراكية، الإسلام المفترى عليه بين الشيوعيين والرأسماليين، من هنا نعلم، التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام: دحض شبهات ورد مفتريات.

  • مقاومة الغزو الفكري والثقافي الغربي:

في العصر الحديث، وبعد خروج الاستعمار العسكري من بلاد المسلمين، حل محله الاستعمار الثقافي والفكري، حيث سخر الغرب مراصده الفكرية ومراكزه الثقافية والإعلامية لبث السموم العقدية والثقافية والفكرية التي من شأنها تشويش عقول المسلمين، وإصابتها بالشك في دينها وحضارتها وتاريخها؛ ولذلك نهض المفكرون المسلمون ومنهم الشيخ الغزالي رحمه الله بواجب مواجهة هذه السموم وكشفها وفضح الوسائل التي تُسَوَّق من خلالها، حيث ظهرت له عدة كتب في هذا المجال، منها: ظلام من الغرب، الغزو الثقافي يمتد في فراغنا، معركة المصحف في العالم الإسلامي.

  • كشف عيوب الحضارة الغربية المعاصرة وضررها على البشرية:

على الرغم من اعتراف الشيخ بما حققته الحضارة الغربية الحديثة من كشوف علمية وتقدم مادي هائل، ودعوته للاستفادة منها في هذا الإطار، إلا أنه كشف أن لهذه الحضارة وجها آخر مظلما، وهو ما جرته على البشرية من عدوان على الشعوب المستضعفة، وما حملته من فساد في الأخلاق وانحطاط في الضمير ودمار في البيئة. وقد خصص لذلك عددا من كتبه، ومنها: ظلام من الغرب، الاستعمار أحقاد وأطماع؛ كما أنه أشار إلى ذلك في كتب أخرى، ومنها: نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم.

  • مواجهة التيارات والحركات المعادية للإسلام وفضح مخططات أتباعها ضده:

من استشراق واستعمار وشيوعية وصهيونية وتبشير وعلمانية، هذه التيارات التي لم يدخر أتباعها ومعتنقوها وسعا في الكيد للإسلام والتربص بالمسلمين وإيقاع الأذى بهم، في الأزمنة الماضية وفي العصر الحاضر؛ وقد وجد الشيخ رحمه الله أن من واجبه أن ينهض إلى الإسهام بما يستطيع من جهد في مواجهة هذه التيارات وكشف ألاعيبها وفضح مخططاتها ومؤامراتها، وتجلى هذا الجهد في عدد من كتبه، ومنها:
الإسلام في وجه الزحف الأحمر، اليهود المعتدون ودولتهم إسرائيل، قذائف الحق، صيحة تحذير من دعاة التنصير، حصاد الغرور، الحق المر.


ثالثا: خصائص فكر الشيخ محمد الغزالي رحمه الله:

  • الربانية (الحرارة الإيمانية):

تسري الروح الإيمانية في التراث الفكري للشيخ الغزالي كما تسري الكهرباء في أسلاكها، وهذه الروح يُحسها القارئ لما كتب الشيخ والمستمع لما ألقى من دروس أو خطب أو محاضرات، وهي التي أعطت هذا الفكر القوة والتأثير، ومكنته من النفاذ إلى العقول المتفتحة والقلوب الضامئة في سهولة ويُسر.

  • الأصالة:

فهو من معين القرآن والسنة كان ينهل وإليهما كان يؤوب، ومن معين التراث الفكري الإسلامي الزاخر كان يغرف ويستفيد.

  • المعاصرة:

فقد عاش بإسلامه في العصر الحاضر وليس في أزمنة ماضية، وعالج قضايا المسلمين في هذا العصر، وقدم الأدوية لأمراضهم الحضارية، ورسم الحلول الإسلامية لمشكلاتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ وإنه لكذب وافتراء ما زعمه البعض ممن يكتفون بإلقاء التهم الجزافية دون تثبت، من أن الشيخ الغزالي رحمه الله أخضع أحكام الإسلام لروح العصر وأراد أن يوافق معطيات الحضارة الغربية الحديثة وإن تعارضت مع الإسلام.
فالشيخ رحمه الله وإن دعا المسلمين إلى أن يعيشوا عصرهم لم يدْعُهُم إلى ترك دينهم والتخلي عن أحكامه لتحقيق ذلك.
4- المقاصدية: ففكر الشيخ الغزالي فكر مقاصدي، يتوخى تحقيق مقاصد الشارع الحكيم في حياة المسلمين، ولذلك نجده يهتم بالكليات والمحكمات والقطعيات ويركز عليها ويجتهد في إثباتها، ويعتبر الجزئيات والفرعيات والظنيات وسائل لتحقيقها، وليست غايات بحد ذاتها. وينعى على من يتشبثون بالجزئيات حتى وإن أدت إلى هدم الكليات، ومن يحرصون على الظنيات وإن أدت إلى تضييع القطعيات، ومن يتتبعون المتشابهات وإن جَنَتْ على المحكمات.

