نقد كتاب "القرآن والتوراة والإنجيل والعلوم الحديثة"
في عام 2001 كنت أكتب في صحيفة "البلاغ" اليمنية، وبالإضافة لأعدادي الصفحة الفلسطينية كانت الصحيفة تصدر كل شهر "ملحقاً ثقافياً"، وقد كنت أكتب فيه "قراءة في كتاب"، وقد كان موضوع أحد الأشهر قراءة في كتاب الدكتور (موريس بوكاي) رحمه الله "القرآن والتوراة والإنجيل والعلوم الحديثة"، وبعد إطلاعي عليه وجدت أنه يحتوي على كثير من المعلومات المغلوطة، والقراءات المريبة، والتحليلات الموجهة المنحازة لروايات التوراة، لذلك كان لا بد لي أن أحذر في الحلقة الأولى مما أرتبت منه في الكتاب، (العدد 421، الثلاثاء بتاريخ 15 صفر 1422 هـ ـ الموافق 8 مايو 2001م)، وأن أعرض في الحلقة الثانية لموضوعات الكتاب، (العدد 426، الثلاثاء بتاريخ 20 ربيع أول 1422 هـ ـ الموافق 12 يونيو 2001م)، وكان المفترض أن تكون الحلقة الثالثة رد على النتائج التي توصل إليها وهي موضوع الكتاب الرئيسي حول حياة وهلاك فرعون موسى عليه السلام، وخروج بني إسرائيل من مصر، إلا أن رئيس التحرير الأستاذ عبد الله الوزير، رأى أن الموضوع طال ولأن الملف شهري ففضل عدم نشر الحلقة الثالثة، وهذا نصها:
الخروج من مصر
وعند مقابلته (المؤلف) بين معطيات الكتب المقدسة والعلوم والمعارف الحديثة، نجده يقدم رواية تاريخية مثله مثل ،معظم علماء الآثار الغربيين، تتوافق مع خرافات التوراة المُحرفة وأساطيرها عن تلك الأحداث دون تقديم أدلة آثارية قطعية تؤكد صحة ما ذهب إليه، وذلك أمر طبيعي لعلم آثار غربي يؤمن بصحة ما جاء في تلك التوراة بحكم اعتقاد الديني وثقافته النصرانية، ولكن المؤسف هو أن نجد علماء آثار مسلمين يقولون بنفس ما ذهب له علماء الآثار الغربيين على الرغم من مخالفة ذلك للقطعي والثابت في القرآن الكريم!
لقد حان الوقت لتقديم رواية تاريخية نرى أنها صحيحة بعيداً عن التعصب والعنصرية التي تنطلق من خلال معطيات الرواية التوراتية، والانحياز وعدم الموضوعية ولا الحيادية العلمية من العلماء الغربيين. وذلك من خلال مناقشة مجمل الآراء التي ذُكرت في الكتاب حول الموضوع، والجمع بينها وبين الحقائق التاريخية العامة التي ذكرها القرآن الكريم. ومقابلتها ما أمكن بالعلوم والمعارف الحديثة بعيداً عن أن تكون نقطة الانطلاق التوراة.
كتب المؤلف تحت عنوان جانبي "ص(254)، برقم (1)" بعض تفاصيل الروايات:
العبريون في مصر
وبعد مقابلته للمعلومات التي ذكرتها رواية التوراة المُحرفة عن سبب اضطهاد فرعون مصر لبني إسرائيل، وتسخيرهم في بناء المدن وشق الطرق ـ تلك المدن والأهرامات التي طالب بحق اليهود فيها اليهودي الخزري مناحيم بيغن بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد بزعم أن الذين بنوها هم أجداده من بني إسرائيل. مع أن سبب الاضطهاد في القرآن ذُكِر خلاف ذلك، وأن الاضطهاد تم بناء على الرؤية التي رآها فرعون في منامه وفسرها منجموه بأن هلاكه وزوال ملكه سيكون على يد رجل من بني إسرائيل لم يولد بعد.
