الصرصور المغامر

قصة قصيرة
بقلم- محمد فتحي المقداد



سكون استحوذ على المكان بسطوة لا تُقاوم، مثير لشهوة تساؤلات، تبدأ وتبتعد مسافات تُلامس حوافّ الكون، تشتهي النهاية لتصل إلى جواب شافٍ، فما إن ينتهي سؤال حتّى يزاحمه الآخر على احتلال الصدارة في نفس صاحبه.
الصُرصور جادٌّ بعمله هذه المرّة، كتلة عظيمة الحجم إذا ما قورنت مع حجمه، صارت ككرة قدم من الدحرجة المُستمرّة على الرمال، يسوقها بقدميْه الخلفيّتيْن، رأسه عكس اتّجاه سيره، من غير المعلوم، كيف يُحدّد مساره لايصال غنيمته إلى جُحره، ألا فكّر بأنّه ربّما ضلّ وحاد عن طريقه؟. ولاخاف السقوط في حفرة ستكون خاتمته النهائيّة فيها؟.
يسير غير آبِهٍ بأيّ منطق مسموح أو ممنوع، الكُرَة تتدحرج بسهولة، وأحيانًا بصعوبة إذا ما صادف تبّة تراب تعتلي قليلًا، أو حجرًا ناتئًا رفضتِ الأرض احتواءه كاملًا، وضاقت ذرعًا برأسه المُدبّب يوجع خاصرتها.
ما لم يخطر بالبال، أّنّ حاجزًا اصطناعيٍّا هذه المرّة حال بينه وبين إكمال خطّ سيره، بُسطار العسكريّ الواقف في نوبة حراسته، في هذا المكان النائي بجغرافيّته هناك على حدود الوطن، في آخر نقاط التقاء الحدود. هنا لامجال للخطأ أبدًا، فالنسبة القليلة منه قاتلة، لايمكن التّسامح أو التغاضي عن الهنّة؛ فالهنّة تستوجب العقوبة الصّارمة.
خفّت حدّة حرارة الشّمس اللّاهبة، وانكسر الظلّ إلى مِثليْه، ففي مقياسه أنّ وقت العصر فات من أكثر من ساعة، هذا تقدير سكّان الصحراء، خبرتهم هَدَتهم لاكتساب معارف تخصّهم وحدهم، مجهولة لأبناء المدينة المُرفّهين؛ بما يستحوذون عليه من وسائل الرّاحة.
تتزحلق رِجْلَا الصُرصور الأماميّتيْن، عندما يدفع بشدّة لتجاوز العقبة الكأداء، وهي تستعصي على قوّته، يدفع بأقصى ما لديْه، ويفشل المرّة تلو المرّة.

***

العسكريّ واقف، عيناه ساهمتان في الأفق الهادئ حدّ الرتابة المملّة بقسوتها، الموحشة بانقطاع سُبُل الحياة المُيسّرة منها، الفراغ من حوله فجّ الحضور باتّساعه ينهش الكوْن بنهَم، الصمت مطبِق بجبروته على المساحات مدّ السّمع والبصر.
دُخان سيجارته يخترق الفراغ مُوزّعًا حلقاته على الاتّجاهات محاولُا ملأه، قانون التلاشي أصدر قراره بمنع التجمّع والتجمهر، وكأنّ قوّات مكافحة الشّغب مُتأهبّة؛ لتفريقه ولا تسمح بتجمّعه، ثانية ينفثُ الدُخان مصحوبًا بأنفاسه الحرّى، لا زالت نوبة حراسته في بدايتها، لم يمض منها سوى نصف ساعة، قطع شروده عندما انتبه للصرصور وهو يصطدم ببسطاره، فتح عينيْه على اتّساعهما، الدهشة أفغرت فِيِهِ، رافعًا حاجبيْه متأمّلًا المنظر، شعور مفاجئ بدبيب الحياة من حوله، اكتشف أنً تشاركيّة الحياة مع الصرصور في هذا الخلاء القاصي؛ أشعره بمن يقتحم وحدته القسريّة، فلا يسمع إلّا زمجرة الرياح معظم الأحيان، ونتائجه من الزوابع تسدّ الأفق، فتظلم نفسه وتنقبض روحه، وينخض مدى رؤيته في مراقبة الحدود، وتُصعّب عليه القيام بمهمته على أكمل وجه، أو ينتظر أفواج السّراب المتلألئة المهرولة إليه من بعيد، ولا تصل إليه.
داهمته الرحمة والرأفة، ولم يؤنبّه ضميره عندما رفع بسطاره للأعلى لتسهيل عبور الصرصور وكتلته التي يدفعها، انتفض فجأة، اهتزّ جسمه امتدّت يده إلى سلاحه الجاهز، خامره الشكّ أنّه يخون أمانته، عندما سمح للصرصور القادم من الجهة الأخرى للحدود، تجمّد إحساسه وغادرته الرحمة، عندما قرّر الإطباق عليه، وهو تحت أرضيّة بسطاره تمامًا.
انحفضت قدمه قليلًا، صوتٌ قويٌّ من أعماقه هتف به: "دعْهُ يمرّ، إنّه صُرصور لا يضرّ ولا ينفع، وهو من سكّان هذه البقعة، ولا يعترف بخطّ الحدود الوهميّ، ولا معرفة له بالممنوع و المسموح".
***

الحرص الشديد بتنفيذ مهمّته، استذكر مقولة مدرّبه في الدورة: "النملة غير مسموح لها باجتياز الحدود". تنازعه تأنيب الضمير، واستقرّ رأيه على كتمان الحادثة، في اللّحظة الأخيرة، تذكّر معاينة الكرة المتدحرجة، تأكّد أنّها قطعة من بُرازٍ آدميٍّ، انتفض جسمه بقوّة كامنة مُدّخرة في جسمه، تتبّع خط سير الصرصور لمسافة مئة متر؛ ليتأكّد بما لا يدع مجالًا للشكّ، وهو يتذكّر مقولة: "أن البعرة تدلّ على البعير".
تناول جهاز اللّاسلكي؛ للاتصال مباشرة بقائده، للتبليغ عن الحادث. استنفار جميع مخافر حرس الحدود للبحث الدقيق، تحرُّكٌ على كلّ المحاور، بتصميم قويٍّ على: "أنّ الوطن أمانة في أعناقنا".


عمّان - الأردن
10 \ 1 \ 2018