موت اكبر من الموت
جوتيار تمر/ كوردستان
أعماق مهجورة، نفس مكسورة.. عناكب نسجت بخيوطها الحريرية شباكها عن بقايا نفس كانت حية.. حشرات صغيرة ميته معلقة على أطرافها وكأنها معدة لوجبة عشاء فاخرة.. كنت على وشك رسم هذه اللوحة قبل أن تداهمني صور حية لسماء مدينة المقابر والدخان الأسود المليء بالحقد واللاإنسانية الحديثة يُغطي كل بقع فيها قد التقطتها أجهزة التلفاز وهي تعرضها على مرأى من أعين الأطفال.. على مرأى من أعين الثكلى.. على مرأى من أعيني أنا.. دب حنين خفي في أعماقي التهبت وبدأت بنواح صامت أذابت ما تبقى من ذاتي.. أنظر إلى سماء هذه المدينة التي اسكنها .. أرى الظلام المكتنف بالأضواء والزينة تغطي اغلب بقعها.. تتألم ذاتي.. تهمس أليست الطفولة واحدة في كل مكان..؟ أليس الألم هو الألم في كل زمان..؟ أليست الآلهة هي نفسها تتكرر في كل مكان وزمان..؟ لماذا إذاً.. مدينة المقابر.. ملاذي وملجأي.. تعاني من كل شيء..؟
أتذكر قبل ثمانية أشهر عندما كنت في آخر زيارة لها كانت سمائها رماديةًَ.. سوداء.. ولم تزل سمائها كما كانت..؟ ثمانية اشهر.. مضت والألم لم يزل يفتك بكل صور الحياة فيها منذ أن تركتها.. ثمانية اشهر أخرى تنضاف على قرون مضت.. ومدينتي.. مدينة المقابر تعاني اللاحياة في ثوانيها..!
الحياة والموت فيها وجهان لآله واحد.. آله تعود أن يرى طفلة تموت تحت الأنقاض وهي تصرخ وتتألم.. ويسمع في الوقت نفسه صرخة طفل يخرج للحياة من تحت الأنقاض نفسها..!
الألم يزداد في صدري.. أشعر بان الصداع يتأهب لإذلالي من جديد.. الساعة تشير إلى العاشرة مساءً.. حقيبتي تنوح على بعد أمتار مني.. اقف أمام شباك غرفتي.. أنظر إلى الشارع.. أضواء سيارات تضاف إلى سماء هذه المدينة التي اسكنها.. أصوات أطفال يلعبون.. أعود لحقيبتي انظر أليها.. التفت إلى السرير الذي يكاد يكون غارقاً بالكتب والأوراق المتناثرة عليه.. حقيبتي التي تحتفظ لي ببعض الصور في آخر زيارة لي لمدينتي الأخرى.. أتوجه أليها.. أدس ملابسي فيها.. التفت الى أوراقي وأدسها هي الأخرى فيها ولا أنسى بعض الكتب.. أغير ملابسي أودع مدينتي هذه.. احمل حقيبتي أتوجه الى الشارع العام.. أوقف سيارة.. أركبها.. السائق يسألني إلى أين..؟ إلى….؟ ينظر من خلال مرآة السيارة.. أمتأكد.. في هذا الوقت..؟ نعم تبدأ الرحلة في طورها الأول.. أصل الى محطتي الأولى وأبيت فيها وفي صباح اليوم الثاني.. تجتاحني رغبة بأن ابتسم.. ولأول مرة ابتسم من أعماقي.. احمل حقيبتي من جديد وأتوجه الى مكان لا يمكن أن انطق باسم مدينة غيرها لتكون وجهتي الأخيرة هذه.. الطريق يطول خاصة في زمن الدمار الذي يلف كل شيء.. الطريق أشبه بمعركة جانبية يخوضها المسافر.. فهو محفوف بالمخاطر..آليات.. حواجز.. دبابات.. مسلحين.. و...! اصل الى مدينة المقابر.. أحط رحالي... تدمع عيناي.. سمائها لا تزال سوداء.. مليئةً بالحقد والدخان واللاإنسانية.. أتوجه الى فندق في وسط المدينة.. حيث كل ما فيها قد تعود على وجهي.. احجز غرفة جدرانها كانت شاهدة على أنين ذاتي.. ادخلها.. أتذكر غرفتي المليئة بالكتب والأوراق و......! ألقي بجسدي المنهمك على سرير مزروع في وسط الغرفة.. أتنهد.. واشعر بأن التعب قد خرق كل عظمة في جسدي.. تغفو عيناي وأغوص في نوم عميق.. وفي ساعة متأخرة يرن جرس الهاتف.. أستيقظ.. ارفعه وبصوت تعب مبحوح.. أرد.. أهلاً(...) نعم اليوم وصلت وسأبقى لبعض الوقت.. غداً لا بأس به.. الساعة التاسعة مساءً.. نعم.. سأكون بانتظارك.. أضع السماعة..أحاول أن أعود إلى نومي.. لكن.. كيف..؟ لم اعد اعلم.. أتقلب.. أحاول.. يبدأ الموت يتسرب الى أعماقي.. انهض، أتوجه الى شرفة الغرفة وأمام نافذتها.. أجلس.. انظر الى الشارع المذبوح.. الشارع الذي كان يملئه في مثل هذه الساعات آهات وانين المحبين.. أصبح الآن مليئاً بمخالب الدبابات.. أعود الى الغرفة.. شعرت بجوع كبير.. ظننت باني احتاج الى شيء أسد به جوعي.. نزلت الى صالة الفندق.. توجهت الى إحدى مطاعمها.. أكلت.. ظننت باني قد شبعت.. عدت الى الصالة تجولت فيها قليلاً.. ثم شعرت بتعب شديد.. توجهت الى غرفتي.. كان الوقت حينها قد أعلن عن المزيد من الركود والهدوء.. الليل كان قد انتصف بل تجاوزه بساعة.. والمدينة كانت قبل ان يذبح فيها كل شيء جميل تعيش الحياة لساعات متأخرة من الليل.. ولكن الآن قد أصابها الشلل.. كانت قبل أشبه بحديقة لاتمل من نشر عبيرها وعطر ورودها بالرغم من الأشواك التي كانت تحيطها.. والان قد أصابها العقم.. ورائحة العفونة تفوح منها بعد أن تحولت الحديقة الى مجرد مقبرة.. تغير كل شيء فيها.. عيناي الغائرتان كانت تحدقان الى شيء ما وراء تلك الظلمة التي كانت تغطي كل شيء.. شيء غير منظور مغروس في فضاء الغرفة وسماء المدينة.. شعرت بغربة فضيعة.. وكأني أضعت ذاتي.. عاد الجوع يثير أعماقي.. كان جوعاً غريباً.. جوع لشيء ما.. لم أدركه.. ولم أذقه.. قبل آنذاك.. جوع مؤلم أراه لاول مرة يغمرني ويشدني الى مجهول لامرئي خفي يسكن في ظلام سماوي غامض.. كان أشبه بجوع طفل لقيط تركته أمه أمام باب معبد.. جوع الى شيء كبير.. مبهم.. غامض.. موجود في لاوجوده..! استمر الظلام يخيم على كل شيء.. واستمرت عيناي تتأملان الفراغ المزروع في كل شيء.. التأمل.. التفكير.. هما اكثر الأمور التي تقتل الوقت.. لم اشعر بنفسي إلا وقد لاحت تباشير الفجر.. همست مع نفسي.. ماذا يحدث لي..؟ أين ذاتي المتمردة من هذا الفراغ المريب الذي أعانيه..؟ أتراني نسيت كل طريق للخلاص مما أنا فيه..؟ ذاتي التي كانت تعاني منذ الأزل ماذا دهاها..؟ لماذا تذعن للوقت.. للتأمل.. للتفكير.. للفراغ..؟ أنسيت بان خلف الأفكار والمشاعر هناك دائماً مسيطر جبار.. دليل مجهول.. هو أنا ذاتي..؟ أي أنين.. وعويل لاذع هذا الذي يخرق ذاتي.. أي نواح هذا الذي ينهك نفسي..؟ وكأني به أنين مزجتها أم ثكلى مع عظمة نواحها وأنينها.. إشراقة ضعيفة تخرق ستائر غرفتي لتلامس لوحة سومرية قديمة معلقة على الجدار.. محارب قديم بيده سيف موضوع على رقبة عدو... إنها لمفارقة عجيبة.. أن تبدأ الإشراقة الأولى في يومي هذا لتظهر لي تاريخ المدينة.. المستمر.. وجدت نفسي التائهة تصمت أمام الإشراقة.. وكأن ذاتي أذهلتها اللوحة فصمت كل شيء داخل الغرفة.. وكأن روح علوية أدخلتها تلك الإشراقة توعز الصمت والتهيب.. خرجت الى شرفة الغرفة لالقي نظرة على النهر المذبوح هناك.. وجدته هادئاً.. حزيناً بطيء الجريان وكأن قيوداً تكبل أعماقه فتمنعه من الجريان.. تأملت الإشراقة.. النهر.. اللوحة.. فضاء الغرفة.. سماء المدينة..وبدا لي بان الأمور كلها غريبة.. خرق تأملي هذا صوت.. بل دوي انفجار بعيد.. تصاعد الدخان الأسود.. تعالت صفارات سيارات الإسعاف تأهبت السماء لاستقبال زائر جديد.. وابتسمت الأرض وتهيأت لضم جسد آخر.. دب ألم فظيع في أعماقي.. عدت الى الغرفة وبدا لي بأني لن أستطيع مقاومة وحدتي هذه المرة.. عيناي تبحثان عن شيء ما في الغرفة.. تقعان على الهاتف.. نعم انه الهاتف.. ارفع السماعة.. صباح الخير.. صباح الخير نعم تفضل.... أجد ذاتي مازالت ملتزمة بالصمت.. يأتي الصوت الرقم من فضلك.. ذاتي لم تزل صامتة وتعيش حالة من التهيب والذهول..يأتيني الصوت بلهجة اشد قساوة الرقم من فضلك.. تستفيق نفسي وتنادي ذاتي.. نعم الرقم (......) ضع الهاتف وسنحاول إيصالك بالرقم.. ثوان ويرن الهاتف.. أحمل السماعة.. صوت رقيق نعم تفضل.. صمت مريب يقابل صوتها.. تعيد كلماتها.... يأتيها الصوت مبحوحاً صباح الخير وكأنه خرج من جرح عميق في صدر متوجع ..تصعق بالصوت.. ولا تدع الوقت يموت إنما تبادر ماذا بك..؟ لماذا صوتك مبحوح هكذا..؟ متى أتيت..؟ لماذا لم تتصل..؟
أنا بخير.. لا تفزعي هكذا.. ودعي الباقي إلى أن أراك.. ساعة وأكون عندك.. سأنتظر.. تضع السماعة.. واضعها.. أعود لأحاور نفسي ترى لماذا لم استطع التكلم عندما طلبت الفتاة التي تعمل في البدالة الرقم..؟ وعندما ردت هي على الهاتف..؟ بقيت أفكر بالأمر دون أن اصل الى شيء.. مر الوقت أتت بعد عناق وسلام.. بادرتني ماذا بك لماذا لا أرى غير الموت في عينيك..؟ نظرت الى عينيها.. وكان الصمت الذي أدخلته الإشراقة ما زال يسيطر على ذاتي.. قالت أدركت فهمت.. قلت لكني لم أتكلم.. قالت لو أدرك الجميع ما تقوله.. وما يعنيه صمتك.. وما تقوله عيناك عندما تلجأ الى السكينة لكان الجميع أقرب الى الآلهة منهم الى البشر.. نظرت الى عينيها وهي تتكلم.. شعرت بان التيه قد بلغ مني العمق ولا شيء سيخرجني من ذلك إلا عاصفة تهز كياني.. أمسكت بيدها وأخذتها لشرفة الغرفة.. وقلت لها.. تأملي النهر المذبوح وهو يغمر حبات الرمل المتناثرة حول ضفافه.. ثم انظري الى السماء التي تصارع فيها الشمس بنورها ولهيبها الدخان الأسود الآتي من الأرض.. السماء شمس ونور ولهيب لكنه مكنف بالغموض.. الأرض نهر ورمل ودخان وموت.. السماء… الأبدية.. الآلهة.. الأقدار..والمطر.. الأرض الفناء..الموت.. والبشر .. أليس الأمر محيراً..؟ مَن عسانا نختار.. الأرض التي لاتذكرنا سوى بالألم والوجع والمقابر..؟ أم السماء التي بالرغم من الغموض الذي يكتنفها لا تدعنا على الأقل نرى ظلنا الذي اصبح أشبه بالموت يلاحقنا..؟ ردت عليه..ما هذا السؤال..؟ ولماذا هذه الحيرة..؟ ولماذا اصلاً الاختيار..؟ ألست من علمتني كيف أعيش بالذات وللذات..؟ وكيف اشعر بالذات اصلاً وقبل كل شيء..؟ ألست من كنت تقول أن ما يميز الشعور بالذات عن العالم الطبيعي ليس مجرد التأمل العقيم الذي يقتل الوقت وإنما الرغبة التي يستطيع المرء أن يحس بها إزاء العالم.. الرغبة التي تجعله يدرك العالم الخارجي كوجود فعلي ولكنه بعيد عن مناله وحيازته..؟ قلت.. عندما أسمعكِ تتكلمين.. ترسم مخيلتي صورة كاهن يتعبد في كهف مظلم.. يقدم صلواته لشيء.. لا يدرك ماهيته.. عبادة خرساء كالتي يشعر بها الطفل الذي فقد أمه لتوه نحو روحها الساكنة في الأبدية.. وأنا إنما مجرد طفل عابث تملكني روح متمردة غائمة.. لا أجد ما يمكنه أن يوقف عبثي إلا وقوفي أمام عينيك.. قالت كأن الآلهة تريدني أن أكون ألماً آخراً لك.. قلت عندما رايتك واقفة أمامي كآلهة منهكة.. جمالها أبدي وبقائها مقترن بوجود اله آخر أمامها.. أدركت حينها.. بأن الآلهة التي لم تزل تتحكم بالأقدار لا يمكنها إلا أن تكون امتداد فطري لوجودنا نحن..!
