قبل عشر سنوات بالتمام والكمال، أقدم الجيش الصيني على مذبحة بشعة لآلاف العمال والطلاب المعتصمين خلف المتاريس في أهم ميادين العاصمة بكين، ميدان “السلام السماوي”. كانت هذه هي الطريقة الوحيدة المتاحة أمام الطبقة الحاكمة، المذعورة رعبًا إزاء تمرد ملايين العمال والطلاب، لإعادة “القانون والنظام”. ومن المفارقات أن حكام الصين على مدى السنوات الأربعين السابقة على المذبحة كانوا يزعمون (وهم لا يزالوا يزعمون ذلك وإن يكن على استحياء) أن الحزب الحاكم – “الحزب الشيوعي الصيني” – هو قيادة الطبقة العاملة، وأن الطبقة العاملة الصينية تقود الفلاحين في إطار دولة تمارس ديكتاتورية البروليتارية. ويتمثل المغزى التاريخي لمذبحة يونيو 1989 في فضح زيف هذا الادعاء وتقويض شرعية الطبقة الحاكمة الصينية التي تبين أنها لا تستطيع أن تقدم للجماهير الثائرة التي تحكم باسمها سوى حكم الحديد والنار.
نتناول في هذا المقال ملحمة عمال وطلبة الصين في ربيع 1989، محاولين أن نفهم كيف صارت بكين 89 واحدة من تلك اللحظات العظيمة في تاريخ الطبقة العاملة، مثل روسيا 1917 وأسبانيا 1936 والمجر 1956 ومايو 1968 وإيران 1978 – 1979 وغيرها، تلك اللحظات التي تتبدد فيها الثوابت القديمة ويبدو فجأة أن كل شيء ممكن. كما نحاول كذلك أن نفهم أسباب تبدد تلك اللحظة ونهايتها الحزينة الدامية.
الخلفية الاقتصادية الاجتماعية:
لا يمكن فهم الانفجار الثوري في الصين في 1989 خارج إطار الأزمة الهيكلية العميقة لرأسمالية الدولة الصينية، تلك الأزمة التي قادت إلى تحولات اقتصادية ضخمة منذ 1978. وصل “الحزب الشيوعي الصيني” بقيادة ماو تسي تونج للسلطة في 1949 في ثورة وطنية (وإن كانت مفارقات وتعقيدات التاريخ السياسي والأيديولوجي أضفت عليها زيفًا اللون الاشتراكي الأحمر)، حيث عزم على بناء اقتصاد صناعي حديث من شأنه أن يتجاوز ميراث الفقر والتخلف في الصين. ولم يكن ذلك ممكنًا من وجهة نظر ماو ورفاقه إلا من خلال دولة مركزية تخطط وتدير مباشرة كافة جوانب الاقتصاد لضمان تعبئة كل الموارد المتوفرة لتحقيق التنمية المنشودة.

دفعت ضغوط المنافسة الخارجية الحكام الجدد لإعطاء الأولوية لبناء قاعدة صناعية ثقيلة، وهو ما اقتضى بدوره معدلاً شديد الارتفاع لتراكم رأس المال (إي للاستثمار في بناء المصانع وغيرها). ووفقًا لما ذكره ماو نفسه فإن معدل التراكم إلى إجمالي الدخل القومي في الصين زاد من 27% في 1957 إلى 42% في 1959، وهي زيادة ضخمة للغاية في غضون سنتين فقط. كان معنى ذلك باختصار أن حكام الصين أعطوا الأولوية للاستثمار – للتنمية وبناء دولة قوية واقتصاد قادر على المنافسة والصمود على حساب الاستهلاك – أي على حساب رفاهية الجماهير.
خلقت عملية التراكم هذه طبقة حاكمة مكونة من كبار المسئولين ومديري المصانع والقادة العسكريين، الذين جمعت بينهم سيطرتهم الجماعية على الاقتصاد وجهاز الدولة، كما وحدتهم علاقتهم العدائية بالضرورة بجماهير العمال والفلاحين الذين جرت التضحية بمصالحهم المباشرة لصالح التنمية. وفي حين أن ذلك يعد أمرًا عاديًا في أي اقتصاد رأسمالي، فإن ظروف التخلف الشديد في الصين جعلت من الحد من الاستهلاك ضرورة قصوى، وهو ما اقتضى إقامة نظام حديدي للسيطرة على الجماهير بدءًا من البوليس السري الرهيب وصولاً إلى صغار المسئولين في القرى، وذلك لاحتواء أية احتجاجات تندلع من أسفل.
كانت محصلة قرابة ثلاثين عامًا من محاولات بناء رأسمالية دولة قوية في الصين على يد ماو هي الفشل الذريع. ذلك أن التركيز الشديد على بناء قاعدة صناعية ثقيلة في مجتمع بالغ الفقر أدى إلى اختلالات شديدة بين مختلف قطاعات الاقتصاد فضلاً عن خلق بيروقراطية ثقيلة اليد أهدرت الكثير من الموارد. كما أن الرأسمالية الصينية كانت محملة أيضًا بأعباء المنافسة العسكرية لا مع الغرب فحسب وإنما أيضًا مع الاتحاد السوفيتي، وهو ما أسفر عن إهدار موارد ضخمة على الإنفاق العسكري – يقدر مثلاً أن إنتاج القنبلة الذرية في 1964 تكلف ما بين ربع ونصف إجمالي إنتاج الكهرباء خلال ذلك العام.