تحت ذلك العنوان يقول موريس بوكاي: هؤلاء القوم (بني إسرائيل) مختلف على أصلهم بين علماء الآثار والمؤرخين، إلا أنه بدون دليل قاطع يخلص إلى القول (ص255-256): "إن ما تركه العبريون كآثار لمكوثهم بمصر غامض جداً إذا استثنينا معطيات الكتب المقدسة. ومع ذلك يوجد بعض الوثائق الهيروغليفية التي تشير إلى أنه قد وجد بمصر فئة من العاملين تسمى أبيرو Apiru او هابيرو Habiru أو Hapiru. رأى البعض صحة أو خطأ أنهم العبريون. وقد أشير بهذا الاسم إلى عمال البناء والعمال الزراعيين وعمال قطف العنب الخ.. من أين أتوا؟ عسيرة حقاً الإجابة عن هذا. وكما يقول الأب ديغو (فإنهم لا ينتمون إلى السكان المحليين لا يجدون هويتهم في طبقة من المجتمع وليس لهم عمل واحد ولا وضع واحد)".
ومع أن هؤلاء العبيرو مذكورين في أكثر من مكان غير مصر وخاصة في بلاد الشام إلا أنه يجزم أنهم هم العبريون، فيقول (ص256): "(أيا كان الأمر ففي عصر رمسيس الثاني نفذ العبريون في قول التوراة) أو الأبيرو (حسب النصوص الهيروغليفية) في الأعمال الكبرى التي أمر بها فرعون ويمكن أن يقال إنهم ساهموا في أعمال إجبارية. وليس هناك شك في أن رمسيس الثاني كان يضطهد اليهود: ومدينتا رمسيس وبيتوم المذكورتان في سفر الخروج تقعان على الجزء الشرقي من دلتا النيل. وتانيس Tanis وقنطر Qantir الحاليتان اللتان تبعدان 25 كم كل عن الأخرى مطابقتان لهاتين المدينتين القديمتين. هناك كانت عاصمة الشمال التي بناها رمسيس الثاني. ورمسيس الثاني هو فرعون الخروج". وأن موسى قد ولد في عهده.
تعليقي على ذلك: أنه مما يؤسف له أن علماء الآثار والكتاب الغربيين الذين بحثوا عن فرعون الخروج معتمدين على رواية التوراة، وقالوا بفراعنة غير رمسيس الثاني ومرنبتاخ، ومَنْ نقل عنهم من المسلمين دون تدقيق أو تمحيص، قد خلطوا بين قوم ذكروا في الوثائق المصرية القديمة، على فترات متباعدة من الزمن من قبل زمن الهكسوس تقريباً، باسم "الخابيرو والعبيرو أو الأبيرو الهابيرو". وقد قاموا بأعمال سخرة في مصر وبناء المدن المذكورة في التوراة وغيرها، وبين كلمة عبرو أو عبرانيين التي كانت تطلق على بني إسرائيل تحديداً آنذاك، وقد ربطوا تاريخ الإسرائيليين في دخولهم لمصر وخروجهم منها بتاريخ الخابيرو ولم يفصلوا بينهما. وذلك ما تسبب في اختلاف الآراء حول فرعون موسى عليه السلام وتاريخ الخروج. فمثلاً اعتبر (عبد الحميد زايد) في كتابه "الشرق الخالد": "أن كل الإسرائيليين عبرانيين وليس كل العبرانيين إسرائيليين". هذا القول خطأ: لأن كلمة "عبرانيون" اصطلح على أنها تطلق فقط على "بني إسرائيل"، وعلى ذلك لا علاقة لهم بجماعة "الخابيرو" من قريب أو من بعيد.
وهناك شبه إجماع بين علماء الآثار على أن الخابيرو تسمية تطلق على فئة من الناس كانت خليط من قبائل مختلفة أشهرها الآراميين، ليس لها موطن، وكانت تعتمد في حياتها على الإغارة وقطع الطريق، وكانت مرتزقة بالمعنى الحديث للكلمة أي ممكن أن تقاتل مع من يدفع لها. وكان الفراعنة وأمراء بلاد الشام أوقات يدفعون لهم ليأمنوا شرهم، وكانوا يجوبون الأرض بين بلاد الشام ومصر. وترى التوراة أن داود عندما فر من جيش طالوت استعان بهم في قتاله. كما أنهم مذكورين في التاريخ القديم قبل تشكل بني إسرائيل في جماعة واحدة تعرف باسمهم، ولذلك نستطيع الفصل بين الجماعتين وعدم الربط بينهما لا في الحل ولا الترحال ونحن مطمئنين، لأننا لا نلهث وراء إثبات صحة هذه الرواية أو تلك حتى ولو خالفنا الحقيقة مثل الآخرين*!! انتهى التعليق.