قالت أتعلم باني عندما انظر الى عينيك... ترددت برهة ثم صمتت...؟ قلت لماذا لم تكملي؟ قالت.. راودتني صورة.. لا يمكنني ان أنساها.. عيون غانية تبكي في كل ليلة بعد ان تفرغ من أداء دورها القدري بكاء ظامئة ترى النور بجوارها وهي لا تملك الا ان تعيش الظلام.. بكاء ظامئة ترى القبر ارحم لها من ظلام يستمر وسط النور..! ثم أردفت تقول بأنها وجدت ذلك الظمأ في عيني عندما أتت اليوم لتراني..! قلت لها أيمكن ان أكون أعيش الظلام…؟ قالت كفاك.. لست اقصد ذلك.. فوجودك أمامي.. وقربي منك هما حقيقة أعيشها.. أما تصورك فهو مجرد ظل بجانب الحقيقة.. بدت لي حينها عيناها مكحولتين بأشباح الكآبة والشقاء.. حاولت ان اخفف الوجع الذي تركه كلماتي.. ناديتها باسمها.. وكأن وقع صوتي على أذنيها كان أشبه بتأوه جائع لا يقوي على الكلام.. جائع لشيء مجهول.. جوع كبير كبير.. نظرت الي قالت أتعلم بان الروح لا تأتى الا بمجيئك.. إنها الروح التي أخذت من جسدك هيكلاً وأنا لا اشعر بانعتاق نفسي من عبودية الحياة والأفكار اللاذعة والرغبات اللامجدية إلا بعد رؤيتي لك..؟ وكأن انعتاقي من هذه العبودية مرهون بوجودك.. ووجودك معي هو اصل التفكير فأنا معك احدد كيف علي أن أفكر ثم ماذا افعل..أليس هذا من مفارقات الحياة..؟ أن أحاول العتق من عبودية.. فرضت عليَّ.. لأخضع لأخرى اختارها..؟ ثم أضافت.. دعك من ذلك.. واسمع لأقول لك ما يثيرني فيك.. القوة الكامنة فيك هي ما تجعلني ألعن الأيام لأنها لم تعرفني بك قبل ان أولد.. فحياتك هي مجرد مسار تختاره بنفسك.. وبحرية.. والحر دائماً هو الذي يضع الحقيقة ولا ينتظرها.. فالحياة عندك بالرغم من أنك تعيشها بهدوء ظاهر.. إلا انها من الناحية الجوهرية التي تؤمن أنت بها.. مجرد امتلاك.. وتجريح.. وقوة.. وإخضاع الآخرين.. أي انها تحكم وقسوة وألم وإكراه.. واحياناً قسمة للإشكال وضم.. وهي في اعدل حالاتها وصورها نهب.. ومن يحمل مثل هذا المفهوم للحياة لابد أن يكون مستعداً لها.. حراً.. اقصد قوياً.. ثم رايتها تلوي عنقها العاجي نحو شرفة الغرفة لتخفي عني دمعة محرقة استقطرتها الموت المغروس في عينيي..! قاطعت دمعتها إنها الترنيمة القديمة.. الإنسان.. انتِ.. أنا.. كلانا.. هم.. الآخرون.. مجرد كائنات.. لاشيء.. كائنات منتصبة بين نقيضين متحابين في الظاهر.. ولا متفاهمين في ما وراء ذلك.. اللانهاية في باطنه.. اللانهاية في محيطة.. الرب.. القدر.. الزمن.. البشر.. وجه لشيء واحد وهو النهاية المحتومة في اللانهاية سواء في الباطن ام في المحيط.. لكن الا تعتقدين بان النهاية المحتومة وما وراءها هي نتاج طبيعي للألم ومخاضه ..؟ وكأن عجزنا في استعاب الأشياء على حقيقتها جعلتنا نؤمن على غير رضا منا بوجود الأشياء في ذاتها..؟
ردت.. إنها كالمحبة.. لا تظن بالكلمة.. لا اقصد الرب.. إنما المحبة التي أجدها إن كانت محدودة فهي تناقض ذاتها.. فالمحدودة لا تطلب غير الامتلاك.. واللامحدودة فهي لا تطلب غير ذاتها..؟ ثم قالت.. كيف نسيت أن أذكرك.. علينا واجباً ازلياً يجب أن لا ننساه..؟ فكرت قليلاً.. ثم قلت نعم.. علينا أن لا ننساه ابداً.. خرجنا معاً الى شوارع مدينة المقابر.. وتصوروا الى أين توجهنا..؟ الى إحدى مقابر المدينة.. الغريب في الامر.. ان المدينة الان كلها أصبحت مجرد مقبرة يدفن تحت أنقاض بيوتها في كل يوم العشرات.. لكن المقابر الأخرى هي وحدها تسمى مقابر لأنها تمتلك أوراق ثبوتية بمهنتها التي تمارسها..؟ وصلنا.. وقفنا أمام قبر.. وضعنا معاً باقة ورد.. ركعتُ دمعت عيناي.. ركعت بجانبي.. روحها التي تسكن القبر.. غطت سماء المقبرة.. نظرت أليها.. أتتذكرين آخر لقاء لنا معاً.. نحن الثلاثة..؟ نعم.. مازلت انعم برائحتها عندما ضمت رأسينا على صدرها..! كان وجه الله آنذاك معكوساً على وجهينا.. كان كل واحد منا يرى في وجه الآخر النور الذي يجب ان يتبعه.. قلت أتذكر جيداً.. قبلتها لي.. ولاأفارق لحظة الحجام الذي أعطته لي.. يكفيها فقط أن تحبها وتزورها.. لأنها لم تكن تتمنى اكثر من ذلك.. أردت أن افرغ دموعي لكن تحقيقاً لرغبتها.. وتذكري كلماتها الأخيرة لي.. "لا تبكي لفراقي ولاتدمع عيناك على قبري.. فقط احبني كما أحببتك وخالفت كل شرائعي.. واحبها التي تعاند شرائعها وستزورني دائماً فيك.. ولا تنسى ذلك المكان الذي جمعنا لأول مرة.. رزهُ وصلي من اجلي إن كنت ستصلي يوماً.." دب الصمت بعدها في أعماقنا.. خرجنا من المقبرة تلك لندخل أخرى اكبر منها.. ودام الصمت بيننا برهة ثم بادرتها أين نذهب الآن..؟ لنذهب عندنا.. قلت لا بأس لكن عليَّ ان اشتري هدية لـ(.....) فانا قد اشتقت اليها كثيراً.. قالت لا بأس.. دخلنا محلاً.. وبعد شرائنا للهدية توجهنا الى بيتهم الذي كان في الطرف الاخر من مدينة المقابر.. وصلنا.. دخلنا.. رأيت الصغيرة واعطيتها هديتها قبلتني وجلست بجانبي وهي تمسك بيدي وتضع رأسها على صدري.. مضت اللحظات.. ثم حان وقت عودتي للفندق.. ودعتها الصغيرة والآخرين.. ثم ودعتها الأخرى.. قالت أتعلم بان عيناك تفضحان دائماً أسرارك..؟ قلت كيف..؟ قالت انك تفكر في شيء ما.. وتريد ان تقوله.. لكنك تخشى أن احزن.. قلت فعلاً.. وليس الامر لأنك ستحزنين فقط بل ستتألمين ايضاً.. قالت استحلفك بها... قلت هي كلمات ثلاثة أريدك أن تفكري بها.. أية نهاية تنشدين..؟ صمتت.. صافحتها.. قالت اتصل.. قلت سأنتظر اتصالك... ودعتها.. عدت الى الفندق.. كنت قد تعودت على ان تتصل بي بعد ساعة من فراقي لها.. أقول فراق.. لأنها كانت تظن بأن غيابي عن عينيها كالفراق الأبدي.. انتظرت حتى ساعة متأخرة من المساء لم تتصل.. وكأن اليأس قد بلغ مني مبتغاه.. فجأة رن الجرس.. رفعت السماعة.. نعم.. استعد سأتي إليك لنخرج.. لكني انتظر.. جاء الصوت حاسماً.. أستعد ولا تبرر.. لحظات وكان يطرق الباب.. صديقي الذي كان ولم يزل شاهدا على أحداث الصراع الدامي بيني وبين الحياة.. خرجنا معاً.. دخلنا نادياً.. وجوه ووجوه.. لا اعلم لماذا كانت الوجوه هذه المرة كلها لا مجدية.. غريبة.. فظيعة..؟ جلسنا على طاولة وسط القاعة.. كانت القاعة مليئة بالوجوه.. وكان هناك صوت لاذع يخرق سمعي.. صوت موسيقى صاخبة راقصة.. تمايلت الأجساد على أنغامها.. ثم ما لبثت الموسيقى ان هدأت.. وظلت الأجساد تتمايل على أنغامها.. استغل صديقي الذي كنت اسميه الصياد الماهر.. فرصة عندما أوقع بفريسة ولبى ندائها فقام يرقص معها.. كانت الأجساد متلاصقة كما كان جسدهما.. كانت الموسيقى عذبة كما وجدت عناقهما.. استمر الرقص لساعات.. كنت حينها جالسا على مقعدي أراقب تارة الأجساد وهي تكاد تندمج.. وتارة أراقب ذاتي.. وتارة أراقب عينا فتاة تراقبني.. صمدت أنا أمام ملاحقتها.. لكنها لم تصمد.. كان رائحة السكر تفوح من القاعة.. لم يكن اغلب الموجودين يعرفون ما يحصل داخل القاعة.. أتت واثقة بنفسها.. قالت بعد ان جلست أتسمح لي بالجلوس..؟ قلت لكنك جالسة.. ابتسمت ضاحكة.. قالت انا (….) مسلمة أعيش هنا في هذه المدينة.. طالبة في المرحلة الاولى ماجستير.. لغات.. قلت اهلاً وسهلاً.. قالت هل انت مسلم..؟ قلت ماذا يهمك من ذلك..؟ قالت لست سهلاً كما تصورت.. قلت ما الذي جعلك تتصورين باني سهل..؟ قالت الذي يجلس وحيداً في هذه القاعة وفي مثل هذه الظروف لابد ان يكون محروماً وسهل المنال.. لكن كأنك لست سهلاً على


الاطلاق.. حتى لم اعرف اسمك..قلت.. بالعكس أنا سهل بسيط.. واحتاج الى رفقة.. قالت هل نخرج الى الحديقة..؟ قلت لابأس كنت ومازلت لا اعلم كيف ولماذا تفوهت بتلك الكلمات.. وما زلت حائراً بأمر موافقتي لمرافقتها.. لكن كأنها الأقدار أرادت أن تذيقني طعم مرارتها..! خرجنا وبدت وكأنها تعرفني منذ أعوام فتحت لي كتابها وبدأت تقرأه سطراً سطراً.. حتى وصلت الى لقاءنا.. قلت لكن كيف تدخليني ضمن أسطر كتابك وأنتِ لحد الآن لا تعرفين اسمي.. قالت يكفيني انك سمعتني للنهاية دون ان تقاطعني وتفرض على اسطري أراءك كما فعلها كل من سمعها قبلك يكفيني صمتك الذي شعرت بأنه ليس صمت استغلال.. يكفيني حزنك الذي شعرت بأنه توأم لحزني.. يكفيني صوتك الهادئ الذي شعرت بأنه ليس صوت شفقة.. نعم يكفيني ذلك.. حتى وان كنت عنيداً لا تعطيني حتى اسمك..!