حاول ماو التغلب على مشكلة ندرة الموارد ورأس المال من خلال سلسلة من “الحملات الجماهيرية” (أبرزها “القفزة الكبرى للأمام” في 1958 – 1960، و “الثورة الثقافية” في 66 – 69) التي سعت لدفع العمال والفلاحين للقبول بمعدلات مهلكة من العمل الشاق، وذلك تحت ستار شعارات “ثورية” براقة عن الإنسان الاشتراكي الجديد الذي يضحي من أجل الثورة، وعن فضيلة التقشف الثوري (من جانب الجماهير لا الحكام بالطبع!). إلا أن محاولات ماو ورفاقه باءت بالفشل بسبب المقاومة الطبقية من جانب جماهير العمال والفلاحين – العمال الذين حاول النظام إجبارهم على ظروف عمل بالغة القسوة والفلاحين الذين انتزعت أراضيهم لصالح المزارع الجماعية التي كانت أقرب إلى معسكرات الاعتقال. وقرب نهاية السبعينات، كان الاقتصاد الصيني يعاني من الركود والهدر الشديدين، كما أن علامات الاستياء الجماهير كانت واضحة للعيان.
بعد وفاة ماو تبنت القيادة الصينية الجديدة التي تولت السلطة في 1978 نفس هدف ماو المتمثل في بناء قاعدة صناعية قوية قادرة على المنافسة مع بقية العالم، إلا أنها رفضت الإستراتيجية التي اتبعها ماو لتحقيق هذا الهدف. وشملت الإستراتيجية الجديدة التي أعلنها الزعيم الجديد دينج كسياو بينج.
في 1978 جانبين أساسيين: تقليل سيطرة الدولة على الاقتصاد لصالح ما سمي ب “اشتراكية السوق”، ودمج الصين في الاقتصاد العالمي سعيًا وراء جلب الاستثمار الأجنبية والتكنولوجيا الحديثة وإيجاد أسواق للتصدير.
في القرى، تم تفكيك المزارع الجماعية ووزعت الأراضي على الأسر الفلاحية لزراعتها كما يحلو لها. كان يتعين أن تباع نسبة معينة من المحاصيل للدولة وأن تدفع الضرائب نقدًا أو عينًا، إلا أن الفلاحين صاروا أحرارًا في بيع بقية إنتاجهم في السوق.وفي المدن، جرى تخفيف قبضة الدولة المركزية على المصانع وتعزيز سلطة مديري المصانع والمسئولين المحليين، الذين توفرت لهم حرية التصرف في الإنتاج في السوق بعد دفع الضرائب والوفاء بالحصص التي يتعين تسليمها للدولة.
كانت النجاحات المبكرة للإستراتيجية الجديدة مذهلة. وعلى سبيل المثال، فقد دعت الخطة الخمسية الأولى لمعدلات نمو سنوية للإنتاج الزراعي والصناعي تبلغ 4 %، بينما بلغ النمو الحقيقي خلال تلك السنوات 12،6 % في الصناعة و8 % في الزراعة. وعلى مدى السنوات العشر الممتدة بين 1979 و1989 زادت معدلات النمو في المتوسط عن 10 % سنويًا. كان معنى ذلك أن دخل الفلاحين قد تضاعف خلال سنوات الخطة الخمسية الأولى، في حين أن نمو الإنتاج الصناعي بين 1983 و1985 زاد عن مثيله في كوريا الجنوبية (بلد المعجزة الاقتصادية) خلال السنوات نفسها.
واللافت أن تلك النجاحات تحققت على الرغم من تعثر الانفتاح على العالم الخارجي، وهو كما ذكرنا أحد جانبي الإستراتيجية الجديدة التي اتبعها دينج ورفاقه. فلاستثمارات الأجنبية لم تتدفق على الصين على النحو المأمول، كما أن السلطات وجدت نفسها مضطرة للتخلي عن خططها الطموحة الخاصة باستيراد كميات ضخمة من التكنولوجيا الحديثة. وفي حين أن الصين أصبحت مصدّر كبير للنفط والفحم والمنسوجات والسلاح، فإن الواردات تنامت بمعدلات أعلى، وهو ما أسفر عن عجز تجاري في كافة السنوات التالية لـ 1979 ما عدا اثنتين (82 و83)، وهو عجز تم تمويله بواسطة القروض قصيرة الأجل (أي التي ينبغي ردها خلال فترة قصيرة جدًا). كان معنى ذلك أن النجاحات الهائلة حدثت نتيجة للإصلاحات الداخلية وليس للانفتاح الخارجي.
