بسم الله الرّحمن الرّحيم

الوسطية في ميزان العقل والنقل (1)


الكاتب: ياسين بن علي


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه


برزت في الفترة الأخيرة فكرة الوسطية واشتهرت، فأصبحت شعار الجماعات، وهدف العلماء، ومقصد السّاسة ومطلب الدول، وأسّست على أساسها الجمعيات، وتسمّت باسمها الأحزاب والتيارات والحركات، وعقدت لها مئات الندوات وألفت فيها الكتب والمقالات.

ولقد تهيّأ للوسطية الوسط الذي تنمو فيه، وتوفّر لها من الإمكانيات البشرية والإعلامية والمالية ما جعلها تبرز على الساحة الفكرية والسياسية بروزا ملحوظا، فجرت على لسان العالم والجاهل، والعميل والمخلص، والجلاّد والمجلود على حدّ سواء، حتى إنّنا إذا استمعنا لخطب الطواغيت والعملاء وجدناهم ينادون بالوسطية، وإذا قرأنا الدساتير الوضعية – كدستور الكويت – وجدناها تنصّ على الوسطية كمنهج وقاعدة متبعة، وإذا قرأنا لبعض العلماء وجدناهم هم أيضا يعترفون بالوسطية، ويقولون: "ربّما كان الاعتراف بصحّة مفهوم الوسطية، وتأهيله للتأسيس والصياغة في العلم والعمل، يعدّ حقيقة مسلّمة لا جدال حولها".(1) ويقول الشيخ يوسف القرضاوي واصفا انتشار ما يسميه "التيار الوسطي": "... قاعدته في المجتمع أعرض، وجمهوره أكبر، كما أنه الأقدم زمنا، والأطول عمرا، ولهذا تنادي به الآن كبرى الجماعات والحركات الإسلامية المعاصرة وأقدمها: الإخوان المسلمون في مصر والعالم العربي، وامتدادها في العالم، وكذلك الجماعة الإسلامية في شبه القارة الهندية (باكستان، وبنجلاديش، والهند) وحزب الرفاه الإسلامي في تركيا، وحزب النهضة في الجزائر، وحركة الإصلاح والتجديد في المغرب، والجبهة الإسلامية القومية في السودان، على تفاوت بين هذه الجماعات في الفهم والسلوك والممارسة. أما حزب النهضة في تونس، وحماس في الجزائر، والتجمع الإصلاحي في اليمن، وجبهة العمل الإسلامي في الأردن، فكلّهم محسوبون على الإخوان المسلمين". (2)



لذلك، والحالة كما ذكرنا، كان لا بدّ من بيان واقع هذه الوسطية، وبيان الأسس التي قامت عليها، والآراء التي تدعو إليها، وذلك بوضعها في ميزان العقل والنقل، ومحاكمتها على ضوء الأدلة العقلية والشرعية.



مفهوم الوسطية

الوسطية من الوسط. و"الوسط في اللغة - كما جاء في القاموس المحيط للفيروزآبادي - محركة، من كل شيء: أعدله. {وكذلك جعلناكم أمّة وسطا} أي عدلا خيارا... ووسطهم، كوعد، وسطا وسطة: جلس وسطهم. وهو وسيط فيهم، أي: أوسطهم نسبا، وأرفعهم محلا. والوسيط: المتوسط بين المتخاصمين... ووسط الشيء، محركة: ما بين طرفيه، كأوسطه. فإذا سكّنت كانت ظرفا أو هما فيما هو مصمت كالحلقة، فإذا كانت أجزاؤه متباينة فبالإسكان فقط، أو كلّ موضع صلح فيه بين فهو بالتسكين وإلاّ فبالتحريك... ووسّطه توسيطا: قطعه نصفين أو جعله في الوسط، وتوسّط بينهم: عمل الوساطة، وأخذ الوسط بين الجيّد والرديء..".

وجاء في (مختار الصحاح): "وسط، القوم من باب وعد و(سطة) أيضا بالكسر أي (توسّطهم)... و(التّوسيط) أن يجعل الشيء في الوسط. وقرأ بعضهم: {فوسّطن به جمعا} بالتشديد. و (التّوسيط) أيضا قطع الشيء نصفين. والتّوسط بين الناس من (الوساطة). و(الوسط) من كل شيء أعدله ومنه قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمّة وسطا} أي عدلا. وشيء (وسط) أيضا بين الجيّد والرديء. و (واسطة) القلادة الجوهر الذي في وسطها وهو أجودها... وتقول جلست (وسط) القوم بالتسكين لأنّه ظرف وجلست (وسط) الدار بالتحريك لأنّه اسم وكلّ موضع يصلح فيه بين فهو وسط وإن لم يصلح فيه بين فهو وسط بالتحريك وربّما سكّن وليس بالوجه".


وأمّا اصطلاحا، فقد عرّفت الوسطية بتعريفات كثيرة نذكر منها ما يلي:

قال علي عبد الرضا: "اصطلاحاً فالوسطية: حالة – خطابية أو سلوكية – محمودة تعصم الفرد من الميل إلى جانبي الإفراط و التفريط. ومفهوم الوسطية قديم قدم العدل الذي يمتد إلى عمق التاريخ، فكان لفظ الاعتدال معبراً أساسيا عن مفهوم الوسطية والموزونية التي تنشدها الشعوب المضطهدة و المقهورة. أما لفظ الوسطية، فكان نادراً في كتب اللغة و الأدب باستثناء الفترة الأخيرة التي اخذ بها يتوسع على حساب المصطلحات الأخرى".(3)

ويرى الدكتور محمد عمارة الوسطية: " أخص ما يختص به المنهج الإسلامي..( فهي ) عدسته اللاّمة لأشعة ضوءه، وزاوية رؤيته كمنهج. إنها الحق بين باطلين، والعدل بين ظلمين، والاعتدال بين طرفين. وليست هي انعدام الموقف الواضح والمحدد أمام مشكلات كما يظن البسطاء. إنها في الإسلام موقف جديد بين نقيضين متقابلين ليس منبتّ الصلة عن سماتهما، إنما خلافه لهما منحصر في رفضه الانحصار أو الانغلاق على سمات أحدهما. إنه منحصر في رفضه الانحياز المغالي أو غلو الانحياز. وهي تجمع وتؤلف ما يمكن جمعه وتأليفه كنسق غير متنافر ولا ملفق من سمات القطبين. فالإثم هو المرفوض من سمات القطبين. وبهذه الوسطية يكون طوق النجاة من تمزق الانشطارية في المتقابلات المتناقضة والتي حدثت في الأمم الأخرى. فلم تعرف الحضارة الإسلامية تناقضاً بين الروح والجسد، بين الدنيا والآخرة، بين الدين والدولة، بين الذات والموضوع، بين الفرد والمجموع، بين الفكر والواقع، بين المقاصد والوسائل، بين الاجتهاد والتقليد، بين الثابت والمتغير، بين الدين والعلم. بينما انشطرت المدنية الغربية إلى مادية ومثالية، منذ جاهليتها اليونانية وحتى نهضتها الحديثة".(4)

وقال الشيخ يوسف القرضاوي: "من أبرز خصائص الإسلام وهي الوسطية، ويعبّر عنها أيضا بالتوازن ونعني بها التوسط أو التعادل بين طرفين متقابلين أو متضادّين، بحيث لا ينفرد أحدهما بالتأثير، ويطرد الطرف المقابل، وبحيث لا يأخذ أحد الطرفين أكثر من حقّه، ويطغى على مقابله ويحيف عليه.

مثال الأطراف المتقابلة أو المتضادة: الروحية والمادية، والفردية والجماعية، والواقعية والمثالية، والثبات والتغير وما شابهها. ومعنى التوازن بينها: أن يفسح لكلّ طرف منها مجاله، ويعطى حقّه بالقسط أو بالقسطاس المستقيم بلا وكس ولا شطط ولا غلو ولا تقصير ولا طغيان ولا إخسار...".(5)


مزايا الوسطية ومظاهرها عند القائلين بها


يذهب أصحاب الوسطية إلى القول بمزايا الوسطية وفوائدها الكثيرة التي جعلتها – كما يزعمون – أليق برسالة الإسلام الخالدة. من ذلك أن الوسطية -كما يقولون- تعني العدل، والاستقامة، ودليل الخيرية، وتمثّل الأمان، ودليل القوة، ومركز الوحدة، ونقطة التلاقي، وملازمة التيسير. "وإذا كان للوسطية كلّ هذه المزايا –كما يقول الشيخ القرضاوي-، فلا عجب أن تتجلّى واضحة في كلّ جوانب الإسلام، نظرية وعلمية، تربوية وتشريعية. فالإسلام وسط في الاعتقاد والتصوّر.. وسط في التعبّد والتنسّك .. وسط في الأخلاق والآداب .. وسط في التشريع والنظام".(6)

ويقول الشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي (في رسالته وسطية أهل السنة والجماعة، بتصرف): "وهذه الوسطية تتجلى في أمور الإيمان والعقيدة جميعا، وكما أن هذه الأمة - أي أهل القبلة عموما - جعلها الله تبارك وتعالى أمة وسطا فأهل السنة هم وسط أهل هذه الأمة وخيارها ، وهم أصحاب المنهج الوسط في هذه الأمة، ولو أخذنا نضرب الأمثلة من أبواب العقيدة بابا بابا، لطال بنا المقام ، ولكن نوجز ذلك بما يتضح به المنهج القويم، فمثلا :في صفات الله تبارك وتعالى ... في باب الإيمان والأحكام والأسماء ... باب القدر ...وموضوع الصحابة الكرام أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم...".

ويقول د. عثمان جمعة ضميرية: "ومن أهم خصائص هذا الإسلام الذي أكرمنا الله تعالى به أنه وسط في المِلَل والأديان، جعله الله تعالى وسطاً بين الإفراط والتفريط، أو بين الغلوِّ والتقصير؛ وتظهر هذه الوسطية في المجالات أو النواحي التي ألمحنا آنفاً إلى أن الدين يشملها كلّها:

أ - ففي العقيدة: المسلمون وسط في أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين؛ فهم لم يغلوا فيهم غلوَّ البوذيين وغلوَّ النصارى الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم، ولا جَفَوْا عنهم كما جفَت اليهود فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، وكلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذّبوا فريقاً وقتلوا فريقاً، وكذَبوا على ربهم، بل المؤمنون المسلمون: آمنوا برسل الله جميعاً، وعزّروهم ووقّروهم، وأحبُّوهم وأطاعوهم، ولم يعبدوهم ولم يتّخذوهم أرباباً، وآمنوا بجميع الكتب المنزلة على الرسل والأنبياء، فكان ذلك وسطية وتوازناً بين أمرين مذمومين.وكذلك الوسطية والتوازن بين عبودية الإنسان المطلقة لله، ومقام الإنسان الكريم في الكون؛ فقد نأى الإسلامُ بعقيدته الصافية عن كلِّ الإفراطات والتفريطات وعن كلِّ الهزات والأرجحات التي تعاورت المذاهب والمعتقدات والتصورات ما بين تأليه الإنسان في صُوَره الكثيرة، وتحقير الإنسان إلى حدّ الزراية والمهانة. ويبدأ الإسلام فيفصل فصلاً تاماً بين حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية، وبين خصائص الألوهية وخصائص العبودية، بينما تقول الكنيسة بألوهية المسيح عليه السلام على اختلاف المذاهب الكنسية كما أن المذاهب والفلسفات الأوروبية وما قام عليها من مناهج التفكير، لما أعلنت رفعة الإنسان ومقامه جعلت ذلك على حساب إيمانها بألوهية الربّ سبحانه وما ينبغي له.

وكذلك توسطت العقيدة الإسلامية في الاهتمام بالمجالات المادية والروحية، ونأت عن الإفراط والتفريط في كليهما؛ فوازنت بين الجانبين موازنة دقيقة، وضبطت العلاقةَ والنسبةَ بينهما، وبذلك يلتقي العمل للدنيا والعمل للآخرة، وكلٌّ منهما عبادة لله تعالى، وتحقيقٌ لغاية الوجود الإنساني، ضمن شروط معينة. بينما تأرجحت المذاهب الأخرى بين الاهتمام بالنواحي المادية الذي يظهر في المدنية الغربية الحديثة التي لا تقرّ الحاجة إلى خضوع مّا إلا لمقتضيات اقتصادية أو اجتماعية، وأصبح معبودها هو المال والقوة والرفاهية والرقي الماديّ - وبين الإزراء بهذا الرقيّ المادي والمتاع الدنيوي، كما هو الشأن في المذاهب التي تدعو إلى الرهبنة وتعذيب الجسد من أجل رقيّ الروح وتهذيبها للوصول إلى مرحلة الفناء.

ب - وفي مجال العبادة والتحليل والتحريم: جاء الإسلام وسطاً بين الرهبانية التي قطعت كل صلة بالحياة وانقطعت للعبادة وبين الإغراق في المجال المادي والاهتمام بالنواحي الحسية والمادية والطغيان المالي والانصراف عن العبادة وترقية النفس، كما أنَّ أمر التحليل والتحريم جاء في الإسلام وسطاً بين اليهود الذين حُرّم عليهم كثير من أنواع الطعام واللباس، بسبب ظلمهم؛ فلا يأكلون ذوات الظفر مثل الإبل والبط.. والنصارى الذين استحلّوا الخبائث وجميع المحرمات وباشروا النجاسات، أما المؤمنون المسلمون فقد أحلَّ الله لهم الطيبات وحرَّم عليهم الخبائث.

ج - وفي التشريع: جاء الإسلام وسطاً بين اليهود الذين حرَّموا على الله أن ينسخ ما يشاء ويمحو ما يشاء ويُثْبت، وبين النصارى الذين أجازوا لأكابر علمائهم وعُبَّادهم أن يشرعوا بالتحليل والتحريم من دون الله.

د - وفي مجال السلوك والأخلاق: جاءت شريعة الإسلام وسطاً بين الإفراط والتفريط في الإلزام الأخلاقي، بين الجنوح إلى المثالية الخيالية والواقعية المتزمتة؛ فهي لا تترك الحياة كلها للمشاعر والضمائر، ولا الترف والميوعة والهوى الذي يعصف بها في تيارات الخلاعة والمجون، ولكنها ترفع الضمائر بالتهذيب والتوجيه، تعمرها بتقوى الله ومراقبته، وسلوك محاسن الأخلاق تأسياً بنبينا صلى الله عليه وسلم الذي مدحه الله تعالى بعظمة الخُلُق؛ وهكذا في سائر العلاقات الفردية والاجتماعية، والمصلحة الذاتية والجماعية.

ه - وأما في منهج النظر والاستدلال: فإن الإسلام وَازَنَ بين مصادرِ المعرفة، وهي الوحيُ والعقلُ والحسُّ، ولم يسمح بالصراع بين هذه المصادر، ولم يكن إعلاء شأن أحدها سبباً لإهمال الأخرى، فلكلٍّ مجاله ودوره وخصائصه، بخلاف ما وقع من صراع بينها في الكنيسة الأوروبية، وفي المذاهب المادية الوضعية، فإن الاعتراف بمصدر عندهم معناه إلغاء المصادر الأخرى، وكذلك جاء الإسلام وسطاً يوازن بين أمور الغيب وأمور عالم الشهادة، وفي سائر الأمور المتقابلة". انتهى.(7)

وقال علي عبد الرضا: " فوسطية الإسلام لا تقتصر على جانب محدد وإنما شاملة للجوانب الأخرى، ويمكن مشاهدة ذلك في أغلب مجالات الدين والحياة... وسطية بين الارتماء في أحضان الدنيا وبين الرهبانية المنقطعة... ووسطية بين الإسراف و التقتير... ووسطية بين التكالب على الأكل والشرب وبين ممارسة الرياضات المهلكة والانقطاع عن الغذاء... ووسطية في اللباس بين ما يوجب شهرة بالجودة وشهرة بالرذالة... ووسطية في العلاقات الإنسانية، بين التصلب و الليونة... ووسطية في السلوك بين التباطؤ والهرولة، أو بين خفض الصوت و ارتفاعه...".(8)

فهذه جملة من مظاهر الوسطية قصدنا الإطناب في نقلها لكي يتضح للقارئ الكريم واقعها.



يتبع إن شاء الله تعالى...

20شوال 1428هـ


(1) نقلا عن مقال الشيخ سلمان العودة في صحيفة الجزيرة الالكترونية السعودية، الاثنين 8 ربيع الأول 1423 /2002م

(2) ينظر مستقبل الأصولية الإسلامية، ص77

(3) نقلا عن مجلة النبأ عدد 39/40 شعبان/رمضان 1420هـ

(4) نقلا عن كتاب معالم المنهج الإسلامي، عرض وتلخيص: أ. نور الدين قرة علي، مجلة الرشاد العدد 11 السنة السادسة ذو الحجة 1421هـ/ مارس 2001م

(5) الخصائص العامة للإسلام، ص115

(6) المصدر السابق، ص122

(7) نقلا عن وسطية الإسلام والأمة المسلمة، مجلة البيان عدد 167 بتاريخ 01/10/2001م

(8) نقلا عن مجلة النبأ عدد 39/40 شعبان/رمضان 1420هـ بتصرف