قلت لست من اخضع لقوانين ثابتة.. لذلك سأدلك على انسانة هنا في هذه المدينة ستجدين عندها مبتغاك.. وأجوبتك المتروكة عندي..! قالت بلهفة أرجوك..! كان الوقت حينها قد تأخر فأعطيتها اسمها ورقم هاتفها.. وودعتها.. ثم دخلت القاعة لاجد صديقي منهكاً تعباً.. طلبت منه ان يعيدني الى الفندق.. عدت.. والليل قد أطبق بظلامه على كل شيء لأن التيار كان قد انقطع كعادته...! جلست في شرفة الغرفة وبقيت اتأمل الفراغ المظلم.. ومضت لحظات ولم اشعر بان التيار كان قد عاد.. لكن ما جعلني استفيق من غفوتي هذه صوت جرس الهاتف وهو يرن.. ابتسمت وشعرت بانها ابتسامة محتضر يرى في آخر لحظات حياته ما ظل ينتظره طوال حياته ثم ودعها..!
رفعت السماعة.. جاءني الصوت ساخراً كيف حالك.. قلت لست بأفضل منك.. قالت وصلتني رسالتك وشكراً لانك انتظرت اتصالي.. كيف تخرج من الفندق دون أن تتصل بي..؟ ومن تلك الفتاة التي أعطيتها رقمي لتتصل بي قبل ساعة وتسألني عنك..؟ كأنك استمتعت بسهرتك.. وتركتني أتصل اكثر من مرة دون ان أجدك..؟ توالت علي أسئلتها.. قاطعتها.. هل أنت بخير..؟ قالت وقد غلب على صوتها البكاء.. شكراً لانك سألت.. لا لست بخير.. وكيف سأكون بخير وأنت..؟ قاطعتها سأنتظرك غداً.. قالت ألن تذهب لرؤية فتاتك الجديدة..؟ قلت لا تتأخري.. قالت سأكون عندك في التاسعة..!
أدخلتني في دوامة غامضة.. تساءلت ترى ماذا عساها قالت لها.. لتتألم هكذا..؟ ثم عدت استرجعت كلماتها وكلماتي.. لكن لم اقل لها شيئاً.. سوى ما يمكن ان يقوله أي إنسان لآخر يتعارفان تحت رحمة نغمات الموسيقى.. تذكرت مقاطع.. ترانيم من اسطر كتابها.. المتعلقة بي.. والتي دونتها في الساعة والنصف التي خرجنا فيها للحديقة.. "ما بك صامت.. صمت السماء على كل ما هو لا انساني.. " نعم كنت صامتاً فلماذا هي حزينة لذلك..؟ مضت الساعات.. وكنت أعيش الفراغ الذي لا ياتي لانك تملك كل شيء ولكنك مللت منه.. إنما الفراغ الذي يأتي لانك كنت تملك كل شيء ولم تعد تملكه الآن..!
اقتربت الساعة من التاسعة وكنت مزروعاً بصورة بدائية على كرسي داخل الغرفة.. انتبهت للوقت.. لكني لا اعلم كيف عدت وتناسيته.. لحظات شرود حادة.. صوت الباب اتجه مسيراً تحت ضغط قوة علوية نحو الباب.. أفتحه.. تدخل.. دون ان تتفوه بكلمة.. تجلس على ذلك الكرسي المزروع وسط الغرفة.. تنظر إلي.. وجهي شاحب.. مصفر.. مميت.. لساني أخرسه الألم.. فكري أماته اللاحياة.... لم انطق بكلمة.. دخلت وراءها كأبله منقاد.. كأعمى يقوده طفل.. تفرست وجهي.. لم تتحمل صرخت بوجهي ألن تتكلم..؟ ألا تنطق بكلمة تزيح الغمام الأسود المتراكم على عتبات نفسي التي تريد ان تخنق الروح التي لا تعيش إلا بوجودك..؟
صوتها أخرجني من دائرة البلاهة.. وأطلق لساني.. لكنني كنت نسيت الكلمات بل كيف أتكلم.. جاءني صوتها.. ما بك لا تبالي لألمي..؟ لست وحدك تتألم.. بل لست تعيش الألم في ذاتك لوحدك.. ألا تعلم بأن ألم ذاتك هو سبب شقائي وألمي..؟ وكأني به ألم أبدي.. لعنة سومرية سترافقني.. كالموت الأبدي في هذه اللوحة المعلقة على جدران غرفتك.. أتعلم كيف آمنت بالأبدية.. لقد آمنت بها عندما قابلتك أول مرة.. لقد خلقتها أنت في ذاتي.. بكلمة واحدة منك.. هل تتذكرها.. لكن أي سؤال تافه هذا.. ماذا عساك تتذكر..؟ لقد آمنت بها عندما قلت لي في لقاءنا الأول بأنك ترفض أن تعبد إلهاً يتكلم باسم إمرأة.. عرفت حينها انك لا تخضع ولست من يستغل.. لكن ألا ترى بأني أحتاج منك كلمة.. تذكرني باني لم أعد تلك الأيقونة التي رسمتها أيدي ماهرة على جدران نفسك.. لأنني أشعر بان هناك أكثر من أيقونه تشاركني هذه الجدران ..؟
جعل ألمها لساني يتخلص من عقدته .. مهلاً .. أين ذهبت بكِ أفكاركِ ..؟ دعيها هي بحالها .. وأسمعني.. أنا كنت أنتظر منك جواباً لسؤالي الذي بات يحيرني ولا أجدله جواباً .. هل فكرت لحظة بما كنت أعنيه .. هدأت لبعض الوقت وباتت مهمومة أكثر عندما تأكدت من جديتي في سؤالي .. ثم نظرت ألي وقالت أتراك تظن بأني لم أفكر بالأمر أبداً ..؟ أتراك تظن بأني لا أتألم لعدم وجود جواب ونهاية لتفكيري ..؟أتراك تظن بأني لست خائفة ..؟ لكن قبل ذلك فقط أرحني وقل لي من هيَ ..؟ شعرت بأنها جادة في تصوراتها .. وأنها تظنني قلت لها ما قلت لأني وجدت غيرها … هي ترى ما اسمها.. منى.. مها .. رشا .. لا أتذكر بالضبط لكن أظنه رشا ..قالت بتعجب وكأنك فعلاً لاتعرفها ..قلت ماذا لو كنت أعرفها .. هل سيغير من الأمر شيء ..أنا أموت لأن تصورات لانهاية لها لا تفارق ذهني واحتاج إلى أن أزيحها لأعيش هذه اللاحياة بهدوء .. أريد أن أعرف نهاية ما نحن عليه .. أريد أن أعرف نهاية موتي في هذه المدينة التي لا تعرف سوى الأموات .. أريد قبراً بين القبور الكثيرة هنا في مدينة المقابر.. أريد قبراً... قرباً .. أريد جواباً .. أريد أن لا أخسر .. أريد أن أعرف مصير ما نحن عليه .. ومصير ما أنا عليه معها هي الأخرى هناك حيث أسكن و التي تعرفينها .. أريد أن أعرف هل يمكن أن نستمر هكذا نحن الثلاثة …؟
