منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 5 من 5
  1. #1

    بنية المثلثة الشعرية

    بنية المثلثة الشعرية (١) (طول القصيدة من قديم إلى حديث) – أ.د. محمد جمال صقر


    ربما تساخر منا بعض المشغولين بالشعر عملا أو استعمالا أو علما إذا ما وجدونا مشغولين بتتبع طول القصيدة منه كيف كان وكيف صار، من حيث يرونه تساخفا منا أو استخفافا بهم! ولو علموا ما في ذلك من دلالة على خفايا نشأة الشعر وتطوره ما ظنوا بنا ولا تساخروا منا!
    نعم؛ فإنهم إذا فتشوا خزائن التاريخ عن أقدم ما جرى من الشعر العربي مجرى شعر المعلقات عروضا ولغة، جذبتهم إلى خمسمئة عام قبل الإسلام، قطع ونُتف وأبيات يتامى، فلم يدروا فيمَ يحارون منها: أفي قصرها الشديد، أم في جريها مجرى شعر المعلقات؟
    أما الحيرة الثانية فمن حيث يقدرون أن يحتاج الشعر العربي إلى زمان طويل حتى يستقيم له مثل نمط شعر المعلقات عروضا ولغة. وأما الحيرة الأولى فمن حيث تحتمل هذه النصوص الشديدة القصر أن تكون بقايا نصوص طويلة وأن تكون نصوصا مستقلة، ولا يستغني كلا الاحتمالين عن فضل تأملهم.

  2. #2

    رد: بنية المثلثة الشعرية

    بنية المثلثة الشعرية (2) (طول القصيدة من قديم إلى حديث) – أ.د. محمد جمال صقر


    إن خُزَيمة بن نَهْد القُضَاعيّ الذي كان حيًّا قبل عام ظ¢ظ¤ظ، الميلادي، أقدم من بقي له من شعراء العرب شعر على نمط المعلقات/ ولم يكن غير قِطعة بخمسة أبيات، ونُتفة ببيتين.

    أما القطعة فقوله من وزن الوافر الوافي المقطوف العروض والضرب، وقافية النونية المفتوحة المردفة بواو المد أو يائه الموصولة بالألف:
    “إِذَا الْجَوْزَاءُ أَرْدَفَتِ الثُّرَيَّا ظَنَنْتُ بِآلِ فَاطِمَةَ الظُّنُونَا
    ظَنَنْتُ بِهَا وَظَنُّ الْمَرْءِ حُوبٌ وَإِنْ أَوْفَى وَإِنْ سَكَنَ الْحَجُونَا
    وَحَالَتْ دُونَ ذَلِكَ مِنْ هُمُومِي هُمُومٌ تُخْرِجُ الشَّجَنَ الدَّفِينَا
    أَرَى ابْنَةَ يَذْكُرٍ ظَعَنَتْ فَحَلَّتْ جَنُوبَ الْحَزْنِ يَا شَحْطًا مُبِينَا
    فَإِنْ أَهْلِكْ بِحُبِّكِ فَاعْلَمِيهِ فَلَمْ يُفْلِحْ أَبُوكِ وَلَا أَبُونَا”.
    وفيها يتوجس من زمان الحر الشديد الذي يضطر حبيبته إلى الذهاب عنه مع أهلها في طلب الماء، فييأس من البقاء بعدها غاضبا على أهلها وأهله الذين لم يعبؤوا بالجمع بينهما، ولو كانوا فعلوا لكان هو الراحل بها الآن في طلب الماء، لا غيره؛ فمن ثم ينبغي ألا يؤمن جانبه، وإن عُرف عنه الصلاح!
    وأما النتفة فقوله من وزن المتقارب الوافي الصحيح العروض والضرب، وقافية اللامية المضمومة المردفة بياء المد الموصولة بالواو:
    “فَتَاةٌ كَأَنَّ رُضَابَ الْعَبِيرِ بِفِيهَا يُعَلُّ بِهِ الزَّنْجَبِيلُ
    قَتَلْتُ أَبَاهَا عَلَى حُبِّهَا فَتَبْخُلُ إِنْ بَخُلَتْ أَوْ تُنِيلُ”.
    وفيها يشبب بحبيبته تشبيبا فاضحا، ويذكر قتله أباها على رغم حبه لها -وهو زعم ساخر لا يستمسك- ويدعي أنها إن بخلت عليه بعدئذ قليلا لم تلبث أن تواصله وتنيله من نفسها ما يشتهي، وما من مساءة بعد ذلك يسوؤها بها! لقد صدَّق بهذه النتفة تحذيره الخفي في تلك القطعة أن يؤمن جانبه؛ فلا ريب في أنها كانت بعد تلك القطعة، وإن ذكرها رواتها قبلها.
    قطعة بخمسة أبيات ونتفة ببيتين، هما كل ما روي لأقدم من بقي له من شعراء العرب شعر على نمط المعلقات- معروفتا العروض واللغة مألوفتاهما، دليلا على بُعد أولية هذا الفن العتيق- فيما كان بينه وبين حبيبته وأهلها، دليلا على موضع هذه العلاقة من الوعي الجمعي العربي!