ولكن من مفارقات الاقتصاد الرأسمالي أن النمو الكبير، مثله في ذلك مثل الجمود وعدم النمو، يمكن أن تكون له مشكلاته! وهذا بالضبط هو ما حدث في الصين. لقد دفع النجاح في تحقيق معدلات نمو هائلة الاقتصاد الصيني نحو مزيد من التأزم.
اتبع الفلاحون بإخلاص شديد شعار دينج القائل “الإثراء أمر عظيم”، حيث ابتعدوا على نحو متزايد عن إنتاج الحبوب واتجهوا نحو المحاصيل الصناعية والاستهلاكية ذات العائد الكبير، وهو ما أسفر عن العجز عن توفير حاجات المدن من الغذاء الكبير، وهو ما أسفر عن العجز عن توفير حاجات من الغذاء الذي ارتفع ثمنه بشكل مذهل. كما أن السلطات المتزايدة لمديري المصانع المحليين في الشراء والبيع والاستثمار أدت لتخطي النمو الصناعي لما هو متوقع في خطط الدولة. وأدى ذلك بدوره لاختلالات واختناقات هائلة على امتداد الاقتصاد الصيني، حيث لم تكن إمدادات الطاقة والمواد الخام وقطاع النقل قادرة على مجاراة النمو السريع الحادث. وهكذا شهدت الصين نقصًا حادًا في بعض السلع الأساسية وفوائض ضخمة في سلع أخرى، وهو ما يعني هدرًا كبيرًا للموارد. وإذا بالتضخم يبلغ معدلات فلكية لا بفعل نقص الغذاء وارتفاع أسعاره فحسب، وإنما نتيجة لسياسة “التخزين” التي اتبعها المسئولون والمديرون المسيطرون على السلع الناقصة، من أجل المزيد من ارتفاع أسعارها وجنيهم بالتالي للأرباح الهائلة.
وعلى الرغم من ارتفاع مستوى المعيشة خلال السنوات الأولى لاتباع الإستراتيجية الجديدة (أوائل الثمانينات) فإن غول التضخم سرعان ما راح يلتهم الدخول المتزايدة (وخاصة دخول أصحاب الأجور والمرتبات الثابتة، أي العمال والفلاحين وصغار الموظفين). وهكذا أخذت الفجوة تتسع بين الأغنياء والفقراء، وراح السخط يتزايد.
يتعين أن نذكر هنا أن هذا هو بالضبط منطق السوق. فكل مسئول أو إقليمه، وليس من المصلحة الكلية العقلانية للطبقة الحاكمة بأسرها. ولكن لما كان حكام الصين على وعي تام بأن ثورة 1949 نفسها التي أوصلتهم للسلطة كانت في جانب مهم منها نتيجة للتضخم (ارتفاع الأسعار) المفرط خلال سنوات الحرب العالمية الثانية وما تلاها، والذي أدى إلى انخفاض الأجور الحقيقية وبالتالي تزايد سخط الجماهير، فقد راح هذا الشبح يؤرقهم ويدفعهم للتذبذب ما بين محاولة استعادة سيطرة الدولة على الاقتصاد (وهو ما كان يتبناه أحد أجنحة الحكم) ومحاولة دفع إصلاحات السوق قدما. وكان عدم الاتساق هذا في السياسة الاقتصادية من ضمن أسباب دفع الاقتصاد نحو مزيد من التعثر والتأزم.
المعارضة الديمقراطية وتصاعد السخط:
في أعقاب أحداث ميدان “السلام السماوي” الدامية مباشرة، أشار العديد من المعلقين البرجوازيين إلى أزمة الصين سببها أن هذا البلد سهد بيريسترويكا (إعادة البناء الاقتصادي الذي أقدم عليه جورباتشوف في الاتحاد السوفيتي) دون جلاسنوست (الانفتاح السياسي في تجربة جورباتشوف)، أي أن الإصلاحات الاقتصادية لم يصحبه إصلاح سياسي مواز، وهو ما أدى لتشويه الإصلاحات الاقتصادية لو إجهاضها. (من الطريف أن نلاحظ هنا على الهامش أن العكس بالضبط صار يقال بعد ذلك ببضع سنوات حينما انهار الاتحاد السوفيتي بينما بقى الحزب الحاكم في السلطة في الصين، إذ صار نفس المراقبين البرجوازيين يعزون الاستقرار في الحالة الصينية إلى حكمة الحكام الذين اختاروا الإصلاح الاقتصادي المصحوب بالاحتفاظ بمقاليد القوة السياسية في أيديهم!). ولكن أيا ما كان الأمر، فإن هذا الحديث عن بيريسترويكا بدون جلاسنوست في الصين يقلل في الواقع من حجم التغييرات السياسية الفعلية منذ 1978.