قالت بخوف ظاهر .. لا أعلم ماذا سأقول لكن دعنا نفكر بالأمر بهدوء .. وليس الآن بالطبع لأني لن أدع وقتي معك يمضي كما تريد أنت .. ثم ما لبثت أن عادت ألى شكوكها .. لكنها شعرت بالألم الذي يحيطني فعانقتني.. وضمت رأسي لصدرها .. وكأني لم أشعر بالأمان منذ أشهر ألا وأنا بين أحضانها .. مضت اللحظات .. و جاء إنذار عودتها .. نظرت إلى الساعة .. وقالت عليَّ أن أمضي الآن .. قلت هل أنتظر .. قالت و هل تشك ..؟ ودعتني بعد عناق .. ثم ما لبثت أن عادت و قالت لقد أعطيتها أسمك وعنوانك هنا .. و رقم غرفتك .. ثم ابتسمت و قالت .. أنتظر .. غابت عن عيني .. و عدتُ أعيش الفراغ نفسه .. فأنا أكاد أشعر بان هذه المدينة التي هي ملاذي الأبدي لا تريد سوى أن أعيش الغربة فيها .. وكأن ذاتي لاتعرف الغربة إلا في السفر ..وفي الوجع..؟
حاولت أن أنزل إلى صالة الفندق وجلست هناك .. سمعت صوتاً ينادي باسمي التفت إذا بصديقي يلوح لي .. ذهبت أعطاني رسالة معنونة باسم مجهول .. فتحت الرسالة عرفت أنها هي رشا .. حملت رسالتي و عدتُ إلى غرفتي وهناك بدا لي الأمر بأنها المدينة لن تتركني ألا تحت أنقاضها ..!
أعلم الآن بان الفضول يمتلككم لمعرفة محتوى الرسالة .. لا أظنكم ستصدقون.. لا .. لكن مع ذلك إليكم بعض ما جاء فيها..!
- (( إلى المجهول .. الذي وجد ليكون …!
-شكراً لأنك أعطيتني من وقتك .. شكراً لأنك بصمتك جعلتني أتكلم .. شكراً لأنك عندما جعلتني أتكلم استمعت دون أن تعارض .. تقاطع .. تفرض .. شكراً لأنك أدخلت السرور إلى قلبي برغم كثرة جراحه وآلامه..!
- قد تظن بي السوء .. لأنك التقيتني في مكان سيئ في ظن الاجتماع على الأقل .. لكن مهلاً .. اسمعني قبل أن تحكم و تظن .. في مدينتنا هذه صور الموت و الكآبة و أشباحها لا تفارق أحداً .. هي تعيش في كل واحد منا .. وكل واحد منا يتعامل معها بطريقته .. النفس التي هي تكون لنا ذواتنا باتت لا تعرف كيف لها أن تخرج من دائرة رسمتها الأقدار بآلهتها .. دائرة تبدأ بالصراخ والعويل لتقف عند الموت تحت الأنقاض وسماء مليئة بدخان اسود حاقد لا انساتي ..؟
لذا هي تحتاج إلى أن تخرج من دائرة الموت و الكابة أحيانا فلا تجد غير هذه الأماكن .. السكر .. الرقص.. الصخب .. الهدوء في أحيان كالتي رأيتك فيها ..!ولايهم إن كانت ترقص على جماجم الآلاف تحت تراب هذه المدينة..؟أم على أجساد..دمائها لم تزل دافئة نازفة..المهم أن تخرج من دائرتها القدرية...!
- اشتهيت فيك النغمة التي تتكلم بها .. اشتهيت رغم هروبي من الموت والكابة .. الألم و الموت في عينيك ..!
-شعرت بغربتك وأنت وسط هذا الجمع .. هذا الصخب .. شعرت بأنك مثلي لا تعرف نفسك حراً إلا في الغربة ..! التقيت قبلك الكثيرين .. قرأت أفكارهم بمجرد الحديث معهم والنظر إلى أعينهم .. وأحيانا بسماعهم لكني معك تهت .. عشت المعنى الحقيقي للغموض واللاضوح فأردت أن أكون واقعية معك لكني فجئت بأنك ترفض فكرة الواقعية إذا لم تكون وليدة الإدراك الواقعي فعلمت بان تكون واقعياً هو شيء وأن تدرك الواقع شيء أخر .. كنت معي .. في لحظاتي القليلة تلك .. كالآلهة .. أنك كما قرأت في صمتك كنت هارباً من ألمك .. حزنك .. وأتيت إلى حيث التقيتك لتخلق لنفسك عالماً يقرره ذاتك.. ولكنك كنت مثل الآلهة خائفاً من مجهول لامرئي خفي .. و يالها من آلهة لامجدية خائفة متألمة.. خلقت العالم لتتخلص من جوعها الكبير .. من آلامها .. و لتحقق الرضى لنفسها .. لكنها .. لم تنجح لأنها تعلمت أن ترى الأشياء بظواهرها .. و كأنها ندمت على ما تعلمت لأنه كان شكلا من أشكال الجنون .. وكأنها خلقت ذاتها المؤلمة بذاتها..! وأنت .. نعم أنت يجعلك الألم تبحث أبداً عن عالمك الخاص بك .. و كأن ذاتك لاترضى بغير ذاتها خالقاً ..؟ ولكن أي ذات غامضة هذه التي تملك ..؟