  3. #3

    رد: بنية المثلثة الشعرية

    بنية المثلثة الشعرية (طول القصيدة من قديم إلى حديث) ٣ – أ.د. محمد جمال صقر

    بعد ثلاثة قرون من خُزَيمة بن نَهْد القُضَاعيّ (الذي كان حيا قبل عام ٢٤١ الميلادي، أقدم من بقي له من شعراء العرب شعر على نمط المعلقات، ولم يكن غير قِطعة بخمسة أبيات ونُتفة ببيتين)، نشأ امرؤ القيس (ت: ٥٤٤)، فاشتغل بالشعر ما شاء الله، حتى قال في الأطلال والغزل والطرد، قصيدته:
    “قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل”،
    ذات السبعة أو الثمانية والسبعين بيتا طويليا وافيا مقبوض العروض والضرب، لامي القافية المكسورة المجردة الموصولة بالياء.
    ثم نشأ طرفة (ت: ٥٦٤ أو ٥٦٩)، فاشتغل بالشعر ما شاء الله، حتى قال في الأطلال والغزل والرحلة والفخر والحكمة، قصيدته:
    “لخولة أطلال ببرقة ثهمد تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد”،
    ذات التسعة والتسعين أو الأربعة أو الخمسة ومئة البيت الطويلي الوافي المقبوض العروض والضرب، الدالي القافية المجردة الموصولة بالياء.
    ثم نشأ الحارث (ت: ٥٧٠ أو ٥٨٠)، فاشتغل بالشعر ما شاء الله، حتى قال في الأطلال والرحلة والسياسة والمدح والفخر، قصيدته:
    “آذنتنا ببينها أسماء رب ثاو يمل منه الثواء”،
    ذات الخمسة والثمانين بيتا خفيفيا وافيا صحيح العروض والضرب، همزي القافية المردفة بالألف الموصولة بالواو.
    ثم نشأ عمرو (ت: ٥٨٤) فاشتغل بالشعر ما شاء الله، حتى قال في الخمر والغزل والفخر والوعيد، قصيدته:
    “ألا هبي بصحنك فاصبحينا ولا تبقي خمور الأندرينا”،
    ذات المئة أو الخمسة والعشرين ومئة البيت الوافري الوافي المقطوف العروض والضرب، النوني القافية المفتوحة المردفة بياء المد أو واوه الموصولة بالألف.
    ثم نشأ عبيد (ت: ٥٩٨)، فاشتغل بالشعر ما شاء الله، حتى قال في الأطلال والحكمة والرحلة، قصيدته:
    “أقفر من أهله ملحوب فالقطبيات فالذنوب”،
    ذات الخمسة والأربعين بيتا بسيطيا مجزوءا صحيح العروض مقطوع الضرب (غير محكم التخليع)، بائي القافية المضمومة المردفة بواو المد أو يائه الموصولة بالواو.
    ثم نشأ النابغة (ت: ٦٠٤ أو ٦٠٥)، فاشتغل بالشعر ما شاء الله، حتى قال في الأطلال والرحلة والمدح والاعتذار، قصيدته:
    “يا دار مية بالعلياء فالسند أقوت وطال عليها سالف الأبد”،
    ذات الخمسين بيتا وافيا مخبون العروض والضرب، دالي القافية المكسورة المجردة الموصولة بالياء.
    ثم نشأ زهير (ت: ٦٠٧ أو ٦٠٩)، فاشتغل بالشعر ما شاء الله، حتى قال في الأطلال والسياسة والحكمة، قصيدته:
    “أمن أم أوفى دمنة لم تكلم بحومانة الدراج فالمتثلم”،
    ذات التسعة والخمسين أو الاثنين والستين بيتا طويليا وافيا مقبوض العروض والضرب، ميمي القافية المكسورة المجردة الموصولة بالياء.
    ثم نشأ عنترة (ت: ٦٠١ أو ٦٠٨)، فاشتغل بالشعر ما شاء الله، حتى قال في الأطلال والغزل والرحلة والفخر، قصيدته:
    “هل غادر الشعراء من متردم أم هل عرفت الدار بعد توهم”،
    ذات الخمسة والسبعين أو الأربعة والثمانين بيتا كامليا تاما صحيح العروض والضرب، ميمي القافية المجردة الموصولة بالياء.
    ثم نشأ الأعشى (ت: ٦٢٩)، فاشتغل بالشعر ما شاء الله، حتى قال في الغزل والرحلة والفخر والوعيد، قصيدته:
    “ودع هريرة إن الركب مرتحل وهل تطيق وداعا أيها الرجل”،
    ذات الستة والستين بيتا بسيطيا وافيا مخبون العروض والضرب، لامي القافية المضمومة المجردة الموصولة بالواو.
    ثم نشأ لبيد (ت: ٦٦١)، فاشتغل بالشعر ما شاء الله، حتى قال في الأطلال والرحلة والفخر، قصيدته:
    “عفت الديار محلها فمقامها بمنى تأبد غولها فرجامها”،
    ذات الثمانية أو التسعة والثمانين بيتا كامليا تاما صحيح العروض والضرب، ميمي القافية المضمومة المؤسسة الموصلة بالهاء المفتوحة.
    فشغلوا العرب بقصائدهم هذه العشر عن غيرها، حتى اتخذوها دستورا يجتمعون عليه ويحتكمون إليه!