  • الاستيعاب والشمول:

فقد تناول بالدراسة كل الموضوعات الإسلامية من عقيدة وعبادة ومعاملات وأخلاق، وعالج كل القضايا المطروحة في مجال الفكر الإسلامي المعاصر، وقارع خصوم الإسلام بتياراتهم المختلفة وتوجهاتهم المتعددة فيما طرحوه ضده من شبهات، وكشف مخططاتهم ومؤمراتهم على الإسلام والمسلمين؛ وإن الباحث المنصف ليحتار كيف أمكن للشيخ رحمه الله أن يرتاد كل هاته المجالات ويعالج كل هذه القضايا ويحارب على كل هذه الجبهات؟
إنها لاشك رعاية الله هي التي كانت تحوطه، وقوة الله هي التي كانت تدفعه وليست قوتُه الذاتية.

  • الوضوح والعمق:

فكر الشيخ الغزالي واضح وسهل الفهم والاستيعاب، فليس فيه غموض أو تمحُّل، حيث كان الشيخ يعبر عن رأيه بصراحة وشجاعة ووضوح ودون لفٍّ أو دوران، ومع ذلك فهو فكر عميق في مضمونه وأسلوب عرْضه وحُجَجِه ومراميه، ورشيق في عباراته وتراكيبه. وإنها لمعادلة صعبة أن تجمع بين الوضوح والعمق في آن واحد، في حين أن كثيرين يعتبرون أن من أمارات العمق في التفكير التعقيد في الأسلوب والغموض في العبارة، وهو ما كشف الشيخ الغزالي بمؤلفاته ومقالاته الفريدة ودروسه وخطبه ومحاضراته المتميزة خطأه وتهافته.

  • الوسطية والاعتدال:

حيث التزم الشيخ فيما انتهى إليه من آراء وما أدلى به من اجتهادات وما دعا إليه من أفكار، وفي تعامله مع الدين والواقع والحياة والناس، مبدأ التوسط والتوازن، وعدم التشدد والغلو أو التفريط والتسيب.

  • التجديد:

فقد جدد في الموضوعات وجدد في أسلوب العرض، حيث “قدم رؤى تجديدية في ميادين عدة، من أبرزها:
تفسير القرآن الكريم، وتصحيح تعامل المسلمين مع السنة النبوية، وطرح اجتهادات وترجيحات فقهية وفكرية في العديد من القضايا المعاصرة …”.
كما أنه “تبنى منهجاً جديداً في الدعوة، يتفق مع أحدث ما توصلت إليه نظريات الاتصال والإعلام في توْصيل الرسالة إلى المتلقي وإقناعه بها، ما جعله ينقل مسيرة التجديد من الصفوة إلى الجماهير”.

  • الجاذبية والتأثير:

فقد رزق الله عز وجل الشيخ أسلوبا رائعا وعبارة رشيقة وقدرة كبيرة على حسن البيان وجودة العرض، إلى جانب الإخلاص والصدق اللذين يسريان في كلامه، وهو ما جعل كتاباته ودروسه ومحاضراته تحظى بالإعجاب والتقدير؛ ولذلك فإن كل من قرأ للشيخ رحمه الله أو سمعه يتحدث يتأثر به وينجذب إليه ويرغب في الاستفادة من علمه وفكره.
أخيــــــرا:
نقول إن فكر الشيخ الغزالي رحمه الله فكر حي متدفق بالعلم الغزير وموار بالنظرات العميقة والآراء الجادة، ومن واجب المسلمين أن يستفيدوا منه ولا يضيعوه كما أضاعوا غيره من قبل.
رحم الله الإمام الشيخ محمد الغزالي وأسكنه فسيح جناته.