موقع الخروج في الحوليات الفرعونية
وتحت هذا العنوان (ص258) يقول: "فيما يخص تحديد تاريخ الخروج يمكن الوصول إلى معطيات إيجابية وبشكل له قيمة. يعتبر منذ عصر طويل جداً، منبتاخ Mineptah خليفة رمسيس الثاني، هو الفرعون الذي وقع في عصره خروج موسى من مصر. لقد كتب ماسبيرو Maspero، عالم الآثار المصرية الشهير في بداية هذا القرن، في كتاب "دليل زائر متحف القاهرة" (1900) أن منبتاخ، "في قول مأثور اسكندري الأصل، هو فرعون الخروج، أي الذي هلك في البحر حسبما يقال". ولم أستطع أن أجد الوثائق التي أسس عليها ماسبيرو زعمه ولكن جدية الكاتب تفرض علينا أن نعلق قيمة كبيرة على ما قال به".
وفي (ص259) يقول: "ومن أغرب الفروض التي رأت النور فرض ج. دي ميسلي J.de miceli (1960) الذي يدعي أنه توصل إلى تحديد زمني للخروج بهامش يصل إلى يوم واحد، وهو 9 أبريل 1495 ق.م وهو فقط من خلال حساب التقويمات. وعلى ذلك يكون تحتمس الثاني، وكان ملكاً في هذا التاريخ، هو فرعون الخروج" ودليله على فرضه هذا، وصف لأورام جلدية يصفها بأنها البرص، الذي كان من الضربات التي ضرب الله بها فرعون وقومه، والمؤلف يرفض هذا الفرض لأن "هذا البناء الغريب لا يأخذ في اعتباره مطلقاً الأمور الأخرى في رواية التوراة، وخاصة إشارة التوراة إلى مدينة رمسيس، تلك الإشارة التي تبطل كل فرض عند تحديد تاريخ الخروج قبل أن يكون أحد الرعامسة قد ملك مصر". أما فيما يتعلق بأورام تحتمس الثاني الجلدية، فإن تحتمس الثالث وحفيده أمِينوفيس الثاني هما أيضاً كانا مصابين بأورام جلدية، أقام البعض فرض وجود مرض بهذه العائلة.
وفي نفس الصفحة يقول: "كذلك الفرض الذي أقامه دانييل روبس Daniel Rops في كتابه "شعب التوراة" والذي ينسب إلى أمينوفس الثاني دور فرعون الخروج، إذ لا يبدو أن فرضه يستند إلى أساس بأكثر من الفرض السابق، فبحجة أن أباه تحتمس الثالث كان شديد القومية، يجعل دانييل روبس من أمينوفس الثاني مضطهداً للعبريين وبأن حماته، الملكة ختشبسوت الشهيرة، هي التي التقطت موسى دون أن نعرف سبباً لذلك".
وفي (ص260) يعرض فرض للأب ديفو يقول فيه: "فهو يضع على أساس أكثر صلابة فرضه القائل برمسيس الثاني الذي درسه في كتابه (تاريخ إسرائيل القديم)" أي أن رمسيس الثاني هو فرعون الخروج. ويعتمد الأب ديفو في فرضه هذا على معطية لها قيمة رئيسة "وهي بناء مدينتي رمسيس وبيتوم، المذكورتين في نص التوراة. وعلى ذلك لا يمكن اعتبار أن الخروج قد حدث قبل صعود رمسيس الثاني إلى العرش وهو حدث تحدده حوليات دريتون Drioton وفاندييه Vandier بعام 1301 ق.م وتحدده حوليات روتون Rowton بعام 1290 ق.م إن الفرضين الأولين المذكورين فيما سبق مرفوضان لسبب ضروري وهو أن رمسيس الثاني هو فرعون الاضطهاد الذي تتحدث عنه التوراة.
