اليوم الرابع والخمسون : رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم
****** عمار بن ياسر رضي الله عنه - رجل من الجنة - ..!!
لو كان هناك أناس يولدون في الجنة ، ثم يشيبون في رحابها ويكبرون..ثم يجاء بهم الى الأرض ليكونو زينة لها ، ونورا ، لكان عمار ، وأمه سمية ، وأبوه ياسر من هؤلاء..!!
ولكن لماذا نقول : لو.. لماذا مفترض هذا الافتراض ، وقد كان آل ياسر فعلا من أهل الجنة..؟؟
وما كان الرسول عليه الصلاة والسلام مواسيا لهم فحسب حين قال:
" صبرا آل ياسر ان موعدكم الجنة"..
بل كان يقرر حقيقة يعرفها ويؤكد واقعا يبصره ويراه..
خرج ياسر والد عمار ، من بلده في اليمن يطلب أخا له ، ويبحث عنه..
وفي مكة طاب له المقام ، فاستوطنها محالفا أبا حذيفة بن المغيرة..
وزوجه أبو حذيفة احدى امائه سمية بنت خياط..
ومن هذا الزواج المبارك رزق الله الأبوين عمارا..
وكان اسلامهم مبكرا.. شأن الأبرار الذين هداهم الله..
وشأن الأبرار المبكرين أيضا ، أخذوا نصيبهم الأوفى من عذاب قريش وأهوالها..!!
ولقد كانت قريش تتربص بالمؤمنين الدوائر..
فان كانوا ممن لهم في قومهم شرف ومنعة ، تولوهم بالوعيد والتهديد ، ويلقى أبو جهل المؤمن منهم فيقول له:" تركت دين آبائك وهم خير منك.. لنسفهن حلمك ، ولنضعن شرفك ، ولنكسدن تجارتك ، ولنهلكن مالك" ثم يشنون عليه حرب عصبية حامية.
وان كان المؤمن من ضعفاء مكة وفقرائها ، أو عبيدها ، أصلتهم سعيرا.
ولقد كان آل ياسر من هذا الفريق..
ووكل أمر تعذيبهم الى بني مخزوم ، يخرجون بهم جميعا.. ياسر ، سمية ، عمار ، كل يوم الى رمضاء مكة الملتهبة ، ويصبون عليهم جحيم العذاب ألوانا وفنونا!!
كان الرسول عليه الصلاة والسلام يخرج الى حيث علم أن آل ياسر يعذبون..
كان يخرج كل يوم الى أسرة ياسر ، محييا صمودها ، وبطولتها..
وكان قلبه الكبير يذوب رحمة وحنانا لمشهدهم وهم يتلقون العذاب ما لا طاقة لهم به.
وذات يوم وهو يعودهم ناداه عمار:
" يا رسول الله.. لقد بلغ منا العذاب كل مبلغ"..
فناداه الرسول : صبرا أبا اليقظان.. صبرا آل ياسر..فان موعدكم الجنة"..
ولقد وصف أصحاب عمار العذاب الذي نزل به في أحاديث كثيرة.
فيقول عمرو بن الحكم :" كان عمار يعذب حتى لا يدري ما يقول".
ويقول عمرو بن ميمون :" أحرق المشركون عمار بن ياسر بالنار ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر به٬ ويمر يده على رأسه ويقول : يا نار كوني بردا وسلاما على عمار ، كما كنت بردا وسلاما على ابراهيم"..
على أن ذلك الهول كله لم يكن ليفدح روح عمار ، وان فدح ظهره ودغدغ قواه..
ولم يشعر عمار بالهلاك حقا ، إلا في ذلك اليوم الذي استنجد فيه جلادوه بكل عبقريتهم في الجريمة والبغي.. فمن الكي بالنار ، الى صلبه على الرمضاء المستعرة تحت الحجارة الملتهبة.. الى غطه في الماء حتى تختنق أنفسه ، وتتسلخ قروحه وجروحه..
في ذلك اليوم اذ فقد وعيه تحت وطأة هذا العول فقالوا له: أذكر آلهتنا بخير ، وأخذوا يقولون له ، وهو يردد وراءهم القول في غير شعور.
في لك اليوم ، وبعد أن أفاق قليلا من غيبوبة تعذيبه ، تذكر ما قاله فطار صوابه وتجسمت هذه الهفوة أمام نفسه حتى رآها خطيئة لا مغفرة لها ولا كفارة.. وفي لحظات معدودات ، أوقع به الشعور بالاثم من العذاب ما أضحى عذاب المشركين تجاهه بلسما ونعيما..!!
ولو ترك عمار لمشاعره تلك بضع ساعات لقضت عليه لا محالة..
لقد كان يحتمل الهول المنصب على جسده ، لأن روحه هناك شامخة.. أما الآن وهو يظن أن الهزيمة أدركت روحه فقد أشرفت به همومه وجزعه على الموت والهلاك..
لكن الله العلي القدير أراد للمشهد المثير أن يبلغ جلال ختامه..
وبسط الوحي يمينه المباركة مصافحا بها عمارا ، وهاتفا به : انهض أيها البطل.. لا تثريب عليك ولا حرج..
ولقي رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه فألفاه يبكي ، فجعل يمسح دموعه بيده ، ويقول له :" أخذك الكفار ، فغطوك في الماء ، فقلت كذا.. وكذا..؟؟"
أجاب عمار وهو ينتحب : نعم يا رسول الله...
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبتسم :" ان عادوا ، فقل لهم مثل قولك هذا"..!!ثم تلا عليه الآية الكريمة:
( الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان)..
واسترد عمار سكينة نفسه ، ولم يعد يجد للعذاب المنقض على جسده ألما ، ولم يعد يلقي له وبالا..
لقد ربح روحه ، وربح ايمانه.. ولقد ضمن القرآن له هذه الصفقة المباركة ، فليكن بعدئذ ما يكون..!!
وصمد عمار حتى حل الاعياء بجلاديه ، وارتدوا أمام اصراره صاغرين..!!
وللموضوع تتمة ان شاء الله تعالى