  4. #4

    رد: بنية المثلثة الشعرية


  5. #5

    رد: بنية المثلثة الشعرية

    بنية المثلثة الشعرية (6)= المقاصير
    محمد جمال صقر
    http://mogasaqr.com/?p=13564
    استقر الشعر العربي في قرون ما قبل الإسلام على منهج من العَروض تتخرج به القصيدة واحدةَ الوزن والقافية، مطلعها هو بابها الذي لا مدخل للشاعر إليها سواه، ولا مخرج حتى يفرغ! وهو ما تَمَلْمَلَتْ منه بعض أحوال الحياة على التاريخ؛ فاستفزت بعض مُتحوِّليها من الشعراء إلى الثورة عليه؛ فاجتازوا حدود القافية، ثم حدود الوزن.
    لكن القافية المقصورة (التي رويها الألف الأصلية غير الزائدة)، نوع قديم من القافية، لم يخرجه من الوَحدة علماءُ الشعر وهو غير متمكن فيها.
    إن حرف الرَّوِيّ هو قلب القافية الذي به تُعتبر وإليه تَنتسب؛ فيقال: لامية العرب، وسينية البحتري، ودالية المعري، ونونية ابن زيدون، ...، وهكذا. وهو مِلاكها الذي يحفظ عليها شأنها كله، بحيث إذا تعدَّدَ تعدَّدتْ، وإذا توحَّدَ توحَّدتْ. ولا يمتنع أن يكونه أيُّ حرف من حروف العربية، إلا الحروف الهوائية الممدودة أو اللينة أو المُشبَّهة بها؛ فهي حروف كالحركات، ينبغي أن يُلتزم قبلها ما يكون هو الرَّويَّ، ليكون الحرفُ منها هو الوَصْلَ، أي الختام الذي يصل بالقافية إلى غايتها.
    إن الشاعر إذا أخرج قافية مطلع قصيدته من المتدارِك (دَنْ دَدَنْ) -وهو أشيع إيقاعات القافية- بمثل "مَدْخَلَا"، وجب أن يستمر عليها بمثل: "هَيْكَلَا، مُشْعَلَا، حَنْظَلَا، وَاعْتَلَى، وَابْتَلَى، سَلْسَلَا، صَلْصَلَا، هَلَّلَا، بَلْبَلَا، جَلْجَلَا، مِنْجَلَا، مَنْ جَلَا، إِنْ عَلَا، لَا وَلَا،..."، وهكذا، يساعده حرف اللام الكثير المادة، الذي لا يكاد يخذل مختاره. فأما إذا أخرجها بمثل "حَبَّذَا=دَنْ دَدَنْ"، فلن يكاد يمضي بعيدا بمثل: "هَكَذَا، مَنْفَذَا، يُحْتَذَى، وَاغْتَذَى، وَالْأَذَى، ذَا وَذَا"، حتى ينقطع، ولأمر ما قال ابن أبي الزوائذ في مقطع ذاليَّته -وقد أخرج قوافيها من إيقاع المتواتِر (دَنْ دَنْ)-:
    "هَذِهِ الذَّالُ فَاسْمَعُوهَا وَهَاتُوا شَاعِرًا قَالَ فِي الرَّوِيِّ عَلَى ذَا
    قَالَهَا شَاعِرٌ لَوَ انَّ الْقَوَافِي كُنَّ صَخْرًا أَطَارَهُنَّ جُذَاذَا"!
    ولا ريب في شدة وطأة الروي على الشعراء جميعا، حتى قال فيه المعري وهو أعلم الشعراء به: "إِذَا جَاءَ الرَّوِيُّ فُضِحَ الْغَوِيُّ"؛ فإن الشاعر إذا ورَّط نفسه فيما لا ذخيرة له عنده تَدَهور إلى الإيطاء (تكرار ما سبق استعماله)، أو الاستدعاء (إضافة ما سبق مثله)، أو غير ذلك من المعايب، أو استأسَرَ للإِرْتاج (الانقطاع دون التكملة)، وكان عن ذلك كله في سِتر، حتى قال ما قال!