وفي رأي الأب ديفو أن الخروج قد حدث في النصف الأول من حكم رمسيس أو في منتصفه. وتحديد الأب ديفو لهذا التاريخ غير دقيق تماماً: فهو يوحي بهذه الفترة حتى يعطي الوقت الكافي، إن جاز القول، لجماعة موسى أن تستقر بأرض كنعان وحتى يتمكن خليفة رمسيس الثاني منبتاح -الذي نظم الحدود بعد موت أبيه- من أن يُخضع بني إسرائيل كما يشهد بذلك نصب يرجع إلى العام الخامس من ملكه"
تعليقي على ما تقدم أن النتيجة التي يريد أن يخلص لها المؤلف خطيرة جداً:
إن سبب رفض المؤلف لرأي الأب ديفو هو شك الأب ديفو لمصدر التوراة في النص (23) من سفر الخروج. لأن الأب ديفو يريد أن يجعل لموسى فرعون واحد فقط ولد في عهده وخرج في عهده، ليبرر بذلك ذكر اسم إسرائيل على النصب الذي يخلد انتصارات العام الخامس من حكم منبتاح، الذي في الحقيقة لا أصل له لا في التوراة ولا في تاريخ حكم منبتاح نفسه. كما أن المؤلف في رفضه رأي الأب ديفو يدافع عن روايات التوراة كلها ويصر على أن لموسى فرعونين وليس فرعون واحداً "فرعون القهر وفرعون الخروج" (ص261)، مع مخالفة ذلك لصريح القرآن الذي أثبت أنه كلام الله المنزل، وأن التوراة من كتابة البشر ولم يذكر إلا فرعون واحد لموسى!!
لذلك نجده كتب تحت عنوان:
(3) رمسيس الثاني فرعون الاضطهاد ـ منبتاخ فرعون الخروج
وتحت هذا العنوان أعاد مناقشة الآراء السابقة وروايات التوراة ليصل إلى:
1ـ أن الخروج لا يمكن أن يُتصور قبل وصول أحد الرعامسة إلى الحكم في مصر.
2ـ أن موسى قد ولد في حكم باني مدينتي رمسيس وبيتوم أي في عهد رمسيس الثاني.
3ـ أن الفرعون الذي كان يحكم مصر قد مات عندما كان موسى بأرض مدين، أما بقية حكاية موسى فإنها تقع في حكم خليفة هذا الملك أي منبتاخ.
تعليقي على ذلك: إن المؤلف كل همه هو أن يثبت فرعونين لموسى، ليصل إلى نتيجة أن منبتاخ هو فرعون الخروج. وهذه هي سقطته التي تؤكد غايته التي حذرنا منها منذ البداية، فهو في سعيه الدءوب لإثبات صحة روايته التاريخية عن قصة الخروج. لا يتعرض للقرآن إلا فيما يخدم رؤيته فقط. ويتوافق مع رواية التوراة في غرق فرعون الخروج، وأنه منبتاخ لأن القرآن أكد نجاة جسد فرعون. وهو يرى أن الجثة الموجودة في متحف القاهرة باسم منبتاخ هي جثة فرعون الخروج، والدليل بعض الآثار التي يفسرها أنها نتيجة الغرق.
ولكن سنبين عدم صحة رأيه هذا عند الرد على تبريره الذي يخالف التوراة والقرآن والعلم والمعارف الحديثة عند مناقشته للنقطة التالية:
مشكلة نصب العام الخامس لمنبتاخ
يقول تحت هذا العنوان (ص265): "رأى البعض أنه من الممكن أن يُوجِد في نص النصب الشهير للعام الخامس من حكم منبتاخ اعتراضاً على القضية المطروحة هنا عن الخروج من مصر والذي يشكل آخر عمل في حكم هذا الفرعون.