أراد “المحدّثون” (كما عرف الفصيل الذي التف حول دينج والذي وصل للسلطة في 1978) أن يتخلوا عن إستراتيجية ماو الاقتصادية، كما ذكرنا. وقد وجدوا أن ذلك يقتضي أيضًا انقلابًا – ولو جزئيًا – على تراث ماو السياسي. إن أحداث الشغب العنيفة التي اندلعت ضد عصابة الأربعة الماوية في ميدان السلام السماوي في 1976 – والتي كانت أحد أهم أسباب صعود جناح دينج للسلطة – قد أظهرت مدى عمق الكراهية التي يكنها الملايين لنظام ماو. وإذا كان للإستراتيجية الاقتصادية الجديدة أن سياسي من أعلى تكسب ولاء الجماهير للحكام الجدد وبالتالي تمتص نزعات السخط في المجتمع وتتجنب المزيد من التمردات من أسفل.
كما كان الإصلاح السياسي مطلوبًا كذلك لأسباب أخرى عير امتصاص غضب الجماهير وإضفاء الشرعية على السياسة الاقتصادية الجديدة. من جانب، كانت الطبقة الحاكمة الصينية بحاجة للاسترخاء بعد سنوات الإرهاب الماوي الذي طاول أفراد هذه الطبقة أنفسهم. كانوا بحاجة للشعور بالأمان إزاء “الحملات الجماهيرية” التي كان ماو يشنها من وقت لآخر لعدم رضاه عن معدلات أداء البيروقراطية الصينية الحاكمة. كما كانوا بحاجة للتمتع بامتيازاتهم بشكل لم يكن متاحًا في ظل “التقشف” الماوي الذي طالما أدى لإيذاء أفراد البيروقراطية من أجل تأكيد “الشرعية الثورية” لنظام ماو. ببساطة كانت الطبقة الحاكمة بحاجة لقدر أعلى من السيطرة على نظامها السياسي من خلال إصلاحات تضمن توقف التجاوزات من جانب هذا النظام. (وكما هو معروف فإن السلطة السياسية في المجتمع البرجوازي يمكن في ظروف استثنائية أن تتمتع باستقلالية شبه كاملة عن مجمل الطبقة الحاكمة. حتى لو كان الهدف من هذه الاستقلالية هو خدمة المصالح الكلية لهذه الطبقة على نحو أفضل. ومع زوال الظروف الاستثنائية، فإن البرجوازية عادة ما تسعى لاستعادة السيطرة على دولتها من خلال حركات الإصلاح السياسي المحدود).
ومن جانب آخر، كان الإصلاح السياسي مطلوبًا لأسباب اقتصادية نوعًا من اللامركزية في تخصيص الموارد وإدارة الاقتصاد، وهو ما كان بحاجة لزيادة روح المبادرة بين صفوف الكوادر البيروقراطية والتكنوقراطية الوسيطة في المصانع وأماكن العمل وأجهزة الحكم المحلي. وتطلب ذلك بدوره إصلاحات سياسية تحد من بطش السلطات العليا بهم.
كان الهدف الأول لحركة الإصلاح السياسي من أعلى هو “الثورة الثقافية” التي لم تتم إدانتها رسميًا إلا في 1981، وإن كانت قد بدأت تتعرض لنقد عنيف بتشجيع من النظام منذ 1978. كان شعار دينج الشهير، “لا يهم أن تكون القطة بيضاء أو سوداء مادامت تصطاد الفأر”، بمثابة إعلان عن زوال هيمنة الأيديولوجية الماوية على الاقتصاد وعيره من ميادين الحياة الأكاديمية والعلمية والثقافية. وقد بلغت عملية اللبرلة (التحول في اتجاه ليبرالي) والتخفيف من قبضة الدولة مداها في الميدان الثقافي، حيث تم السماح بسيل من الأعمال الأدبية والفنية والفكرية التي تناولت بشكل نقدي موضوعات شائكة مثل المعتقلات السياسية الماوية، والفساد، والفقر والتخلف المزمنين في الريف الصيني، وقمع الحريات الجنسية، وغير ذلك مما لم يكن أحد قبل يضع سنوات يحلم بتناوله علنًا.
وبالطبع كانت هناك حدود لحركة الإصلاح هذه. فقد حاولت الدولة من خلال الرقابة أن تحدد ما يصح قوله وما لا يصح، وإن كان المثقفون قد مالوا لتوسيع نطاق المسموح به باستمرار. والأهم هو أن سلطة الحزب الشيوعي ظلت غير مهددة، بل إن الإصلاحات من أعلى هدفت بالضبط إلى تعزيز تلك السلطة.
ولكن كما حدث في حالات أخرى كثيرة، فإن الإصلاح المحدود من أعلى شجع على ظهور حركة معارضة من أسفل تحاول دفع الإصلاح إلى أبعد مما يرغب فيه النظام. فخلال السنوات 1978 – 1981، ظهرت حركة “حائط الديمقراطية” التي تمثلت في سبيل من جرائد الحائط حررها شباب العمال في كل مكان تطالب بتسريع وتيرة الإصلاح وتعميقه. وسرعان ما جذبت تلك الحركة أعدادًا ضخمة من الأنصار، خاصة بمناسبة انتخابات المؤتمرات الشعبية المحلية في أغسطس 1980.