وختمت رسالتها بهذه الكلمات .. كنت لي كالروح القاهرة التي آتت لتخرج ما كان مدفوناً تحت أنقاضها طوال سنين طويلة .. جعلت للروح معنى .. جعلت للبقاء معنى .. جعلت للسهر معنى .. جعلت لوجودي معنى.. فشكراً لك .. ولن أتذكرك إلا عندما أكون حية ..! أدهشتني كلماتها هذه .. وكأنها ترانيم حية حاضرة و ليست كتلك التي يرددها المتعبدون داخل معابدهم و أمام آلهتهم .. لم أشعر بالوقت و أنا أتجول بين أسطرها .. لكن ما جعلني أدركه هو جرس الهاتف الذي أخرجني من دائرة التيه التي دخلت فيها عنوة .. نعم أين كنت لماذا لم ترفع السماعة .. قلت لن تصدقي.. لكن عندما أراك ستعرفين السبب .. قالت كأنك تعجل لهفتي للقاء .. قلت لا .. فقط عندما تأتين .. ليكن معك الجواب لأني لا أستطيع حتى التفكير .. مضت اللحظات مع صوتها بسرعة .. و عندما ودعت .. كان الليل قد أقبل .. بل كان الظلام قد أسدل ستائره على سماء المدينة وفضاء الغرفة .. و جاء صديقي هذه المرة أيضاً يدعوني للخروج .. ترددت لكني في نفسي قلت عساني ألقاها .. المجهولة .. دخلنا كالعادة إلى القاعة .. الوجوه نفسها .. لا .. بعضها تغيرت .. فهذه الشقراء لم أرها ليلة أمس .. لكن لماذا تنظر إلي هكذا .. لماذا نظراتها ثاقبة هكذا .. كفاني لست أتحمل المزيد .. هكذا دار الحوار في نفسي .. قاطع حواري صديقي و قال ماذا بك لماذا أنت شارد هكذا ..؟ قلت لا شيء .. كانت عيناي تبحثان عن شيء ما وراء هذه الوجوه لا أعلم لماذا .. لكنها كانت حقيقة و أعترفت بها أمام … مضت الساعات و عدت إلى الغرفة ورائحة …. تفوح مني .. لم أسكر .. لكن في تلك الأجواء الكل يشترك بالرائحة على الأقل .. القيت بجسدي المنهك على السرير وغصت في نوم عميق .. و لم أشعر بنفسي ألا و الباب يطرق .. بخطى مثقلة و رأس مثقل تقدمت نحو الباب و كنت أظنها هي .. لكن كانت إحدى عاملات الفندق تريد تنظيف الغرفة .. قلت لها إذا كان بالإمكان أن تسرعي قالت لا تقلق لحظات وسأنتهي .. غيرت ملابسي و نزلت إلى الصالة عساني ألقاها عندما تأتي .. لحظات قليلة جداً و كانت كآلهة جمالها أبدي .. و بقائها مقترن ببقاء اله أخر واقفة أمامي .. جلسنا قليلاً في الصالة ثم صعدنا إلى الغرفة .. قالت أولاً أتعلم بأني اشتقت .. بأني تمنيت .. بأني شعرت بأنني مهما يكن لست أقدر على السير في هذه الحياة بدونك .. و ثانياً لديك شيء يخصني و أنت تعرفه ..؟ قلت .. أولاً عليك أن تزيحي الغمام من سمائي .. فأنا أكاد أكون مشلولاً .. ثانياً أريدك أن تعرفي بأني سأظل الجأ إليك مهما كانت طريقة قتلك للغمام قاسية .. و ثالثاً قولي لي ماذا يمكننا أن نفعل ..؟
جاءت الروح التي توعز الصمت و التهيب مرة أخرى لتجعل الصمت يخيم على أجواء المكان .. نظرت هي إلى وجهي .. تعمقت النظر .. و كأنها أم توشك على توديع الحياة وطفلها المريض بجانبها .. و لا تعلم أتواسي نفسها التي باتت روحها تنهزم من جسدها لكثرة أوجاعها أم تواسي طفلها الذي ترى وجهه أشبه بوجه مومياء لم يبقى منه سوى العظم .. و جلد أصفر هش يغطيه ..!
تنهدت .. كأننا ندور في حلقة فارغة بهذه الكلمات بدأت .. كأننا نضيع وقتنا دون أن ندرك نهاية لضياعنا .. تائه أنت مثلي لا تعلم ماذا عسانا نفعل و نعرف ..! لكن يا صغيري تعرفني مؤمنة .. و الذي افتدى البشر ليخلصهم سيجد لقلبي المتيم مخرجاً .. أعلم بأن السماء التي أفرغت جام غضبها على أهل الأرض و فرقته شيعاً لا تجعلك تتأمل فيها خيراً .. لكن مهما قست .. ومهما قسى الاجتماع و الشرائع فتظل أنت الروح التي لن أرضى بغيرها لتضم روحي .. لست مثلك .. أسأل و أهرب من السؤال على الأقل هذه المرة .. لأنك قبل كنت أنت من ألجأ أليه بكل أسئلتي ولولاك لما كنت علمت اليوم أن أواجه سؤالك الذي تقول بأنه جعلك مشلولاً .. نعم لست أقول أنت تسأل لماذا .. لماذا ..؟ أما أنا فلا أنتمي إلى أولئك الذين يمكن أن يسأل كائن ما عن هذه .. اللماذا ..؟ أظنها كلمات أحد فلاسفتك أليس كذلك ..؟ لكن يا صغيري التائه جوابي لسؤالك الفظيع الذي هز عرش الرب في ملكوته قبل أن يهزه في كياني .. و جعل العذراء تنوح و تذرف الدمع من جديد .. لست أخشاه لأني قد أمنت بروحك ملاذاً أبداً لروحي .. و تأكد بأني حتى لو رحلت عن عالمك سأظل العالم الوحيد الذي أتمنى لو أنك وحدك تعيش فيه .. و أريدك أن تبلغها هي الأخرى الجاثمة فوق صدر أيامك حيث تسكن كلماتي هذه لعلها هي الأخرى تعرف أية نهاية عليها تنشد .. لن أكون أنسانة الا معك .. لن أعيش الحياة الا عندما أراك وسألعن الأقدار..الآلهة..المعابد.. الشرائع التي تفرقني عنك.. تهت حينها في دوامة لا مجدية من التفكير .. كانت أعماقي تردد مع ذاتها أية قسوة أمتلكها هذه التي دمرت بها هذه البريئة والأخرى .. و أية سماء هذه التي لا ترحم .. ألم تفكر السماء بأنها عندما تخلقنا بتنوع شرائعنا ورغباتنا و تناقض أفكارنا ستجعلنا نعيش اللا توحد .. اللا أمان .. اللا استقرار .. و أننا إذا حاولنا تحدي سننها سنصطدم بكهنتها وشرائعها .. أية سماء أنانية هذه .. تضع نهاية لكل شيء .. و كأنها تظن بأننا يمكننا أن نرضى بحكمها المسبق .. كنت غارقاً في تفكيري هذا و لم أشعر بوجودها ألا و يدها ممتدة لتمسح دمعه تاهت عن قطيعها على وجهي .. نظرت أليها و قلت لها هل تبالين بالشرائع و أحكامها .. قالت دائماً نتمرد .. قلت إلى ماذا سيؤل تمردنا ..؟ قالت لاتجعلني أجيب .. أنت من عليه أن يجيب ولكنك كعادتك دائماً تحاول أن توجه السؤال الذي عليك الإجابة عنه للمقابل ..؟ ثم أضافت لكن متى كنت تبالي بالسماء وشرائعها ..؟ أما أنا فيك لا أبالي بشيء و لن أبالي .. ولاتنسى بأنه هناك في لا شعوري الآن يتردد جواب لا منطقي مؤلم لكنه حتى و إن كان قدراً لا مفر منه و لا يمكننني تحديه و مواجهته .. سأظل منك كما أنا وسأظل فيك كما كنت … قلت و كأن الأمر بعد تفكيرك ليلة أمس محسوم..؟ قالت لا.. لكنها الحياة .. التي قلت عنها في أول لقاء بأنها مجرد ألم و قد يكون هذه المرة الألم مني .. قلت إذا مصيري أبداً سيكون أن أعيش الغربة .. الغربة في كل شيء و كأن الاغتراب سنة لم تسنها السماء ألا لي أنا.. التيه .. الضياع .. اللا استقرار .. السفر .. حقيبتي .. أوراقي .. كتبي.. و ذاتي التي لا أجدها ألا في الوجع و الألم .. إذا الضياع الأبدي هو ما سيصير أليه مصيري ..؟ دمعت عيناها .. بكت .. ارتمت بأحضاني قبلت.. .. ثم أمسكت بيدي وخرجنا إلى الشرفة .. نظرت إلى المدينة .. قالت ألم تقل بأنها مدينة الأموات.. مدينة المقابر .. و هاهي تشهد الآن .. موتاً لا يعرف كيف يموت موت أكبر من كفنه المحاك له .. و أضخم من التابوت المعد له .. لكنه سيظل موتاً حياً في أعماقي ..!
قلت غداً سأرحل .. قالت أليها أعلم .. قلت فقط لأبلغها رسالتك .. قالت إذا ستجعلها تموت مثلي .. قلت بل .. لم تدعني أكمل احتضنت شفتاها شفتي .. و أسدل الستار على ذلك اليوم ..!
في صباح اليوم الذي تلى لقاءنا الأخير.. كنت أعد حقيبتي.. وبعد ان فرغت منها.. سمعت طرقاً للباب.. كان أحد العاملين في الفندق يحمل في يده ظرفاً وأعطاني إياه.. وعندما وقعت ورقة الاستلام.. قال بأنها تنتظر في الصالة.. ومضى بعد ما شكرته.. فتحت الظرف.. وإذا بالخط نفس خطها التي التقيتها قبل يومين.. لا اعلم لماذا أهملت أمر الأسطر.. ونزلت أليها.. وبعد حوار قصير.. ودعتني وقالت سأراك وسأتصل بك وسأرسل لك حتى إن لم تقبل هي... مضت.. وكأن الآلهة لا تريد أن اخرج من مدينة المقابر إلا جثة تحت أنقاضها.. صعدت الى غرفتي ولم تمضي سوى لحظات حتى جاءت.... قلت لماذا تأخرت..؟ قالت تعرف لماذا.. لاني أخشى أن لا تعود هذه المرة..! قلت لو كنت هنا قبل نصف ساعة أو اقل لشاهدت إحدى فصول المسرحية القدرية الجديدة التي تحاول السماء ذبحي بها.. هل كانت هنا..؟ أعطيتها الرسالة ثم أعطيتها الرسالة السابقة.. وقلت لها هذا الشيء الثاني الذي نسيت ان افعله يوم امس.. جلست على الكرسي المزروع وسط الغرفة.. قرأت.. نظرت إلي.. ستواجه مصيرك بنفسك.. هذا ما أقوله لك وفكر بما قلت.. قلت لها مصيري أضاعته السماء بين مصائر أعوانها.. فتاه مصيري كما تهت أنا.. لكني بأحضانك أكون موجوداً ولن اهتم بعد ألان مادمت ساجد ملاذي وملجأي هنا في هذه المدينة وبين أحضانك..قالت متى ستعود..؟قلت هل ستشتاقين..؟قالت هل تشك..؟قلت لا..ولن اشك سأعود عندما تناديني من أعماقك..قالت إذا أنا أناديك ألان من أعماقي..قلت والأخرى..؟ قالت نعم الأخرى.. عد إليها وبلغها سلامي.. لكن لا تنسى باني انتظر.. عانقتها هذه المرة.. ثم رسمت على جبينها….؟ أما هي فقد ضمتني وكأنها تريد صهر روحها في روحي لتتوحد.. ثم عادت لتحضن شفتاها…؟ وقالت لقد نسيت عندما قابلتك أول يوم ان أقول لك كل عام وأنت طفلي الأبدي.. لكنك تأخرت يوم كامل..كنت أريد أن احتفل بعيد ميلادك هذه المرة هنا.. وتقبل مني هذه الهدية البسيطة.. لن تفتحها الآن.. لكن عندما ترحل.. في الطريق.. قلت ماذا لو لم اقبل..؟ ابتسمت ستقبل.. وهذه أيضا قبلة…. وهي تقول كل عام وأنت بخير.. هل سترفضها هذه أيضاً..؟ قلت وهل ارفض الشفاه التي ردت الحياة لي..؟ أينسى الطفل ألام التي أرضعته..؟ ابتسمت.. قالت هكذا دع الحياة تعود لي.. لا تنسى سأكون بانتظارك.. خرجنا.. ودعت صديقي.. وأمام باب الفندق ودعتها.. وعدت.. أظنكم تنتظرون الطريق لتعرفوا ماذا كانت هديتها.. سأفتحها الآن.. الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد.. التوراة والإنجيل.. لكن ماذا يوجد لدي بعد..؟ كتاب آخر مغلف..مكتوب عليه بخط يدها القرآن الكريم.. إنها الشرائع قد أهدتني إياها في عيد ميلادي ومعها هذه الكلمات.. "لو أنه هناك كتاب آخر مثل هذه الكتب.. وألف شريعة أخرى مثل هذه الشرائع.. وكلها تنص وتتوعد على أن لا احبك.. سأكفر بها جميعاً فيك.