ولهذا النصب أهمية عظمى حيث أنه يشكل الوثيقة الهيروغليفية الوحيدة المعروفة التي يشار فيها إلى كلمة (إسرائيل) ولقد اكتشف هذا النصب بطيبة في المعبد الجنائزي لفرعون ويقدر تاريخه بالجزء الأول من حكم منبتاخ، وهو يشير إلى سلسلة من الانتصارات التي حققها على جيران مصر وخاصة في نهاية الوثيقة، انتصار على "إسرائيل التي محيت ولم يعد لها بذور...". واستناداً إلى هذا الأمر قال البعض بأن وجود كلمة (إسرائيل) يتضمن أن اليهود كانوا مستقرين بأرض كنعان في العام الخامس من حكم منبتاخ وأن خروج العبريين من مصر، كان قد وقع قبل ذلك".
تعليقي على ذلك: وهذا طبعاً يعني نسف نظريته في أن منبتاخ فرعون الخروج. فكيف دافع عن هذه المشكلة. لقد كان دفاعه ضعيفاً وغير موضوعي، ولم يقدم أي حجة مقنعة وكان سطحياً جداً ومتهرباً من مواجهة الحقيقة الأقوى من خطأه. فهو من البداية كما هو واضح أعلاه يناقض الحقيقة، فمع أن هذا اللوح يخلد انتصارات منبتاخ في العام الخامس من حكمه، فقد اعتبره آخر عمل في حكم هذا الفرعون! كيف يكون آخر عمل في حكم هذا الفرعون وهو قد ذكر في كتابه أن مدة حكم هذا الفرعون عند بعض المؤرخين عشر سنوات، وعند البعض أنها عشرون سنة. والأرجح عندهم أنها عشرون سنة. خاصة وهو ذكر أيضاً في كتابه أن (مانيتون) قال أنها عشرون سنة. وإذا ما عرفنا أن مانيتون هو مؤرخ مصري عاش في القرن الأول قبل الميلاد. وقد نقل عنه كبار مؤرخي اليونان والرومان، وأنه كان أقرب منا لذلك العهد، ومطلع على كثير من الكتب والوثائق التي كانت في مكتبة الاسكندرية قبل أن يحرقها الرومان، ويدمروا ثروة علمية عظيمة عن تاريخ المنطقة قبل الميلاد، كان رأي مانيتون الذي يؤيده كثير من علماء الآثار هو المرجح، فكيف يكون آخر عمل لمنبتاخ وهو عاش بعده خمسة عشر سنة أخرى؟! هذه البداية في محاولة تزويره للحقيقة لكي يأتي بها على هوى كتبة التوراة.
أما في رده على من قالوا بناء على المعلومات التي ذكرها اللوح السابق الذكر: بأن هذا يعني أن الخروج تم قبل حكم منبتاخ، فيقول: "ولا يبدو هذا الاعتراض مقبولاً، فهو يعني أنه لم يكن هناك يهوداً بأرض كنعان طالما كان هناك عبريون بمصر وهذا أمر غير محتمل". معتمداً على ما قاله الأب ديفو (ص266): "فيما يخص الجنوب -من أرض كنعان- فإن استقرار جماعات تنتمي إلى العبريين بمنطقة قادش غير محدد وهو سابق على الخروج من مصر". وبناء على ذلك يقول: "بمعقولية استقرار الجماعات التي خرجت من مصر في زمن آخر غير زمن خروج جماعة موسى من مصر. إن (الأبيرو) أو (الهابيرو) الذين يطابقهم البعض على الإسرائيليين كانوا بالشام قبل رمسيس الثاني... ويذكر ب. مونتي هذا في كتابه "مصر والتوراة" قيام العبيرو بكثير من الاضطرابات، ثم يقول: "وعلى ذلك يكون معقولاً تماماً أن منبتاخ قد عاقب بقسوة هذه العناصر على حدوده على حين كان في داخل البلاد دائماً هؤلاء الذين تجمعوا فيما بعد حول موسى للهروب من مصر، وعلى ذلك لا يعارض نصب منبتاخ للعام الخامس مطلقاً الفرض المقدم هنا".