وسرعان ما انتشر الرعب في أوساط الطبقة الحاكمة، التي كانت مترددة ما بين السير قدما في الإصلاح السياسي ووقف العملية والعودة مرة أخرى لأحد أشكال الإرهاب الماوي (وهو تردد مواز لترددها ما بين تسريع الإصلاحات الاقتصادية ووقفها). وبحلول عام 1981، كان الجناح المحافظ داخل السلطة قد عزز مواقعه مؤقتًا، وهو ما مهد” لحملة القانون والنظام القمعية في سنوات 1981 – 1983، ثم الحملة المضادة “للفساد الروحي” في أواخر 1983، والتين ذكرنا العديد من المراقبين بأسوأ سنوات ماو.
ورغم نجاح حركة القمع هذه، فإن الطبقة الحاكمة راحت تواجه معضلة عويصة. إن يقوض الإستراتيجية الاقتصادية الجديدة بأسرها، فضلاً عن أنه يضعف من شرعية النظام. هكذا وجد النظام نفسه مضطرًا لفرملة المحافظين من أنصار القمع حرصًا على صورته الإصلاحية.
بدءًا من عام 1984، ظهرت معارضة سياسية منظمة في أوساط الحركة الطلابية على نحو كان أكثر خطورة بالنسبة للطبقة الحاكمة من “ثقافة الشوارع” التي تم قمعها بوليسيًا في السنوات السابقة. ذلك أن الحركة الطلابية الجديدة، بالرغم من أنها لم تكن جذرية، كانت منظمة، كما تبنت مطالب واضحة بعض الشيء للإصلاح السياسي والاجتماعي تجاوزت السقف الذي كان النظام مستعدًا لبلوغه. لم يكن الطلاب وحدهم بالطبع يشعرون بالسخط، إلا أن وضعهم الانتقالي في المجتمع وحساسيتهم الخاصة إزاء عالم الأفكار والأيديولوجية أهلاها للعب دور قيادي في المقاومة السياسية.
كان الفكر السائد في أوساط الحركة الطلابية الجديدة هو فكر المعارضة شبه الرسمية التي ظهرت أول ما ظهرت داخل أوساط الحزب الحاكم بتشجيع من جناح دينج. وقد بلور هذا الفكر عدد من الأكاديميين والمثقفين من أعضاء الحرب الحاكم الذين كانوا قد تعرضوا للاضطهاد في ظل حملات ماو الجماهيرية مثل حركة “المائلة زهرة” و”الثورة الثقافية”. لم يكن لدى المعارضة رؤية منسجمة أو برنامج محدد، وإنما تبنت عددًا من المفاهيم القابلة للتفسير على أكثر من وجه مثل حقوق الإنسان، والديمقراطية، والعدالة، وحرية الصحافة، والإصلاح، والوطنية. وانتشرت في أوساط المعارضة الأوهام الكبرى حول الغرب، والانبهار الشديد له.
وقد عانت المعارضة من نقاط ضعف مهمة. فهي قبلت بالدور القيادي للحزب الشيوعي، بل إن أغلب المتحدثين باسمها كانوا أعضاء مخلصين بالحزب لحين طردهم منه. كما قبلت المعارضة على وجه الإجمال الإستراتيجية الاقتصادية لدينج، وما يترتب عليها من الحاجة للتضحيات من جانب العمال لصالح “الوطن”. إن وطنية المعارضة جعلتها تفكر من وجهة نظر ما هو في صالح الصين ككل، كما لو أن الصين كانت كيانًا منسجمًا وليست مجتمعًا طبقيًا. بل أن تلك الوطنية خلقت في النهاية أرضية مشتركة بين المعارضة والنظام. أما أهم عيوب المعارضة فهو أنها تصورت أن أي تغيير حقيقي ينبغي أن يأتي من أعلى.
كانت المعرضة إذن بكافة المعايير “معارضة مخلصة للنظام. إلا أن أهميتها لم تكن تكمن في أفكارها في أوساط الطلاب منحها أهمية سياسية فاقت بكثير أهمية الأفكار المحددة التي طرحتها.
إن الحركة الطلابية التي بدأت على استحياء في 1984، وصلت إلى مرحلة الانفجار في ديسمبر 1986، حيث اندلعت مسيرات هائلة في العديد من الجامعات الصينية احتجاجًا على تزوير انتخابات محلية. واستطاعت تلك المسيرات التي خرجت إلى الشارع واكتسبت تأييد قطاعات جماهيرية واسعة أن تنتزع تنازلات مهمة من النظام تمثلت في إعادة الانتخابات ومعاقبة بعض المزورين. ولم يؤد ذلك إلى تهدئة الحركة، بل إن أنباء الانتصار شجعت أكثر على التمرد على نظام اضطر للاعتراف بالكذب والتزوير. وهكذا امتدت المسيرات لتشمل أكثر من 20 مدينة صينية وأكثر من 150 جامعة، وإن كانت أهم الاحتجاجات تركزت في شنغهاي وبكين.