    ولقد اهتدى الشاعر العربي الجاهلي إلى قَصر القافية، فرتع منه في مرتع، وسرح في مسرح، وانطلق غير متعثر ولا متحرج! نعم؛ فحسبه كلما أدركته القافية أن ينتحي نحو الأسماء والأفعال الأَلِفيَّة لامات أواخرها منقلبةً عن واوات أو ياءات -وما أكثرها- فيغترف منها ما شاء؛ فإذا كان قد أخرج قافية مطلع قصيدته من إيقاع المتدارِك، بمثل "مُنْتَهَى"- أمكنه أن يخرج ما بعدها بمثل: " مُصْطَفَى، مُرْتَضَى، مُقْتَدَى، مُرْتَقَى، مُبْتَغَى، مُقْتَضَى، مُنْتَمَى، مُنْتَدَى، يُشْتَرَى، وَارْتَوَى، فَاكْتَوَى، وَاشْتَهَى، فَاشْتَفَى، وَاهْتَدَى، فَارْتَمَى، وَانْتَحَى، فَانْتَخَى، وَافْتَرَى، إِنْ وَهَى، أَوْ دَعَا، قَدْ أَتَى، بَلْ غَفَا، مَنْ سَمَا، أَوْ وَعَى، قَدْ عَوَى،..."، لا يلزمه إلا أن تكون هذه الألف هي لام الكلمة!
    هذا الأسعر الجعفي الشاعر الجاهلي المجهول المولد والممات، يقول في مطلع قصيدة أورد له منها الأصمعي (122- 216هـ)، ثلاثين بيتا:
    "أَبْلِغْ أَبَا حُمْرَانَ أَنَّ عَشِيرَتِي نَاجَوْا وَلِلنَّفَرِ الْمُنَاجِينَ التَّوَى
    بَاعُوا جَوَادَهُمُ لِتَسْمَنَ أُمُّهُمْ وَلِكَيْ يَبِيتَ عَلَى فِرَاشِهِمُ فَتَى"-
    فيخرج قوافيها الثلاثين من إيقاع المتدارِك نفسه، بما يأتي: "ـنَ التَّوَى، ـمُ فَتَى، ذَا تَرَى، ـهَا غِنَى، وَالشَّوَى، ـرُ القُرَى، ـدٌ وَأَى، مَا أَتَى، قَدْ رَأَى، ـةُ النَّسَا، ـنَ الْغَضَا، ـنَ الدُّجَى، ذِي الْغِنَى، مَنْ بَغَى، ـلِ انْقَضَى، ـوَ اللِّحَى، ذَا الْفَتَى، ـنَ الشَّذَى، فَاصْطَلَى، ـلَى الْحَصَى، ـتَى بَكَى، ـطَ النَّدَى، كَالنَّوَى، ـهَا حُلَى، مَنْ عَفَا، ـهَا هُدَى، ـهُمْ غِنَى، ـمَا تَرَى، قَدْ قَضَى، ـدِ اكْتَفَى".
    كل أولئك؛ أَلَا ما أَهْنَأَهُ بها من قافية!
    ومن مثل ذلك قطعٌ وقصائد معدودات، لامرئ القيس والسموأل وليلى العفيفة ووفاء بن زهير المازني وبشر بن مرثد الشيباني وكعب بن زهير وزيد الخيل، وغيرهم، أشار إليها ونقل منها الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار -رحمه الله، وطيب ثراه!- في مقدمة تحقيقه لشرح ابن هشام اللخمي لمقصورة ابن دريد، بعضها منحول، وبعضها مريب، ولكن بعضها مقبول، كقصيدة الأسعر الجعفي المذكورة آنفا.
    ولقد زعم أن من ذلك قول ابن خَذَّاق العَبْديّ:
    "اِمْنَعْ مِنَ الْأَعْدَاءِ عِرْضَكَ لَا تَكُنْ لَحْمًا لِآكِلِهِ بِعُودٍ يُشْتَوَى"،
    وهو زعم لا يستمسك؛ إذ ينبغي ألا يُقطع في قافية البيت اليتيم برأي، حتى ينضاف إليه غيره، وإلا فغير ممتنع في قافية هذا البيت، أن تكون الواو هي الرويّ، والألف الوصل!
    ثم زعم أن لفواصل الآيات القرآنية، أثرا في إغراء الشعراء بالقافية المقصورة. وصدق؛ فما كان أشد وطأة القرآن الكريم على الشعراء، حتى لقد أذهلهم عن أنفسهم؛ فكان منهم من اشتغل به عن الشعر، ومن اشتغل به فيه!
    أم كيف بهم إذا تلقَّوْا هاتين السورتين:
    سورة الأعلى ذات التسع عشرة آية:
    "سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى. وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى. فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى. سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى. إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى. وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى. فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى. سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى. وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى. الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى. ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى. بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى. إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى. صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى"،
    وسورة الليل ذات الإحدى والعشرين آية:
    "وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى. وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى. وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى. إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى. فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى. وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى. وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى. وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى. إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى. وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى. فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى. لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى. الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى. وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى. الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى. وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى. إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى. وَلَسَوْفَ يَرْضَى"-
    المتفردتين بقَصْرِ فواصل آياتهما كلها!
    لربما ندموا من قوافيهم على ما لم يقصروه!
    نعم، ولكنهم تمسكوا فيما قصروه بأصلية ألف الروي في كلمتها، وبقيت فواصل القرآن الكريم أوسع مع المقصور ["الْأَعْلَى، فَسَوَّى، فَهَدَى، الْمَرْعَى، أَحْوَى، تَنْسَى، يَخْفَى، يَخْشَى، الْأَشْقَى،يَحْيَى، تَزَكَّى، فَصَلَّى، وَأَبْقَى، وَمُوسَى"، "يَغْشَى، تَجَلَّى، وَاتَّقَى، وَاسْتَغْنَى، تَرَدَّى، لَلْهُدَى، تَلَظَّى،الْأَشْقَى، وَتَوَلَّى، الْأَتْقَى، يَتَزَكَّى، تُجْزَى، الْأَعْلَى، يَرْضَى"]، للمؤنث بالمقصورة الزائدة ["لِلْيُسْرَى،الذِّكْرَى، الدُّنْيَا، الْأُولَى"، "وَالْأُنْثَى، لَشَتَّى، بِالْحُسْنَى، لِلْيُسْرَى، بِالْحُسْنَى، لِلْعُسْرَى، وَالْأُولَى"]، تربأ بنفسها عن أن تشبه غيرها، وتتفلت من أن يشبهها غيرها!
    ضَرَبَ الدهرُ ضَرَبانَه، ثم نشأ أبو المقاتل الحُلواني الذي نظم مقصورته ذات التسعين بيتا، في مديح الداعي الحسني بطبرستان سنة 287، مستهلا بقوله:
    "قِفَا خَلِيلَيَّ عَلَى تِلْكَ الرُّبَا وَسَائِلَاهَا أَيْنَ هَاتِيكَ الدُّمَى
    أَيْنَ اللَّوَاتِي رَبَعَتْ رُبُوعُهَا عَلَيْكَ بِاسْتِخْبَارِهَا تَشْفِي الْجَوَى".
