رسالتي الحياتية والثقافية وما تحقق منها (*)
لكل إنسان في الوجود رسالة مقدر عليه أداؤها وهي تكليف رباني استنادا إلى قوله تعالى ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )(الذاريات : 56)، وهنا لا يفهم أن العبادة هي الجانب الديني فقط بل كل ما يقوم به الإنسان من انشطة وفعاليات هو نوع من أنواع العبادة ، فالعمل عبادة والعلم واكتساب المعرفة والتعليم والمرابطة في سبيل الله والوطن عبادة ، وكل مسعى خير في أمور الدين والدنيا والحياة هو عبادة ورسالة إنسانية شاملة . وليس هذا مقتصرا على نوع من البشر دون الآخر ،؛فالكل مكلف والكل له رسالة .
وهنا يبرز جانب التفاعل الإنساني الذي اعتبره ضروريا في أداء هذه الرسالة كي يتحقق التكامل في تبادل الرأي والمعرفة والبناء الفكري والثقافي والعلمي الإنساني وكل في إطار مسؤوليته الفردية والمجتمعية . هكذا تؤسس مبادئ الحياة وتتطور وتنمو وتزدهر . وهنا أشير إلى خصوصيتنا كعرب ومسلمين ، فأمامنا مهمات جسيمة يتطلب أداؤها كي تتحقق دورة حياتنا وتتطور إلى جانب الرسالة العالمية في كافة المجالات الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية والحضارية حتى لا نبقى متخلفين ، ونسابق الزمن للحاق بركب الحضارة العالمية التي سبقتنا سنين طويلة بعد أن كنا سادة العالم في العلوم والمعرفة والحضارة ، وطبعا لهذا التأخر والتخلف أسباب لسنا بصدد مناقشتها هنا ، إلى جانب توسيع دائرة المعرفة للانسان في مجتمعنا كي يتحصن ويواجه التيارات الغربية والشرقية التي تحاول الهيمنة على الساحة الثقافية والعلمية والعالمية ومنها الساحة العربية والإسلامية ، وقد تؤثر على فئات مهمة من أبناء شعبنا العربي مما يتسبب في السقوط في الكمائن التي تنصبها هذه الثقافات المشبوهة والمسمومة لتحقيق أهدافها في نشر ثقافة الوجودية والإلحادية والإباحية مما يشكل خطرا كبيرا على شبابنا خاصة ، وعلى ثقافتنا كعرب مسلمين ، وبالتالي إبعاد هؤلاء الشباب عن وسطهم وحضارتهم للإيمان بالفكر الغربي وبهرجته ، ومن ثم إضعاف امتنا ومحاولة الايغال في تقطيع أوصالها ووحدتها في مجالات الفكر والثقافة والحضارة أكثر مما هي عليه الآن مع الآسف ، وهذا من الأهداف الإستراتيجية للأفكار الهدامة التي تسعى الى تشويه تاريخنا وقيمنا ومبادئنا وبالتي إضعاف قيم شبابنا وزعزعة إيمانهم وإبعادهم عن دينهم وثقافتهم وتربيتهم التي نشاوا في احضانها وعاشت حية جيلا بعد جيل ، معنى ذلك أن الإنسان في مجتمعنا بمقدار تحصنه الفكري والثقافي وتماسكه الاجتماعي ضد التيارات الفكرية الغربية والشرقية والصهيونية والماسونية وغيرها من الأفكار والنظريات والأيديولوجيات الهدامة وما تحمله من إغراءات مادية جذابة كالجنس والمخدرات ، بمقدار ما ينعكس هذا إيجابا على مجتمعنا العربي ، ويكون عنصرا فاعلا في رفد القوة الحضارية العربية بدماء جديدة محصنة مثقفة مؤمنة بدينها وبمنهجها في الحياة، ولا يمكن اختراقها تحت مختلف المؤثرات مما سيساعد كثيرا على تقليص فجوة التخلف والانحسار عن ميدان الحضارة العالمية بقوة فكرية وثقافية وعلمية مضافة ، وبالطبع فان العكس صحيح .
هذه هي المعاني الحقيقية والأهداف الإستراتيجية لرسالة الإنسان في مجتمعنا وثقافته المتعددة الأوجه والمعرفة والمؤطرة بالفكر الإسلامي ، وهي بالتأكيد تحمل معاني الخير والمحبة والبناء السليم للإنسان ، وهي في المحصلة من العناصر المحمودة طالما سعت الى التقريب والتضامن والتالف والمحبة كمحاولة لاستعادة العرب والمسلمين وحدتهم وحضارتهم ودورهم في الإنسانية .
هذا هو أستاذتي د. ريمة الخاني ما افهمه من رسالة الإنسان في هذه الحياة وهو ما يجب ان ينطبق على كل منا بالتأكيد .
اما عن الشطر الثاني من سؤالك : وهو حجم ما أنجزته من هذه الرسالة ، فأقول إن المدى الذي تحتله هذه الرسالة واسع جدا ولا ينتهي فهو مفتوح لان المعضلات كثيرة والتحديات التي تواجهنا خطيرة وكبيرة والصراع الفكري والحضاري الذي تبنته التيارات والاتجاهات الغربية والصهيونية والماسونية وما يتفرع عنها من اتجاهات أخرى تحت مختلف المسميات والشعارات البراقة ، اخذ بالتصاعد والتنوع واستحداث أساليب تحدٍ مبتكرة تجعل رسالة الإنسان مفتوحة الصفحات تبعا لهذا التحدي ، وأنا العبد لله وان كنت قد أنجزت ما استطعت انجازه في هذا المجال والحمد لله، لكنني ما زلت أتواصل في أداء المهمة تبعا لهذا التطور من الصراع ، رغم أني أؤمن بالحوار وأسعى قدر ما استطيع إلى تفعيل الكلمة والرأي في هذا الاتجاه شرط أن يتحقق التقارب والتوحد الفكري والثقافي والحضاري عند العرب والمسلمين وان يصلوا إلى قواسم مشتركة قوية وسليمة تجعلهم قادرين على مواجهة كل التحديات بقوة وصلابة ســـواء في مرحلة الصراع أم في مرحلة الحوار . و الشيىء الاخر الذي اشير إليه هو أن الإسلام له دوره في تعزيز الحوار بين الحضارات،
وفي هذا اذكر ما قاله " شبرل" عميد كلية الحقوق بجامعة فيينا، في مؤتمر الحقوق سنة 1927 : (إن البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد -صلى الله عليه وسلم - إليها ، إذ رغم أميته استطاع قبل بضعة عشر قرناً أن يأتي بتشريع سنكون نحن الأوربيين أسعد ما نكون لو وصلنا إلى قمته بعد ألفي سنة) . اعود فاقول انه لو أردتِ الاطلاع على نسبة الانجاز الذي حققته في حياتي من هذه الرسالة الحضارية وما أسعى لإكماله بعون الله فيمكن الرجوع إلى سيرتي الذاتية التي أعدها الأستاذ الباحث إبراهيم خليل إبراهيم ، وهي منشورة وفيها جانب من هذه النسبة ، ويمكن معرفة اتجاهات الانجاز ومدياته التي شملت مختلف الجوانب في السياسة والاجتماع والاقتصاد والأدب والثقافة والشؤون العسكرية تأليفا أو ترجمة عن اللغة العبرية التي قمت بترجمة ما لا يقل عن 55 كتابا من هذه اللغة إلى العربية ، عدا الكتب التي الفتها ونشرتها في حينه داخل العراق ولكن مع الأسف لم يتسن نشرها خارج العراق بسبب الظروف التي مرت على البلد خاصة خلال الحصار الذي كان مفروصا علينا خلال تسعينات القرن الماضي وما تلاها من احظاث وتطورات لاحقا .
(*) من موضوعات اللقاء الذي اجراه موقع فرسان الثقافة باشراف د. ريمة الخاني مع الباحث والاديب عبدالوهاب الجبوري عام 2008