مرة أخرى تذبذبت الطبقة الحاكمة ما بين وقف الإصلاح واستمراره، وراحت انقساماتها تخرج إلى العلن. كما أن تصاعد الحركة الطلابية أدى إلى تنام كبير لا في نضالية الطلاب فحسب، وإنما أيضًا في تنظيمهم لأنفسهم. ومع ربيع 1988 انفجرت الحركة الطلابية مرة أخرى على نحو أكثر تنظيمًا مما سبق. وأصبح واضحًا أو خيار وقف وتيرة الإصلاح لم يعد متاحًا إلا إذا كان النظام مستعدًا لشق أنهار من الدماء لكي يعيد “الاستقرار والنظام”.
وخلال الشهور الأولى من عام 1989، كانت علامات السخط بادية في كل مكان. فثمار الإصلاح الاقتصادي – ارتفاع الأسعار وتزايد الفجوة بين الأغنياء والفقراء والاختناقات الشديدة في العديد من القطاعات الاقتصادية قد عمقت مرارة العمال والفلاحين. كما أن الحركة الطلابية كانت قد بلغت مرحلة عالية من الثقة بالنفس والتنظيم. وأخيرًا، فإن عدوي التمرد كانت قد انتقلت إلى الأقليات القومية المضطهدة، وخاصة في إقليم التيبت المحتل الذي شهد انتفاضة واجهتها السلطات بقمع بالغ وبإعلان الأحكام العرفية.
اندلاع الغضب:
عندما يشتد الاضطراب السياسي والاقتصادي، وتتجمع أسباب السخط، فإن شرارة بسيطة يكون بإمكانها أن تشعل حريقًا ثوريًا دائمًا ما يفاجئ المراقبين و”الخبراء”، بل إنه كثيرًا ما يفاجئ الثوريين أنفسهم (وإن كانت المفاجئة تكون سارة بالنسبة للأخرين). هكذا فإن ثورة 1917 العظمية في روسيا أشعلتها مظاهرة بسيطة لعاملات النسيج احتفالا بيوم المرأة العالمي. وبالمثل فإن الانفجار الثوري في الصين في أبريل ومايو 1989 قد بدأ بجنازة لأحد الزعماء السياسيين.

توفي “هو ياوبانج” في 15 أبريل. وكان “هو” مسئولاً عن العديد من الإصلاحات السياسية في أوائل الثمانينات، وتم طرده من قيادة الحرب الشيوعي في نهاية 1986 (ثم عاد بعد ذلك في إطار تحجيم المحافظين داخل الحزب) على أساس أنه شجع حركة الاحتجاج الطلابي. وبالطبع أدى ذلك لتعزيز مصداقيته كليبرالي. وسرعان ما انتشرت إشاعة مؤداها أن هو توفي نتيجة لإصابة بسكتة قلبية خلال سجال حاد مع المحافظين (وخاصة رئيس الوزراء المتشدد لي بينج) في اجتماع للمكتب السياسي. وفي اليوم التالي، بدأ الطلاب يتجمعون في ميدان السلام السماوي بالعاصمة، حيث غطوا “نصب أبطال الشعب” بأكاليل الزهور. خلال يومين، كان المئات قد صاروا آلافا، ثم عشرات الآلاف (من بينهم أعداد متزايدة من العمال)، وراحت الهتافات تزأر: “يموت البعض وهم يستحقون الحياة، ويحيا آخرون يستحقون الموت”. ومن العجيب أن أحداثًا مشابهة كانت قد جرت في أبريل 1976 على أثر موت زعيم آخر، هو “شو وين لاي”، في احتجاج صريح على ماو وعصابة الأربعة. وقتها أيد جناح دينج الاحتجاجات، بل إنها ساعدته في الوصول للسلطة. ووقتها لم تكن حركة الاحتجاج منظمة، أما هذه المرة فقد كانت منظمة على نحو راق كما ظهر يوم جنازة هو، السبت 22 أبريل.
في هذا اليوم، حظرت السلطات المظاهرات تخوفًا من عاقبتها، وأرسلت قوات ضخمة من الشرطة والجيش إلى ميدان السلام السماوي. إلا أن مسيرات هائلة بالغة التنظيم والانضباط من الطلاب سارت إلى الميدان في الليلة السابقة، حيث احتلته مقتحمة خطوط القوات الأمنية التي شلتها المفاجئة. وسرعان ما راح الناس يحتشدون. وإزاء هذا الواقع الجديد اضطر للنظام للتراجع والاعتراف بحق الجماهير في تأبين القائد الراحل في الميدان، بل وافق النظام على إذاعة الاحتفال في التليفزيون! إلا أن ذلك لم يهدئ الموفق، بل تنامت ثفة الجماهير في قوتها الجماعية، وراح العمال يتدفقون بأعداد هائلة على الميدان الذي تحول إلى كرنفال ثوري مفعم بالبهجة وروح الانتصار والأمل في تغيير كل شيء. ومع اقتراب شهر أبريل من نهايته، كانت الطبيعة العمالية قد غلبت على الجماهير المحتشدة، وكانت الطبقة الحاكمة قد أصيبت بشلل حقيقي.