    فعارضه أبو بكر بن دريد الذي نظم مقصورته ذات الثلاثة والخمسين ومئتي البيت في مديح ابنَيْ ميكال بالأهواز سنة 294، مستهلا بقوله:
    "إِمَّا تَرَيْ رَأْسِيَ حَاكَى لَوْنُهُ طُرَّةَ صُبْحٍ تَحْتَ أَذْيَالِ الدُّجَى
    وَاشْتَعَلَ الْمُبْيَضُّ فِي مُسْوَدِّهِ مِثْلَ اشْتِعَالِ النَّارِ فِي جَمْرِ الْغَضَا".
    وأَرْبَى عليه بما احتشد له فيها من الإشارات والتنبيهات والأخبار والأحوال والحكم والأمثال والغريب والأساليب، حتى أخمل ذكره، وطار في الآفاق ذكر الدُّرَيْدِيَّة دون الحُلْوَانِيَّة، حتى اشتغلت بها الأجيال فالأجيال، حفظا ومعارضة وتخميسا وتوشيحا وإعرابا وشرحا وترجمة وغير ذلك، تعلقًا بناظمها الحبر الجليل الجهبذ الفذ فنا وعلما، حتى إن معارضيها لَيَتفاخرون بتضمين مقصوراتهم ذكر ذلك!
    ومن أقدم من عارض مقصورة ابن دريد أبو القاسم التنوخي الأنطاكي الذي كان حيا سنة 332هـ، ومن أحدثهم أحد من درست عليهم سنة 1404=1984، النقد الأدبي الحديث بكلية دار العلوم من جامعة القاهرة، وبين هذا وذاك وبعدهما من لا يُحصَون، أشهرهم أبو مدين الغوث -594هـ- الصوفي الأشهر، وأبو الحسن حازم القرطاجني -684هـ- الذي جعلها في 1003 بيت، وأبو مسلم البهلاني أكبر الشعراء العمانيين على الزمان -1338=1919- الذي جعلها في 391 بيت!
    لقد صار للدريدية من الأثر مثل ما للامية العرب ولامية العجم وبانت سعاد وغيرها، كما قال الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار، وصدق- وتميز للمقاصير (القصائد المقصورة) كيان كالذي تميز للمعلقات واللاميات والمدائح النبوية وغيرها؛ فاستحقت أن يعتني بها الباحثون مثلما اعتنوا بهن، وأعجب ما ينبغي أن يذكر في حفزهم إلى ذلك، اقتصار الشعراء في إخراج قوافي مقاصيرهم، على الكلمات المقصورة دون المؤنثة بالمقصورة؛ فإنهم إذا اعتلوا لصنيع ابن دريد بسعة علمه ببنية المقصور، أفلا يدلهم صنيع الجاهليين على ذوق لغوي مطلق، ينافس الرأي العلمي المقيد!

المواضيع المتشابهه

  1. امتحان المصفاة المثلثة..
    بواسطة فيصل الملوحي في المنتدى فرسان المواضيع الساخنة.
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 10-19-2017, 07:07 AM
  2. بنية الجسم التأتبية
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان الطبي العام .
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 12-12-2016, 03:51 AM
  3. بنية الاستفهام في سورة «ص»
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان التفاسير
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 08-26-2013, 06:26 PM
  4. الكلاب أيضاً تنجب ق.ق.ج
    بواسطة ياسر ميمو في المنتدى فرسان القصة القصيرة
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 08-27-2011, 09:38 PM
  5. القصيدة المثلثة
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان اللغة العربية
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 12-20-2006, 03:34 PM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •