شكرا لأخي الدكتور أحمد عبود .. الذي نبهني لما في هذه الكُليمة من الأخطاء .. فصوبت منها ... ما وقع تحت بصري ..


التصوف .. وتشعب السبل !

أهداني أخي الدكتور عبد الله مختار،كتاب "الرحلة الحجازية" للحافظ محمد يحيى بن محمد المختار الولاتي.
كنتُ قد كتبت من قبل تحت عنوان"التصوف بين"أسد"و"بيجوفيتش"،وظننت أنني قلتُ ما في نفسي حول موضوع التصوف .. ولكن.
الكتاب الذي تفضلّ عليّ به أخي الدكتور عبد الله،فتح نوافذ أخرى للقول،وأساس ذلك شخصية مؤلف"الرحلة الحجازية" .. فهو،حسب ما ذكر محقق الكتاب،في مقدمته ..(ومما ذُكر في ترجمته أنه كان عالما مشاركا،محدثا حافظا،فقيها أصوليا ،أديبا شاعرا ناثرا. مالكي المذهب،أشعري الاعتقاد،تجاني الطريقة،منفتح العقل حاد الذكاء،طويل النفس في الحوار والمناظرة،واسع الاطلاع،قوي الذاكرة يستحضر مقاطع طويلة من كتب التفسير والحديث والفقه والأصول،كروح المعاني للآلوسي،وتفسير أبي السعود،وفتح الباري للحافظ ابن حجر،والإحياء للغزالي،وعوارف المعارف للسهروردي،و قواعد الشاطبي،ومعيار الونشريسي،وجمع الجوامع للسبكي،ومرتقى الوصول لابن عاصم،ومراقي السعودي لابن الحاج العلوي الشنقيطي،ومختصر خليل،وربما كان يحفظ هذه المتون الأخيرة عن ظهر قلب،إلى جانب كتب الصحاح والسنن){ ص 8 (الرحلة الحجازية ) / محمد يحيى الولاتي / تحقيق : الدكتور محمد حجي / دار الغرب الإسلامي / الطبعة الثانية 2009 }.
أستطيع أن أضيف أيضا أن "الولاتي" "سلفي" قح .. فهو متمسك بـ"الدليل"في كل صغيرة وكبيرة.
رجل بهذه القامة،حقيق أن نقف مع كتابه لنرى الظلال التي تمددت على تاريخ الأمة منذ أن دخلت إلى باحته هذه الأحرف" ت ص و ف" رغم ما شاب مصدرها من غموض .. من"الصوف"والبعض ذكر أنها "مترجمة" .. إلخ.
إذا .. نحن لا نتحدث عن التصوف بحد ذاته،وسبق أن قلتُ في كُليمة سابقة،أن خلافنا،ليس مع"التصوف" في حد ذاته،وإنما مع ما طرأ عليه حتى انحرف به إلى أودية سحيقة .. فتاوى الحافظ "الولاتي"تقودنا لننظر إلى أعماق تلك الأودية .. والمزالق.
ما دفعني للكتابة،أو ما يميز "الولاتي"أنه يحمل كل الصفات التي ذُكرت سابقا،وأهمها – فيما أرى – أنه "تيجاني" قح أيضا .. ولا يذكر "شيخه" – على امتداد الكتاب- إلى بهذه الصيغة،أو ما يقرب منها :
( زاوية شيخنا أحمد التيجاني رضي الله عنه وأرضاه وعنّا به ){ ص 156}.
نبدأ بـ"الطامة الكبرى" .. "وحدة الوجود" قبل نقل كلام الشيخ،نشير إلى أنه على مدار الكتاب لا يسمي "ابن عربي" إلا بالشيخ الأكبر ابن العربي .. وهو "محي الدين بن عربي"،المولود في"مرسية"بالأندلس سنة 558هـ = 1165 م،والمتوفى بدمشق سنة 638هـ = 1240م. أما "ابن العربي" فهو حافظ الأندلس ، القاضي أبو بكر بن العربي – محمد بن عبد الله بن محمد المعافري – المولود في"إشبيلية" بالأندلس أيضا،سنة 467 هـ = 1076م،والمتوفى بفاس سنة 543هـ = 1148م.وهو صاحب كتاب"أحكام القرآن".
كتب الحافظ الولاتي :
(ثم أني سئلت وأنا بالإسكندرية – عمرها الله بالإسلام – عن وحدة الوجد التي يقولها بعض المتصوفة،ما صورة ألفاظهم المنقولة عنهم فيها؟ وما دليلهم على إثباتها؟ وهل تحتمل ألفاظهم فيها التأويل أو لا؟ (..) فقلت ،وبالله استعنت،وإليه من الحول تبرأت :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله.
اعلم أيها الناظر المنصف وفقنا الله وإياك لملازمة الأدب مع مقام الربوبية ومقام النبوءة،أن صورة ما اطلعنا عليه من الألفاظ المنسوبة إليهم ها هي ذي :
أولها أنه نقل عن الشيخ الأكبر ابن العربي في الفتوحات أنه قال:"سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها" (..) ثالثها ما نقل عن الحلاج أنه قال:"أنا الحق وما في الجنة إلا الله".
رابعها قول بعضهم إن الله تعالى سبق قضاؤه أن لا يُعبد سواه فكل عابد إنما يعبد الله تعالى من حث يدري ومن حيث لا يدري فإنه جلّ شأنه الأول والآخر والظاهر والباطن،والأعيان الثابتة ما شمت رائحة الوجود ولا تشمه أبدا" انتهى من روح المعاني.