وفي 27 أبريل، انطلقت من ميدان السلام السماوي مسيرة كبيرة ضمت نحو 150 ألفًا نصفهم من العمال والنصف الآخر من الطلاب، حيث طافت كافة أنحاء العاصمة خلال قرابة 15 ساعة وتمكنت في إيقاف العمل تمامًا في كل مصنع ومكان عمل. هكذا راحت جموع أكبر من العمال تنضم للحركة، وفي حالات عدة قام العمال بمحاصرة قوات الجيش لمنعها من الاقتراب من المسيرات، في إذلال مهين لهيبة الدولة الصينية. وانتهت تلك المسيرة الذكرى السبعين لحركة طلاب بكين المعادية للإمبريالية. وعلى الرغم من أن الاستجابة لتلك الدعوة كانت متفاوتة من مكان لآخر، كما أن المظاهرات في المدن الأساسية التي بدأت فيها الحركة مثل بكين وشنغهاي ووهان كانت أصغر من مظاهرات سابقة، إلا أن المظاهرات التي اندلعت في ذلك اليوم كانت بداية للحركة في مناطق جديدة عدة.
في أعقاب مظاهرات 4 مايو، بدأت الحركة في بكين تفتر بعض الشيء. فقد أنهى الطلاب مقاطعتهم للفصول الدراسية، وفي ظل غياب قوة سياسية ثورية أو أهداف واضحة بدأت الجموع تغادر الشوارع. كما أن دعوة عمدة بكين للتحدث مع قادة الطلاب أسهمت في تفكيك تعبئة الحركة. كانت المشكلة أن هناك فجوة هائلة بين كم الغضب الكامن في النفوس وإمكانيات الحركة من جانب، والطموحات المعلنة من جانب الحركة من جانب آخر. ففي حين أنه كان واضحًا لدى غالبية المشاركين أن المشكلة تمكن في الطبقة الحاكمة بأسرها (كان القائد الوحيد الذي يحظى بالتعاطف في أوساط الحركة هو “هو باوينج”، أي أن البيروقراطية الوحيد الجيد كان بيروقراطيًا ميتًا!) إلا أن الحركة لم تر نفسها قادرة على ما هو أكثر من الإطاحة برئيس الوزراء لي بينج، والاعتراف بـ “الاتحاد المستقل للطلاب” الذي كان أهم ثمار الحركة على الصعيد التنظيمي.
وفي الوقت الذي بدأ فيه أن الحركة تتراجع، إذا بتطور مفاجئ يدفعها نحو آفاق جديدة. أضرب نحو 200 طالب عن الطعام في ميدان السلام السماوي في 13 مايو، وبحلول 15 مايو كان عددهم قد أرتفع إلى أكثر من ألف، في حين احتشد عشرات الآلاف من المؤيدين في الميدان. ليس من المعروف ما إذا كان هذا الإضراب قد بدأ بشكل عفوي أم أنه كان جزءًا من خطة مقررة مسبقًا، إلا أن توقيته على كل حال كان مربكًا للغاية للطبقة الحاكمة. ففي 15 مايو، وصل جورباتشوف إلى الصين فيما كان يعد نصرًا دبلوماسيا مهما للقيادة الصينية التي استعدت لإعلان نهاية ثلاثين سنة من الخلاف الصيني السوفيتي أمام وسائل الإعلام العالمية. إلا أن نحو نصف مليون إنسان كانوا محتشدين في أهم مدن العاصمة عندما وطئت قدما جورباتشوف أرض المطار! واضطر المسئولون عن المراسم لإدخال الضيف الكبير بسرعة إلى “قاعة الشعب العظيمة” التي تقع في شرق الميدان من باب خلفي وبدون احتفالات ومراسم!
إن الإضراب عن الطعام نادرًا ما ينجح في انتزاع التنازلات من طبقة حاكمة قوية متماسكة، كما يعتقد الطلاب الذين بدءوه. إلا أنه يمكن أن يشكل بؤرة تتجمع حولها أعداد أوسع من الناس حول مطالب محددة. وهذا هو بالضبط ما حدث في الصين. حيث رفعت الحركة بوضوح مطلبين هما طرد لي بينج واستقالة دينج. وقد كان تنظيم الإضراب عن الطعام راقيًا، وأظهر مدى النضج الذي بلعته الحركة. فقد جرى تنظيمه على هيئة دوائر متكاملة تبدأ بدائرة ضيقة من القيادات الأساسية تليها دائرة متكاملة تبدأ بدائرة ضيقة من القيادات الأساسية تليها دائرة أخرى أوسع من المضربين عن الطعام، ثم دائرة أوسع كثيرًا من المتعاطفين، مع الحفاظ على ممرات آمنة تسمح بمرور سيارات الإسعاف وقوافل الطعام لغير المضربين عن الطعام.