ويضيف مبرراً نظريته بحجة واهية أخرى (ص266)، هي: "أن ظهور كلمة (إسرائيل) في تاريخ شعب اليهود لا يرتبط بتاتاً باستقرار جماعة موسى بأرض كنعان"، وأن أصل الكلمة أنها: الاسم الثاني الذي أعطي ليعقوب ابن إسحاق ابن إبراهيم "ويصبح من غير المدهش أن يصف بالتالي جماعة بأكملها تخليداً لذكرى أب أول". يريد القول: أنه هناك أكثر من بني إسرائيل يرجعون في الأصل إلى الأب الأول لهم وهو يعقوب!! لذلك يواصل قوله: وعلى ذلك فإن ظهور الاسم على النصب في عهد منبتاخ أمر لا يُدهش، وأنها ليست "حجة في صالح تاريخ خروج موسى قبل العام الخامس من عهد منبتاخ. الواقع، أن النصب عندما يشير إلى جماعة تسمها (إسرائيل) فإنه لا يستطيع أن يشير إلى جماعة مستقرة سياسياً حيث أن هذا التسجيل يرجع إلى نهاية القرن الثالث عشر قبل الميلاد وحيث أن مملكة إسرائيل لم تتكون إلا في القرن العاشر قبل الميلاد. إنها بالضرورة إذن مجموعة بشرية أكثر تواضعاً".
وإن كان ذلك غير مُدهش في نظره؛ إلا أن المُدهش في كلامه: أننا لا نفهم ما علاقة اسم (إسرائيل) الذي ذُكر أيام منبتاخ، وله علاقة بزعم صحة روايات التوراة أو خطأها عن الخروج؟! وما علاقته إن كان لموسى فرعوناً واحداً أم اثنان؟! وعلاقته بصحة إن حدث الخروج أيام منبتاخ أم لا؟ ما علاقة ذلك بدولة (إسرائيل) التي أنشئت نتيجة انقسام دولة داود وسليمان عليهما السلام، بعد وفاة سليمان نحو 930 ق.م، أي بعد هذا التاريخ بحوالي ثلاثة قرون؟!!.
وردنا على مبرراته السابقة نقول: إن كان مَنْ اعتمد عليهم في إثبات أن هناك جماعات خرجت من مصر وتحمل نفس الاسم استقرت في فلسطين قبل خروج جماعة موسى من مصر، إنما ربطوا بينهم بني إسرائيل (العبرانيين) والعابيرو، فقط من أجل أن يجدوا تفسيراً مقبولاً من وجهة نظرهم لما ذكرته التوراة عن هلاك فرعون الخروج يوم الخروج، وعما تم اكتشافه على النصب في العام الخامس من حكم منبتاخ، حتى وإن خالفوا روايات الكتب المقدسة. لذلك وقعوا في الخطأ، فلا التوراة ولا القرآن أخبرانا عن خروج سابق لأحد من ذرية يعقوب بعد دخولهم مصر في عهد يوسف، قبل خروجهم مع موسى، ولا أخبرانا أن أحداً من بني إسرائيل ـ أبناء يعقوب ـ تخلف في أرض (كنعان) عندما ارتحلوا أيام يوسف إلى مصر. ولا أن هناك ابناً آخر لإسحاق بن إبراهيم بقي بأرض (كنعان) يحمل اسم إسرائيل إلى جانب حمل يعقوب لهذا الاسم، ولا المعارف الحديثة قطعت بذلك أبداً!!.
أما عن مطابقة البعض للأبيرو على الإسرائيليين وأنهم كانوا في الشام آنذاك، فقد سبق وأن أوضحنا تاريخهم ونضيف أنه قد يكون من الأسباب التي دفعت المؤرخين للربط بين العبيرو والعبرانيين عدة ملاحظات منها:
ـ تقارب الأسماء.
ـ إن غالبية العبيرو من أصول آرامية، وأن إبراهيم عليه السلام آرامي الأصل.
ـ الربط بينهم كلما عجزوا عن تقديم تفسير لحدث تاريخي مثل هذا الحدث على النصب. وكذلك وهم يحاولون تحديد فرعون الخروج وزمنه.
إذن:
فالمؤلف لم يأتِ بدليل قاطع لا من القرآن ولا من التوراة على خروج لأحد من أبناء يعقوب من مصر قبل موسى، ولا بقاء أحداً منهم في أرض (كنعان) عند دخولهم مع يعقوب إلى مصر أيام يوسف، ولا هناك دليل على أن العبيرو هم من الإسرائيليين. وبناء على ذلك فإن خروج بني إسرائيل من مصر تم قبل حكم منبتاخ. وأن قوله بأن منبتاخ فرعون الخروج غير صحيح. وكذلك منبتاخ لم يطارد شعب اسمه (إسرائيل) كما خلد على نصب العام الخامس لحكمه. وقد أثبت ذلك في دراسة أعددتها عام 1986-1987 عن تاريخ فلسطين القديم، عندما مررت على قصة الخروج وتناولتها برؤية قرآنية وليس توراتية وقابلتها مع العلوم والمعارف الحديثة.
بقي نقطة أخيرة لا بد من الرد عليها حول ادعائه بأن منبتاخ هو فرعون الخروج الذي مات غرقاً أثناء مطاردته لموسى وجماعته، وهي: أنه قد سمحت له السلطات المصرية عام 1975م بدراسة أجزاء جسم مومياء منبتاخ، ونتيجة لدراسته ودراسات أطباء مصريين وأجانب يقول (ص271): "ولكن ما يمكن استنتاجه من هذه الدراسة هو ملاحظة آفات عظيمة عديدة مع ثغره (يقصد منبتاخ) في مادة الجسم ـ ربما كان بعض منها قاتلاً ـ دون أن يكون ممكناً الآن القول بما إذا كان بعض منها قد حدث قبل أو بعد موت فرعون. فهذا الفرعون مات إما غريقاً على حسب روايات الكتب المقدسة، وإما بسبب رضوض عنيفة جداً سبقت ابتلاع البحر له أو ربما للسببين معاً".
هذا التحليل لسبب موت الفرعون (منبتاح) غير صحيح، لأن الرأي الراجح عند معظم علماء الآثار والمؤرخين عن موت هذا الفرعون (منبتاح): أن موته غامض، وأنه قبل موته الذي على ما يبدو كان غدراً قد تعرض إلى صدمات نتيجة مقاومته قتلته الذين تغلبوا عليه، ولم يقل أحد بموته غرقاً مثل قول المؤلف!
وموريس بوكاي يناقض نفسه بنفسه وينفي أن يكون منبتاح الذي يزعم أنه مات غريقاً أو بسبب رضوض عنيفة جداً سبقت ابتلاع البحر له، عندما يذكر أن التوراة تؤكد أن جسد فرعون الذي طارد موسى لم يخرج من الماء. فقد جاء في (سفر الخروج: 14/8 ـ 29): "وارتدت المياه كما كانت وغطت مركبات وفرسان كل جيش فرعون الذي دخل إلى البحر وراءهم. ولم يبق منهم أحد". يضاف إلى ذلك أن (المزمور: 36/15) يؤكد موت فرعون مصلياً ليهوه.. "الذي ألقى فرعون وجيشه في بحر البوص". ولم يقل أن بدنه ألقي به إلى اليابسة كما ذكر القرآن الكريم.
كما يذكر تعليقاً للأب كورواييه على غرق فرعون، يلفق فيه خرافاته إلى القرآن ليسيء له بقوله (ص268): "يشير القرآن إليه (أي موت فرعون) (في سورة يونس الآيات من 90 إلى 92) وعلى حسب التراث الشعبي فإن فرعون قد ابتلع بجيشه (وهذا ما لا يقوله النص المقدس) وهو يسكن الآن قاع البحر ويحكم مملكة إنسان البحر أي عجول البحر"!.
كيف يمكن الجمع بين أن الفرعون منبتاح الموجود جسده في المتحف المصري الذي مات غريقاً أو بسبب رضوض قبل الغرق هو فرعون الخروج، وبين أن فرعون الخروج حسب روايات التوراة وما زعمه عن القرآن الكريم غرق ولم ينجو جسده وأنه يسكن قاع البحر ويحكم مملكة إنسان البحر؟!
بعد ما تقدم علينا أن نحذر كثير مما جاء في هذا الكتاب من أخطاء أو تفسيرات وتحليلات توراتية.