وأما دليلهم على إثبات الوحدة المذكورة في زعمهم فهو قوله تعالى :"سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق" { الآية 53 من سورة فصلت} فقالوا إن الضمير في أنه الحق راجع إلى المَرْئِيّ الذي هو المخلوق. وفي ظاهر هذه العبارة من الشناعة ما لا يخفى على ذي بصيرة،ولكن الذي يعطيه حسن الظن بهم أنهم لا يريدون ظاهرها،بل مرادهم أن المرئي يتبين للناظر فيه بالنظر الصحيح المصيب إذا تأمل ما فيه من آيات الله أنه أي المرئي مجلي الحق تعالى،فيستدل به على أنه تعالى هو الواحد الحقيقي الذي ليس في الوجود على الحقيقة سواه. فتأويل الآية عندهم سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أن المرئي الذي فيه الآيات مجلّي الحق أي دال على أنه هو الواحد الحق الذي ليس في الوجود سواه على الحقيقة. فيُنتج ذلك أن الوجود الحقيقي واحد،وهو وجود الله تعالى ولا يريدون أن المرئي الذي فيه الآيات هو عين الحق تعالى،ولا أن الحق تعالى حالٌ فيه،تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. بل مرادهم أن المرئي مجلي الحق تعالى. وعلى كل حال فإن تفسيرهم للضمير المذكور بأنه راجع إلى المرئي مع ما فيه من سوء الأدب مع مقام الربوبية مخالف لظاهر الآية،فإن ظاهرها أنه راجع إلى القرآن،والحق فيها بمعنى الصواب الموافق لما في نفس الأمر ضد الباطل،لا بمعنى الذات المقدسة. ويدل على ذلك كون الآية من أولها مسوقة لبيان حقيقة القرآن وإثبات كونه من عند الله لا لبيان أن المرئي الذي فيه الآيات يدل على وحدانية الله تعالى،لأن أولها "قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد سنريهم آياتنا " الآية { الآية 52 من سورة فصلت} .
واستدلوا على الوحدة المذكورة أيضا بقوله تعالى "وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا" { الآية 23 من سورة الإسراء} وفسروا القضاء في الآية بالحكم النفسي الأزلي وتوصلوا بذلك إلى وحدة الوجود،وأن الكافر في حال عبادته للصنم إنما يعبد الله تعالى لكن من حيث لا يدري. وظاهر هذه العبارة الكُفر – أعاذنا الله منه –ولكن يمكن تأويلها بأن مرادهم أن الصنم مخلوق لله تعالى وعبد له،فعابدُه جعل نفسه عبدا لعبد الله تعالى،وعبد العبد عبد لربه،لكن الكافر لا يدري ذلك،لا أنهم يعنون أن عبادة الكافر لصنمه تعدُ عبادة لله تعالى شرعا وأن الله تعالى هو عين الصنم أو حالٌ فيه،تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. بل هو الواحد الأحد القائم بنفسه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. مع أن تفسيرهم للقضاء في الآية بالحكم النفسي الأزلي مخالف لظاهرها ولما عليه أئمة التفسير كلهم،فإنهم فسروا القضاء فيها بالأمر أو بالتوصية،أي أمر ربك أن لا تعبدوا إلا إياه،أو أوصى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه. وجاء في قراءة ووصى ربك ،فهي مفسرة لقراءة وقضى ربك. ومما يمنع حمل القضاء في الآية على الحكم النفسي الأزلي عطف وبالوالدين إحسانا على قوله أن لا تعبدوا إلا إياه،إذا لا يسع عاقلا أن يقول إن الله تعالى قضى أي حكم في الأزل بأن كل ولد يُحسن إلى والديه،فتعين أن معنى قوله تعالى وقضى ربك أمر أو وصى والله أعلم. واستدلوا لقولهم المذكور أيضا بالحديث الرباني المعروف عندهم وهو كنت كنزا مخفيا إلخ .. وهو حديث موضوع (..) قال في روح المعاني : ومَن يرويه من المتصوفة معترف بعدم ثبوته نقلا لكن يقول إنه ثابت بطريق الكشف،وقد نص على ذلك الشيخ الأكبر قدس الله سره والتصحيح الكشفي شنشنة لهم. انتهى.
قلتُ : وطريق الكشف لا عبرة بها عند الفقهاء أهل السنة في إثبات الأحكام الشرعية ولا الأحاديث النبوية،فأحرى أن تثبت بها أحاديث الصفات المتشابهة والله أعلم){ ص 217 - 220}.
لا أقول إلا رحم الله والديّ،,رحم الشيخ"الولاتي"وجزاه خيرا على حسن ظنه بإخوانه،وسعيه لتخريج كلامهم على غير ظاهره ... ومع ذلك فقد كرر مرارا الإشارة إلى"أدلتهم على وحدة الوجود"ورد عليها .. ولو لم يثبت عنده قولهم بالوحدة المذكورة .. وتقصيهم الاستدلال لها،لما كانت ثمة مشكلة أصلا .. خصوصا أنهم اضطروا لـ"وضع" حديث" كنت كنزا" لإثبات الوحدة المزعومة ..وقد وصف ألفاظهم بأنها "كفر "والعياذ بالله .. وأنها"سوء أدب مع مقام الربوبية".
ثم انتقل من"ابن عربي" إلى قائل آخر :
(وكذا قول الحلاج : "ما في الجنة إلا الله" فإنه يُؤول بمثل هذا التأويل،أي ما في الجنة إلا مخلوق من آيات الله يُستدل بالنظر فيه على معرفة الله،أو ما في الجنة إلا عبدا لله أو خلق الله فيؤول كلامه على أنه على حذف مضاف لأجل حسن الظن به والله أعلم بمراده.
وأما قول بعضهم "سبحاني سبحاني"فإنه يُؤول بأنه على حذف مضاف،أي سبحان خالقي أو سبحان ربي){ ص 225 - 226}.
مرة أخرى،جزى الله الشيخ خير الجزاء على حسن الظن .. ولكن قوله أن "الحلاج"يقصد " ما في الجنة إلا عبدا لله"فإن يوم القيامة ..لا يبقى شاك في الله .. فقد مضى عهد "الغيب" الذي يبنى عليه الإيمان بالله أو الكفر به،والعياذ بالله .. ثم لو كان هذا هو المقصود لما حُوكم"الحلاج"وحُوكم هذه .. ترد أيضا على قول الشيخ "والله أعلمُ بمراده" فصحيح أن الله – سبحانه وتعالى - أعلم بمراده .. ولكن الرجل وقف أمام "قضاة"وعبر عما يقصد بكلامه ..
وقد أشار "المعري" إلى قضية "الحلاج" – والمعري نفسه رمي بالزندقة .. وهو رجل منصف،وليس ممن قد يحملون غلا لـ"الحلاج" – يقول "المعري"عن ( “الحسين بن منصور الحلاج”من”نيسابور”وقيل،من”مرو”يدعي كل علم. وكان متهورا جسورا يرومُ إقلاب الدول ويدعي فيه أصحابه الإلهية،ويقول بالحلول،ويُظهر مذاهب الشيعة للملوك،ومذاهب الصوفية للعامة،وفي تضاعيف ذلك يدعي أن الإلهية قد حلت فيه. وناظره”علي بن عيسى الوزير”فوجده صفرا من العلوم.وقال :”تعلمك لطهورك وفرضك،أجدى عليك من رسائل أنت لا تدري ما تقول فيها،كم تَكتب إلى الناس : تبارك النور الشعشعاني الذي يلمع بعد الشعشعة ! ما أحوجك إلى أدب”.){ ص 36 ) رسالة الغفران) / أبو العلاء المعري : تحقيق : الدكتورة عائشة عبد الرحمن”بنت الشاطئ” / القاهرة : دار المعارف / الطبعة السادسة / 1397هـ = 1977م}.
رغم قول الشيخ الأكبر"ابن عربي" : "سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها"،وكل ما ينسب إليه من قول بوحدة الوجود .. إلا أننا نجده،على عكس "الحلاج"يقول باستحالة تلك الوحدة !! يقول "الولاتي":
(ثم قال في روح المعاني : وقال الشيخ الأكبر في كتاب الياء،الاتحاد محال وساق الكلام إلى أن قال : فلا اتحاد البتة،أي بين الخالق والمخلوق لا من طريق المعنى ولا من طريق الصورة . انتهى){ ص 227}
نحن،إذا،أمام اضطراب وتضارب .. وذلك كله بسبب ماذا؟ نترك الإجابة إلى نهاية هذه الأسطر.
ثم يكمل الحافظ"الولاتي" الإجابة على السؤال الذي طُرح عليه في "الإسكندرية" :
(وأما هل لأهل التصوف في ألفاظهم المذكورة أصل من السنة يأتسون به،أي هل ورد مثلها عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أو عن أحد من أصحابه – رضي الله عنهم – فجوابه والله أعلم أنهم لا أصل لهم في ذلك من السنة،فلم يُرو عن النبي – صلى الله عليه وسلم – ولا أحد من أصحابه – رضي الله عنهم – لفظ يقتضي وحدة الوجود أو يُوهم الحلول أو التجسم أو الاتحاد،بل ولا أصل لهم في ذلك من سلف الأمة من التابعين ولا من تابعيهم ولا من سلف المتصوفة كالقشيري والسهروردي ،وإنما حدث القول بالوحدة من متأخري المتصوفة كالهروي وابن العربي وابن سبعين وابن الفارض وابن عفيف والنجم الإسرائيلي وأضرابهم){ ص 234 }
هذه إجابة واضحة،وضوح الشمس،من هذا"الحافظ : التيجاني" .
ثم قال الشيخ،وذلك سنة 1314هـ ..(وسُئلتُ أيضا وأنا بتونس – عمرها الله بالإسلام – عن الحكم الشرعي في قيام جماعة الذكر في تلاوة الورد عند لفظ معين مِن أذكار الورد،والقيام عند قراءة المولد الشريف وعند مدح النبي صلى الله عليه وسلم،عند لفظ معين أيضا،هل هذا القيام سنة أو بدعة؟ (..) فقلت وبالله استعنت وإليه من الحول والقوة تبرأت. أما القيام في حالة تلاوة الوِرد عند لفظ معين فإنه بدعة أدنى مراتبها الكراهة،وكذا القيام في حال قراءة المولد الشريف،وفي حال مدح النبي – صلى الله عليه وسلم – عند اللفظ المُعين إذا كان عن قصد واعتياد ويرونه من سنة الورد أو من سنة المولد الشريف أو من سنة مدح النبي – صلى الله عليه وسلم – وذلك من ثلاثة أوجه.
أحدها أنه لم يرد عن النبي – صلى الله عليه وسلم – ولا عن الصحابة – رضوان الله عليهم – القيام في حالة تلاوة القرآن أو في حال إنشاد حسان أو كعب بن مالك لمدح رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلم يُروَ عن أحد من الصحابة أيضا القيامُ عند ذلك لا في حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – ولا بعد وفاته – صلى الله عليه وسلم – فتعين أنه بدعة محدثة. والأصل في البدعة الكراهة. قال القاضي أبو عبد الله المقري : الأصل في البدعة الكراهة إلا إذا تناولتها قاعدةٌ غيرها من الأحكام من غير معارض يردُّ إلى لأصل فتلحق بالمتناول إن اتَّحدَ،وبأقوى المتناولين إن تعدد. انتهى.
وإنما كانت البدعة مذمومة بالأصالة كراهة أو تحريما للحديث الصحيح (..) عليكم بسنتي (..) وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار (..) ففي هذا الحدث دلالة واضحة على أن القيام المذكور منهي عنه إما كراهة وإما تحريما لأنه بدعة قطعا والقاعدة الشرعية أن البدعة مذمومة إلا إذا تناولها دليل ندب أو إباحة فحينئذ تكون بدعة حسنة – يتناولها قوله – صلى الله عليه وسلم – مَنْ سن سنة حسنة (..) ففي هذا الحديث أن من البدع ما هو حسن ،وهو حديث خاص،والحديث الأول عام. والقاعدة الشرعية القضاء بالحديث الخاص على الحديث العام،فتخرج البدعة التي تناولها دليل وجوب أو دليل ندب أو دليل إباحة من عموم الحديث الأول فتكون حسنة. فالتي تناولها دليل وجوب ككتابة الحديث وتدوين الفقه،والتي تناولها دليل ندب كصلاة التراويح،والتي تناولها دليل إباحة كاتخاذ المناخل لتليين العيش. قال المنجور في شرح المنهج : قال البرزلي الإجماع على أن البدع منها ما هو حسن مثل قول عمر في التراويح نِعِمَّتِ البدعة هذه،أي ومنها ما هو قبيح أيضا ){ ص 300 - 302 .}.
هنا تذكرتُ دعاء خطيب مسجدنا السابق،فقد كان مصرا على قول : وكل بدعة في الدين،ضلالة .. إلخ. فهنا يبدو "المنخل"،وما ليس "عبادة"غير داخل،بالضرورة،في ما يرمي إليه الحديث الشريف ..والله أعلمُ .
وإلى "طامة"أخرى .. ونلاحظ أن"الولاتي"دائما يستعمل عبارة"المتصوفة" .. كأنه يقصد من يدعون التصوف !! فإذا أشار إلى "جهلة المتصوفة" فقد اجتمع الحشف،مع سوء الكيل!! وهذه المرة يتحدث المؤلف عن "الأقطاب" :
(بخلاف ما يدعيه جهلة المتصوفة في القطب فإنهم يدعون أنه هو المدبر لأمر السماء والأرض ومن فيهما وما فيهما،وأنه لولاه لسقطت السماء على الأرض. ومعلوم ضرورة أن الله عز وجل لم يكلفه بذلك قطعا. بل لم يرد في الكتاب ولا في السنة أنه تعالى كلف مرسلا أو نبيا أو ملكا مقربا بأمر السماء والأرض ومن فيهما بدليل قوله تعلى حكاية عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم سيد الأولين والآخرين "وما أدري ما يُفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إليَّ" { الآية 9 من سورة الأحقاف} (..) فمن ادعى أن القطب هو المدبر لأمر السماء والأرض وما فيهما فقد افترى على الله فِرية عظيمة يُخاف عليه من الكفر – أعاذنا الله منه – بسببها){ ص 320}.
ويُكمل ..(وقد حمل بعض الجهلة من المتصوفة المدبرات في قوله تعالى"والمدبرات أمرا"على النفوس الفاضلة بعد مفارقتها لأبدانها بالموت،أي نفوس الأولياء فقالوا هي المدبرة لما يكون في عالم الكون،وهذا أيضا كالقول في القطب فهو أيضا ضلال مبين){ص 322 - 323}.
ثم ينقل عن "ابن خلدون"بداية،وسبب دخول فكرة"الأقطاب"إلى علم التصوف،فيقول :
(قال بذلك ابن خلدون في مقدمة تاريخه فقال في مبحث علم التصوف ما نصه : ثم إن هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف وفيما وراء الحس توغلوا في ذلك ،فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة،كما أشرنا إليه،وملؤوا الصحف منه مثل الهروي في كتاب المقامات له وغيره،وتبعهم ابن العربي وابن سبعين وتلميذهما ابن العفيف وابن الفارض. وكان سلفهم مخالطين للإسماعيلية من الرافضة الدائنين بالحلول وإلهية الأئمة مذهبا لم يعرف لأولهم وأُشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر واختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم،وظهر في كلام المتصوفة القول بالقطب..){ ص 323 - 324}


وإلى"طامة"الذبح على القبور ،يقول "الحافظ الولاتي" :
(وسئلت أيضا عن الحكم الشرعي فيما يفعله أهل المغرب من الذبح على قبور الصالحين تقربا بهم في قضاء حوائجهم وندائهم للموتى واستغاثتهم بهم يطلبون حوائجهم،يقولون يا فلان اقض لي حاجتي الفلانية،ومنهم من يقول يا فلان توسلت بك إلى الله تعالى في قضاء حاجتي. فسئلت عن الذبح المذكور هل هو بدعة محرمة فقط أم كفر أعاذنا الله منه أو كبيرة فقط؟ وعن طلب الحوائج من الأولياء أصحاب القبور والاستغاثة بهم هل هو بدعة محرمة أم لا؟
فأجبت ،والله الموفق للصواب،وإليه المرجع والمآب،بأن الذبح على قبور الأولياء تقربا إليهم في قضاء الحوائج بمنزلة الذبح على الصنم تقربا إليه بذلك. فإن قالوا نحن لا نعتقدهم آلهة ولكنا نتقرب إليهم بالذبح ليتوسطوا بيننا وبين الله تعالى في قضاء حوائجنا،قلنا لهم كذلك عبدةُ الأصنام فإنهم قالوا مثل هذه القولة ولم يخرجهم ذلك عن دائرة الشرك – أعاذنا الله منه – كما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله : "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى"فلا فرق بين من تقرب إلى الولي بالذبح عند قبره في قضاء حوائجه يعتقد أنه واسطة بينه وبين الله تعالى وبين عابد الصنم في تقربه إليه بالذبح عنده لقضاء حوائجه يعتقد أنه واسطة بينه وبين الله تعالى،لأن الولي مخلوق لا ينفع ولا يضر ولا تأثير له كما أن الصنم كذلك (..) فإن قالوا نحن نذبح على اسم الله تعالى وعبدةُ الأصنام يذبحون على اسم الصنم،وهذا فرق بيننا وبينهم.
قلنا لهم هذا لا ينهض فرقا ولا حجة لأنكم تذبحون على اسم الولي مع اسم الله تعالى فتقولون بسم الله هذه ذبيحتك أيها الشيخ فلان،واعتقادكم في حالة الذبح مع اسم الولي لا مع اسم الله تعالى،لأن الولي هو الذي تطلبون منه قضاء حوائجكم،فهو المقصد الأعظم عندكم. فذكركم لاسم الله تعالى عند الذبح إنما هو صورة اللفظ. فقد ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : إن الله لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم ولكن ينظر إلى قلبوكم. (..) فإن قالوا الفرق بين الذبح على قبر الولي والذبح على الصنم أن الصنم جماد والولي صالح من صلحاء الأمة المقربين عند الله فتعظيمه بالذبح ليس كتعظيم الجماد الذي هو الصنم،ونحن لا نقصد إلا تعظيم الولي ولا نقصد تعظيم القبر الذي هو جماد كالصنم.
قلنا لهم : تعظيمكم للولي بذبحكم على قبره بمنزلة تعظيم النصارى – لعنهم الله – في زعمهم لعيسى – عليه السلام – بذبحهم على صورة الصليب التي هي جماد. (.) فإن قلتم نحن لا نعتقد فيه التأثير أصلا.
قلنا لهم معيار ذلك أن تذبحوا في بيوتكم وتتصدقوا بلحم الذبيحة وتنووا ثواب الصدقة لأنفسكم أو لوالديكم و تتوسلوا إلى الله تعالى في قضاء حوائجكم بعملكم الصالح هذا الذي هو الصدقة المذكورة،فإن توسل العبد إلى الله تعالى بعمله الصالح وردت به السنة الصحيحة (..) ففي روح المعاني للشيخ محمود الألوسي في تفسير قوله تعالى "واعتصموا بالله هو موليكم فنعم المولى ونعم النصير"{ الآية 78 من سورة الحج} ما نصه : وفي قوله تعالى"إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له" { الآية 73 من سورة الحج} الآية إشارة إلى ذم الُمغالين في أولياء الله تعالى حيث يستغيثون بهم في الشدة غافلين عن الله تعالى وينذرون لهم النذور،والعقلاء منهم يقولون هم وسائلنا إلى الله تعالى وإنما ننذر لله عز وجل ونجعل ثوابه للولي. ولا يخفى أنهم في دعواهم الأولى أشبه الناس بعبدة الأصنام القائلين"ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى" ودعواهم الثانية لا بأس بها لو لم يطلبوا منهم شفاء مريضهم ورد غائبهم أو نحو ذلك،والظاهر من حالهم الطلبُ لذلك. (..) ورأيت كثيرا منهم يسجد على أعتاب أحجار قبور الأولياء ، ومنهم من يثبت لهم جميعا التصرف في قبورهم لكنهم متفاوتون فيه بحسب تفاوت مراتبهم،والعلماء منهم يحصرون التصرف في القبور في أربعة أو خمسة،وإذا طولبوا بالدليل قالوا ثبت ذلك بالكشف،قاتلهم الله تعالى ما أجهلهم وأكثر افتراءهم! ومنهم من يزعم أنهم يخرجون من القبور ويتشكلون بأشكال مختلفة وعلماؤهم يقولون إنما تظهر أرواحهم متشكلة وتطوف حيث شاءت،وربما تشكلت في صورة أسد (..) وكل ذلك باطل لا أصل له في الكتاب ولا في السنة ولا في كلام سلف الأمة. وقد أفسد هؤلاء على الناس دينهم وصاروا أضحوكة لأهل الأديان المنسوخة من اليهود والنصارى والدهرية،نسأل الله تعالى العفو والعافية. (..) وفي روح المعاني أيضا في تفسير قوله تعالى"وما يُؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون"{ الآية 106 من سورة يوسف} ما نصه : وقد يقال نظرا لمفهوم الآية إنهم يندرج فيهم كل من أقر بالله وخالقيته مثلا وكان مرتكبا ما يُعد كفرا شرعا كيفما كان. ومن أولئك عبدة القبور والناذرون لها المعتقدون للنفع والضر مِمَّنِ الله تعالى أعلمُ بحاله فيها وهم اليوم أكثر من الدود. انتهى ){ ص 325 - 329}.
وهذه إطلالة على بعض جوانب "النفق" الذي دخلت فيه الأمة .. قدم "المرابط الوداني" تفسيرا لسقوط الجزائر في أيدي المحتلين،فذكر أنه نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيبسبب تخلي ديوان الأولياء عن حمايتهم لأن أهلها تعدوا حدود الله ونكبوا صراط الشرع يقول : "إن ديوان الأولياء اجتمعوا وقالوا نريد أن نأخذ الجزائر من أيدي المسلمين لأنهم طغوا وتعدوا حدود الله حتى برأ منهم وصيهم في الولاية سيدي عبد الرحمن الثعالبي"){ص 110 ( أدب الرحلة في بلاد شنقيط خلال القرنين الثالث والرابع عشر الهجريين "18/19 م" / محمذن بن أحمد بن المحبوبي / جامعة محمد الخامس }.}.
هذا،وهو،دون شك،يحفظ قول الحق سبحانه وتعالى :"كل يوم هو في شأن" فما الحاجة لديوان "الأولياء"؟! وأين ذهب حديث الصادق المصدوق – صلى الله عليه وسلم – (إذا مات ابن آدم،انقطع عمله) إلى آخر الحديث ... وهؤلاء يجتمعون ،ويقررون مصائر الشعوب!!
ويُكملُ "الولاتي"الإجابة على سؤال الذبح عند القبور،والنذر لها بالقول :
(فبان لك أيها الناظر أن النذر للقبور والذبح عليها داخل في عموم الشرك – أعاذنا الله منه – لشمول قوله تعالى"وما يؤمن أكثرهم بالله وإلا وهم مشركون"له. ومن علامة أنهم يعتقدون التأثير بالنفع والضر في أصحاب القبور أنهم ينفرون ممن يُرشدهم إلى الاستغاثة بالله وحده والذبح له والتصدق بالمذبوح على المساكين،لاسيما إذا قال لهم هذا الولي الذي تذبحون على قبره لا ينفع ولا يضر فينفرون ممن يرشدهم إلى نحو هذا الرشد وتشمئز قلوبهم من كلامه،ويفرحون لمن يقول لهم الولي سيدي فلان لا يذبح أحد على قبره لحاجة إل قُضيت،ولا مريض إلا برئ،ولا مكروب إلا فُرج عنه،فيستبشرون ويهشون لصاحب هذا الكلام الباطل الزائغ عن الحق،فيصدق عليهم قوله تعالى"وإذا ذُكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذُكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون"{ الآية 45 من سورة الزمر} .. (..) وفي روح المعاني 331(..) وقد قلت يوما لرجل يستغيث ببعض الأموات في شدة وينادي يا فلان أغثني فقلت قل يا الله ،فقد قال سبحانه "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني" { الآية 186 من سورة البقرة} فغضب وقال : فلان يُنكر على الأولياء. وسمعت عن بعضهم أنه قال : الوليُّ أسرع إجابة من الله عز وجل،وهذا القول من الكفر بمكان نسأل الله السلامة. انتهى.) ){ ص 330 - 332}
نسأل الله السلامة.
ثم يشير إلى أن صاحب تفسير "روح المعاني" أنه قال (.. في آخر المسودة ما نصه : (..) الثاني أن الناس قد أكثروا من دعاء غير الله تعالى من الأولياء الأحياء والأموات،مثل يا سيدي أغثني،وليس ذلك من التوسل المباح في شيء. واللائق بحال المؤمن عدمُ التفوه بذلك وأن لا يحوم حول حماه،وقد عده ناس من العلماء شركا وإن لا يَكُنْهُ فهو قريب منه،ولا أدري أحدا ممن يقول ذلك ,إلا وهو يعتقد أن المدعو الحي الغائب أو الميت المغيب يعلم الغيب ويسمع النداء ويقدر بالذات أو بالغير على جلب الخير ودفع الأذى،وإلا لما دعاه ولا فَتح فاه "وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم"فالحزم التجنب عن ذلك وعدم الطلب إلا من الله تعالى القوي الغني الفعال لما يريد. ومن وقف على سر ما رواه الطبراني في معجمه من أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين فقال الصديق – رضي الله عنه – قوموا بنا نستغيث برسول الله – صلى الله عليه وسلم – من هذا المنافق،فجاؤوا إليه فقال : إنه لا يستغاث بي وإنما يُستغاث بالله تعالى،لم شيك في أن الاستغاثة بأصحاب القبور الذين هم بين سعيد شغله نعيمه وتقلبه في الجنان عن الالتفات إلى ما في هذا العالم،وبين شقي ألهاه عذابه وحبسه في النيران عن إجابة مناديه،والإصاخة إلى أهل ناديه،أمر يجب اجتنابه ،ولا يليق بأرباب العقول ارتكابه ){ ص 334}.
هنا وقفة : عزى "الولاتي"إلى "الآلوسي" قوله :
(بقي أمران ،الأول أن التوسل بجاه النبي – صلى الله عليه وسلم – لا بأس به إذا كان المتوسلُ بجاهه مِمَّن عُلم أن له جاها عند الله تعالى،كالمقطوع بصلاحه وولايته أي كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي – رضي الله عنهم – وأضرابهم. وأما من لا يقطع في حقه بذلك فلا يُتوسل بجاهه لما فيه من الحكم الضمني على الله تعالى بما لم يعلم تحققه منه عزّ شأنه،وفي ذلك جرأة عظيمة على الله تعالى. الثاني أن الناس قد أكثروا من دعاء غير الله تعالى من الأولياء الأحياء والأموات،مثل يا سيدي فلان أغثني،وليس ذلك من التوسل المباح في شيء. واللائق بحال المؤمن عدمُ التفوه بذلك وأن لا يحوم حول حماه){ ص 333 - 334}.
لستُ مؤهلا للحدث عن هذا النوع من التوسل الذي ذكره "الآلوسي"و"الولاتي" .. ولكنني أشير إلى "المنزلق" الذي قد يؤدي إليه .. بعد أن رأينا أن الأمر وصل إلى "الاستغاثة بغير الله" .. بل والقول أن الولي الفلاني أسرع استجابة من الله .. تعالى الله.
كان الحافظ"الولاتي"قد قال،عند زيارته للمدنية المنورة :
(فلما جاء يوم الجمعية زرنا البقيع (..) ثم مشينا ذات اليمين فدخلنا قبة آل النبي- صلى الله عليه وسلم – فسلمنا عليهم،وزرنا فيها عمه أبا الفضل العباس، وسبطه الحسن (..) وبنته فاطمة وزين العابدين بن الحسين،وابنه محمد الباقر،وابنه جعفر الصادق رضي الله عنهم أجمعين،وتوسلنا إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – بجاههم وبه إلى الله تعالى،(..) ثم خرجنا منها فزرنا قبة بنات النبي – صلى الله عليه وسلم – رقية وزينب وأم كلثوم،(..) وتوسلنا بهن إلى أبيهن نبي الله – صلى الله عليه وسلم – وبه إلى الله عجز وجل (..) فمررنا بقبة الإمام مالك بن أنس – رضي الله عنه – وقبة نافع – رضي الله عنه – فسلمنا عليهما ودخلنا القبتين وزرناهما وتوسلنا إلى الله عز وجل بهما كما تقدم){ ص 190 - 191}.
نشير إلى تسلسل التوسل .. توسلنا ببنات النبي – صلى الله عليه وسلم،ورضي الله عنهن – لأبيهن – عليه الصلاة والسلام – توسلا إلى الله – سبحانه وتعالى – ثم تم التوسل بسيدنا الإمام مالك بن أنس،والإمام نافع – رضي الله عنهما – وعلى علمهما ومكانتهما،إلا أنهما يقعان تحت قول "الآلوسي" : (وأما من لا يقطع في حقه بذلك فلا يُتوسل بجاهه لما فيه من الحكم الضمني على الله تعالى بما لم يعلم تحققه منه عزّ شأنه،وفي ذلك جرأة عظيمة على الله تعالى.) ..
ثم تجاوز الأمر الإمامين "مالك "و"نافع" .. إلى الشيخ أبي العباس التيجاني – 1737م / 1815م – فقال "الحافظ الولاتي" أنه زار ..( زاوية شيخنا أحمد التيجاني رضي الله عنه وأرضاه وعنّا به ){ ص 156}.
"وعنا به" لا تبدو إلا توسلا إلى الله – سبحانه وتعالى – بالشيخ "التيجاني" ما يدخل أيضا تحت القطع الضمني بما لم يعلم تحققه من قبل الله عزّ وجل.
ثم جاء دور الحديث عن"التكالب على المال"،فقال الشيخ الولاتي :
(وسئلت أيضا عن حال متصوفة هذا الزمان من إكبابهم على جمع حطام الدنيا من أيدي العوام يُرسلون تلامذتهم يجمعون لهم الأموال بالسؤال،وعن ادّعائهم الاطلاع على الغيب وما في القلوب،ويقولون لِمن أكرمهم أنت من أهل الجنة،ويقول شيخهم لِمن جاء متلمذا عليه : غُفرت ذنوبك وذُنوب والديك بمجرد مجيئك إلينا،وعّما يُظهرون من التنسك والتخافت والتماوت وإخفاء الصوت وإطراق الرأس والمشي البطيئ كالدبيب،وعمّا يُلبسون أتباععهم من الخِرَق والأسمال حتى يبلغ الواحد منهم مبلغ التمشيخ فيلبس أتباعهم الثياب الفاخرة حينئذ،ويزعمون أن أصلهم في إلباسهم لأتباعهم الخرقة عليّ بن أبي طالب – رضي الله عنه – وأنه لباسهم .. (..) فأجبتُ،والله الموفق للصواب،وإليه المرجع والمآب،بأن إكبابهم على جمع حطام الدنيا من أيدي العوام علامة على فساد الطوية وتعلق القلب بالدنيا وإقباله إليها،لأن سؤال الناس يَحرم على الغني بالكتاب والسنة والإجماع (..) وأما السؤال عن ادعائهم علم الغيب وما في القلوب وإخبارهم بذلك. فجوابه .والله أعلم،أن ذلك من الأكاذيب الباطلة المحرمة . (..) ففي هذه الآيات تصريح بنفي علم الغيب عن الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – فكيف بغيرهم (..) قلتُ :" فبان لك أيها الناظر أن ما يدعيه هؤلاء المتصوفة من علم الغيب والاطلاع على ما في القلوب من الباطل المخالف للكتاب والسنة. وكذا ادعاؤهم مغفرة ذنوب من جاءهم متلمذا عليهم وذنوب والديه،فإنه من الكذب والافتراء على الله تعالى،فيقال لقائل ذلك هل علمتَ أنك مغفور لك حتى تعلم أن غيرك مغفور له،فإن قال لا،قيل له أنت أعلم بحال نفسك منك بحال غيرك،وإن قال نعم قيل له أن صريح القرآن وصحيح السنة يشهدان بتكذيبك (..) وأما السؤال عن إلباسهم لمريديهم الخِرق والأسمال في ابتداء أمرهم ما داموا لم يصلوا في زعمهم إلى مقام التمشيخ وزعمهم الفاسد أنهم في ذلك مقتدون بعلي بن أبي طالب – كرم الله تعالى وجهه – فجوابه،والله أعلم،أن لباس الخرق والأسمال وإظهار التقشف ليس من الرياضة الشرعية ولا من السنة المحمدية ولا من زي أهل الله تعالى،ولا أصل لهم فيه عن علي – رضي الله عنه – ولا عن أحد من الصحابة ،ولا مستند لهم فيه لا صحيح ولا ضعيف،وإنما هو سنة الروافض الدائنين بالحلول وألوهية الأئمة– أعاذنا الله من حالهم – ففي مقدمة ابن خلدون ما نصه : ثم إن هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف وفيما وراء الحس (..) إلى أن قال : حتى إنهم لما أسندوا إلباس خرقة التصوف ليجعلوه أصلا لطريقتهم وتخيلهم رفعوه إلى علي – رضي الله عنه – وهو من هذا المعنى أيضا،أي أنه من سنة الروافض والشيعة (..) وظهر لك أن نسبتها إلى علي – كرم الله وجهه – كذبٌ وزور. ولو فرضنا أنها مأثورة عن علي- رضي الله عنه – فإنه لو كان عليٌ – رضي الله عنه – هو أول من لبس الخرقة والأسمال لكان الأشياخ الذين يدعون أنهم عارفون بالله تعالى أولى بلبسها من أتباعهم (..) ولحديث ابن عمر أيضا قال،قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من لبس ثوب شهرة ألبسه الله ثوب مذلة ،رواه أبو داوود،وفي رواية رزين ألبسه الله إياه يوم القيامة ثم ألهبه فيه النار. انتهى. وثوب الشهرة هو الذي يشتهر لا بسه بين الناس لخروجه عما يعتاد الناس لُبسه لدناءته أو لحسنه،والله أعلم.){ ص 347}.
ومن"التماوت"إلى"الصعق" عند سماع القرآن الكريم،فيقول "الولاتي" :
(وفي كتاب كف الرعاع لابن حجر الهيثمي ما نصه : وعن عائشة أنه قيل لها إن قوما إذا سمعووا القرآن صعقوا فقالت : القرآن أكرم من أن يسرق منه عقول الرجال،ولكنه كما قال الله تعالى"تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله" ففي هذه الأثار تصريح بأن ما يحصل لبعض المتصوفة من الغشي والصعق والصراخ عند سماع الذكر أو تلاوة القرآن إنما هو من استحواذ الشيطان عليهم،والله أعلم.){ ص 349}.
وبعد ... يقول ابن الجوزي :"كانت النسبة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان والإسلام فيقال مسلم ومؤمن،ثم حدث اسم زاهد وعابد،ثم نشأ أقوام تعلقوا بالزهد والتعبد فتخلوا عن الدنيا وانقطعوا إلى العبادة واتخذوا في ذلك طريقة تفردوا بها،وأخلاقا تخلقوا بها){ ص 69 (عندما يكون العم سام ناسكا : دراسة تحليلية نقدية لموقف مراكز البحوث الأمريكية من الصوفية )/ د.صالح عبد الله الغامدي / الرياض / مركز الفكر المعاصر / الطبعة الأولى 1436هـ}.
ويقول أيضا عن اسم "التصوف" :"وهذا الاسم ظهر للقوم قبل سنة مائتين،ولما أظهره أوائلهم تكلموا فيه وعبروا عن صفته بعبارات كثيرة وحاصلها أن التصوف عندهم رياضة النفس ومجاهدة الطبع برده عن الأخلاق الرذيلة،وحمله على الأخلاق الجميلة من الزهد والحلم والصبر والإخلاص والصدق إلى غير ذلك من الخصال الحسنة التي تكسب المدائح في الدنيا والثواب في الأخرى. وعلى هذا كان أوائل القوم فلبّس إبليس عليهم في أشياء ثم لبّس على من بعدهم من تابعيهم فكلما مضى قرن زاد طمعه في القرن الثاني فزاد تلبيسه عليهم إلى أن تمكن من المتأخرين غاية التمكن وكان أصل تلبيسه عليهم أنه صدهم عن العلم وأوهم أن المقصود العمل ،فلما أطفأ مصباح العلم عنهدم تخبطوا في الظلمات"){ ص 69 ( عندما يكون العم سام ناسكا}
ختاما .. ربما تبين لك أيها الناظر المنصف – حسب تعبير "الحافظ الولاتي" – الباحث عن الحق أن كل ما مر بك من"طوام"وصل بعضها إلى"الكفر" – حسب فتوى الحافظ الولاتي التيجاني – وصولا إلى الاستغاثة بغير الله .. سبحانه وتعالى .. كل هذه بسبب دخول هذه الأحرف إلى تراث الإسلام " ت ص و ف" رغم غموض أصل الكلمة .. كما سبقت الإشارة.
والأمر كله،في الأصل،يدور في البحث عن"الزهد" .. والسعي لعدم الوقوع تحت سطوة زخرف الحياة الدنيا .. وقد كنت سنة سيد الزاهدين – صلى الله عليه وسلم – كفيلة بتحقيق الغاية .. دون الانزلاق في غيابات جب لا قاع له .. نسأل الله السلامة.

أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي المدني