انتشرت عدوى الإضراب عن الطعام من بكين إلى المدن الأخرى، وفي الأيام التالية تصاعدت أعمال التمرد من جانب الأقليات القومية المضطهدة في مختلف أنحاء الصين (تمثل نحو 7% من السكان) بما في ذلك التيبت رغم الأحكام العرفية المعلنة فيه. ولأول مرة من عقود طويلة امتدت حركة الاحتجاج لتشمل مسلمي الصين.
المتاريس الثورية:
كانت الطبقة الحاكمة الصينية إزاء أقصى تحدي واجهته خلال 40 سنة، وصارت خلافاتها الداخلية بالغة الحدة والخطورة. إلا أن الجناح المحافظ استطاع أن يحسم الأمر لصالحه حيث صدر قرار ببدء عملية عسكرية شاملة تعيد الهدوء “بأي ثمن” في 19 مايو. ومع وصول أنباء تلك العملية العسكرية، وعلى عكس آمال الحكام، تصاعدت الحركة على نحو كيفي. فقد راح ملايين العمال والطلاب – بل وبعض الفلاحين الذين قدموا من الأرياف – يكونون من أنفسهم متاريس البشرية بأعداد ضخمة من الشاحنات والأتوبيسات التي سدت كافة الطرق. وهنا بدأ يحدث شيء يعد من علامات كل ثورة عظيمة. راحت الجماهير المتمترسة تكتسب عطف القوات المرسلة لقمعها، وإذا بأعداد واسعة من الجنود تلقي السلاح وتنظيم للثوار. وهنا بالفعل يكمن المغزى الثوري للمتاريس. إن أهمية المتاريس – كما ذكرنا الماركسي الثوري الروسي تروتسكي في سياق ما كتبه عن ثورة 1905 في روسيا – لا تتمثل في كونها قلاع عسكرية مفيدة في المعركة، وإنما في كونها تخلق حاجزًا مؤقتًا يعرقل تقدم قوات القمع ويسمح بالحوار السياسي بين الجماهير الثائرة وتلك القوات، ويمكن الأمل الحقيقي للثورة في كسب تلك القوات إلى صفها وليس في الانتصار عليها عسكريًا. وكان هذا بالضبط هو ما بدأ يحدث في الصين.

الهزيمة:
في هذا اليوم بدت الطبقة الحاكمة عاجزة واضطرت للتراجع مرة أخرى. إلا أن الثورات كما هو معروف لا تملك ترف الوقوف محلك سر: إنها إما تسير للأمام أو للوراء. كانت الطبقة العاملة الصينية بحلول أواخر مايو قد صارت القوة الأساسية في الحركة المتمردة: فغالبية القابعين خلف المتاريس كانوا عمالا. إلا أن الطبقة العاملة كانت موجودة بقوتها العددية لا بقوتها الاقتصادية الجماعية الكامنة في أماكن العمل. كان التطور الضروري والصحيح هو أن يعلن العمال الإضراب العام، وبالتالي يشلون الاقتصاد ويلوون يحق ذراع الحكام. وهذا هو بالضبط ما دعا له “الاتحاد المستقل للعمال” ذو الميول اليسارية المبهمة الذي ظهر في خضم الحركة. كان مت شأن تحقق هذا الإضراب أن يدفع الحركة نحو مستوى أعلى، حيث كانت المطالب العامة المتعلقة بالديمقراطية ستقترن بمطالب اقتصادية ملموسة، من شأنها أن تبدأ في طرح الحل العمالي للأزمة المحتدمة في الصين.

إلا أن هذا السيناريو لم يتحقق، حيث أستطاع الجيش التفاوض مع القيادات الطلابية الذين وافقوا على الدفع في اتجاه إلغاء الدعوة للإضراب، الذي كان مقررًا في 29 مايو. أقدمت القيادات الطلابية على ذلك بدوافع “وطنية” (عدم تخريب الاقتصاد القومي) وقبل العمال بذلك لأنهم لم يجدوا القوة السياسية المنظمة التي تدفعهم لتجاوزهم هذا الهراء الوطني نحو إنجاز ثورتهم. وأسفر إلغاء الإضراب عن إحباط واسع في صفوف العمال، ومنذ ذلك الوقت سارت النهاية مسألة وقت، وعرف النظام أن الظروف صارت مواتية لقمع الحركة بشكل حاسم.
وبعد أقل من أسبوع، ضرب النظام الصيني ضربته، مستغلاً مناخ الإحباط وتراجع الحركة. وإذا بمدفعية الجيش الثقيلة توجه صدور العمال والطلاب الذين واصلوا الاعتصام بميدان السلام السماوي وإذا بعجلات الدبابات تدهس المئات، بينما يسقط آلاف الضحايا قتلى نتيجة للقذف البشع بالنيران، ويتم اعتقال عشرات الآلاف. كانت هذه هي طريقة الطبقة الحاكمة المذعورة في إعادة الهدوء. إلا أن هناك شيء مهم تم دفنه مع آلاف العمال الذين دفنوا في تلك الأيام: وذلك الشيء هو إدعاء حكام الصين أنهم يحكمون باسم الطبقة العاملة.
المصدر:
http://revsoc.me/revolutionary-exper...dn-lslm-lsmwy/