ما سمي (لوح إسرائيل) وكذب علماء الآثار التوراتيين
وفي عام 2006 حصلت على كتاب للدكتور (سهيل زكار) ، يؤكد ما سبق أن أكدت عليه عند كتابة هذا لبحث في ثمانينات القرن الماضين وعدت وأكدت على نفيه 2001، عند التعليق ونقد كتاب (موريس بوكاي)، فالدكتور (سهيل زكار) ينفي فيه أي ذكر للفظة (إسرائيل) من أصله في ذلك اللوح الذي سماه المزورين من علماء الآثار (لوح إسرائيل)! حيث يقول:
أما نقش مرنتباح (1224 ـ 1214 ق.م) فقد كتب على صخرة سوداء، وهو يتكون من ثمانية وعشرين سطراً، تحدث فيه هذا الملك عن انتصاراته وانجازاته ضد الليبيين ثم على بعض مدن فلسطين، حيث قال في السطر السادس والعشرون: "وانبطح كل الزعماء طالبين السلام، ولم يعد أحد يرفع راسه من بين التسعة، وأمسكت التحنون وخاتي هدأت، وأصيب كنعان بكل أذى، واستسلمت عسقلون، وأخذت جزر، وينعم أصبحت كأن لم تكن، ويزريل أقفر، ولم يعد له بذور، وخارو أصبحت أرملة".
ولدي التمعن في هذا النص، نجد أن الذين جاء ذكرهم في الترجمة هم ثمانية وليس تسعة، وهؤلاء الثمانية هم: "1ـ تحنو 2ـ خاتي 3ـ كنعان 4ـ عسقلون 5ـ جزر 6ـ ينعم 7ـ يزريل 8ـ خارو".
فأين ذهب التاسع؟.
وقبل طرح هذا السؤال، يلاحظ صدور كتابات كثيرة، احتارت كيف تتعامل مع "يزريل" وكلها استسلم أن المعنى هو "إسرائيل" وكثرت الاجتهادات والتفسيرات، ولكن قبل الغرق في بحار التزييف أعدنا النظر بقراءة النص فتبين أن تزييفاً لحق بالقراءة ودمج هذا التزييف بين الاسمين السابع والثامن وبذلك باتت الأسماء التسعة "1ـ تحنو، 2ـ خاتي، 3ـ كنعان، 4ـ يسقراني، 5ـ جزر، 6ـ ينعم، 7ـ يازير، 8ـ يار، 9ـ خال". هذا ومن المعتقد أن "يازير" هي "يازور" أي "بيت الزور" على ستة كم إلى الشرق من يافا، وأما جزر فتل يقع على بُعد ثمانية كم إلى الجنوب الشرقي من الرملة، ومن المعتقد أن "يار" هي يارين في جنوب لبنان.
وكان عدد من الباحثين قد هب - بناء على القراءة المزيفة - إلى القول بأن مرنتباح هو "فرعون الخروج" وبشكل ملطف يزريل هو سهل يسرلرو، الذي صار فيما بعد يُعرف باسم "سهل سدرالون"، وبعد الإسلام "سهل أو مرج ابن عامر". انتهى.
الشائعة في منظومة علومنا الإنسانية والمعرفية، التي تعمل ضد مصالحنا وتزيف تاريخنا لصالح أعدائنا، ونقلها لنا المهزومون فكرياً ونفسياً وعقائدياً من أبناء وطننا على أنها مسلمات، ونشروها منذ أكثر من قرن ونصف، على الرغم من مخالفتها لصريح وبدهيات القرآن الكريم، دون أن يكلفوا خاطرهم بذل بعض الجهد والتدقيق والتمعن فيما ينقلون، ولذلك نجد أجيالاً من الأخطاء المتراكمة في عقول أجيال من أبنائنا كما هي متراكمة في أجيال وأجيال من المؤلفات والكتب التي تحتاج إلى نفض غبار الجهل والتزييف عنها.
وذلك ما دعاني منذ عقدين ونصف من الزمن لأن أحاول أن ألفت الانتباه لبعضها على قدر استطاعتي، وما يتوفر لدي من معلومات وأدلة، وكان هذا البحث قبل إعادة صياغته ثانية هذه الفترة جزء من ذلك.